يمتلئ مدرج الكلية إلى آخره بالطلبة، قبيل موعد ندوة تناقش الأوضاع الحقوقية في البلاد. وبينما ينتظر الحضور اعتلاء المتحدثين المنصة، يفاجأ بضيوف غرباء عن المكان؛ عناصر متنوعة من أجهزة الشرطة بالزي الرسميّ والمدني على منصة المدرج، يتوسطهم مسؤولون أمنيون يعلنون منع النشاط الطلابي قبل ثوانٍ قليلة من وقوع عصي البوليس على رؤوس الطلبة، في اقتحام عنيف للمدرج وصفه مراقبون بـ"الحدث غير المسبوق" داخل الجامعة المغربية.
"كان هذا أكبر تعبير عن وضع الحقوق والحريات في البلاد"؛ يقول مسؤول في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، النقابة المنظِّمة للملتقى الطلابي الوطني، وهو يصف مشهد اقتحام قوات التدخل السريع لكلية الآداب في جامعة الحسن الثاني في الدار البيضاء، في 14 آذار/ مارس الجاري، لوقف أشغال ندوة في الملتقى الذي كان يُنتظر أن تسلّط نسخته السابعة عشر الضوء على واقع الحقوق والحريات في المغرب، إلى جانب البحث العلمي والقضية الفلسطينية، حسب بيان للاتحاد.
اعتبر المرصد الأورو-متوسطي لحقوق الإنسان ومنظمة إفدي الدولية، أن التدخل الأمني في حق الطلبة يُعدّ "انتهاكاً لحرمة الجامعة، واستهتاراً واضحاً من السلطات بالحقوق الدستورية الأصيلة للأفراد"
استمر منع الفعاليات الطلابية طوال الأسبوع، مع إعلان وقف الدراسة رسمياً في عدد من كليات الجامعة، وتواصلِ التدخل الأمني في حق الطلبة المشاركين في الملتقى الوطني بتدخل عنيف بلغ ذروته في يوم نعتته النقابة الطلابية بـ"الخميس الأسود"؛ إذ منعت السلطات الأمنية الطلبة من دخول كلية العلوم باستعمال "القوة المفرطة" في الشارع العام مخلّفةً إصابات بليغةً في صفوف الطلبة والطالبات على حد سواء.
كشف مصدر من داخل اتحاد الطلبة لرصيف22، أن حصيلة الإصابات التي خلّفها التدخل الأمني بحقهم يومي الثلاثاء والخميس، بلغت 250 إصابةً، منها 48 إصابةً بليغةً، و16 إصابةً على مستوى الرأس، و12 كسراً بالإضافة إلى 34 حالة إغماء، وهي أرقام أولية حسب المصدر ذاته.
"تدخّل غير مبرّر"
عدَّ المرصد الأورو-متوسطي لحقوق الإنسان، ومقرّه جنيف، الثلاثاء 23 آذار/ مارس، استخدام قوات الأمن المغربية العنف المفرط لمنع إقامة نشاط طلابي في الجامعة، بأنه "غير مبرر، ويعكس مستوى عالياً من القمع الأمني وتقويض الحريّات"، داعياً في بيان مشترك مع منظمة "إفدي الدولية"، ومقرها بروكسيل، إلى "فتح تحقيق فوري ومحاسبة المسؤولين".
واكتفى الناطق الرسمي باسم الحكومة المغربية مصطفى بايتاس، الخميس 16 آذار/ مارس، خلال ردّه على أسئلة الصحافيين حول الأحداث بالقول: "لم نتدارس هذا الموضوع في مجلس الحكومة"، كما لم يصدر أي تعليق رسمي من أي جهة حكومية أو جامعية وسط استنكار حقوقي ونقابي في المغرب.
استمر منع الفعاليات الطلابية طوال الأسبوع، مع إعلان وقف الدراسة رسمياً في عدد من كليات الجامعة، وتواصلِ التدخل الأمني في حق الطلبة المشاركين
بالرجوع إلى تاريخ الفعاليات التي نظمها اتحاد طلبة المغرب في العقد الأخير، نصادف أن جميع ملتقياته الوطنية باستثناء ملتقى "القدس" عام 2022 و"الملتقى الطلابي" عام 2023، لم تتعرض للمنع أو لهذه الحدة من العنف منذ عام 2013، حين اقتحم الأمن جامعة ابن طفيل في القنيطرة لكن من دون أن يمنع استمرار فعاليات الملتقى الطلابي، وهذا ما يطرح تساؤلات حول تزايد حالات منع الأنشطة الطلابية من قبل السلطات في الفترة الأخيرة.
تطبيق مذكرة وزارية!
قبل أربع سنوات، طالبت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في مذكّرة موجهة إلى رؤساء الجامعات بعدم الترخيص لأي جهة خارجية باستعمال مرافق الجامعة والمؤسسات التابعة لها، من أجل تنظيم فعاليات كيفما كان نوعها، مبّررةً قرارها في أيار/ مايو 2019، بـ"تفادي الصدامات التي شهدتها مؤسسات جامعية عدة في أثناء تنظيم تظاهرات داخلها".
يعدّ الحقوقي والمؤرخ المعطي منجيب، في حديث إلى رصيف22، أن منع الملتقى الطلابي تطبيق للمذكرة الوزارية المذكورة، وهو في الوقت نفسه "غير قانوني لأن المذكرة ليست دستوريةً"، لافتاً إلى أن وزارة التعليم العالي عندما أصدرت هذه المذكرة، "عرفت توجهاً في تدبير الجامعة يتماهى إلى حد ما مع رؤى مسؤولي الأمن المتوجسين من أي خطاب نقدي فكري أو سياسي، ولو اقتصر على الحرم الجامعي وانحصر بين جدران الكليات والمعاهد".
متى تساوى الطالب والمجرم؟؟#الملتقى_الطلابي_الوطني17#المخزن_يستبيح_الحرم_الجامعي pic.twitter.com/ilissgYExC
— الاتحاد الوطني لطلبة المغرب (@unem__net) March 21, 2023
ويوضح منجب أن المسؤولين المشاركين في بلورة القرار السياسي في المغرب، "يعلمون أن المؤسسة التعليمية الوطنية بالمعنى العام لعبت دور المفجّر لأزمات سياسية حادّة في البلاد، هدد بعض منها استقرار النظام، على شاكلة ما حدث في آذار/ مارس 1965، وكانون الثاني/ يناير 1984"، كما شهدت لعقود "ولادة أغلب الحركات المعارضة للنظام، اليسارية منها والإسلامية".
وكانت وزارات الداخلية والعدل والتعليم العالي قد أصدرت مذكرة منع الأنشطة والتظاهرات داخل الجامعات المغربية أواخر 1976، وفي عام 2014 صدرت مذكرة ثنائية مماثلة بين وزارتي التعليم العالي والداخلية لم توقف الفعاليات الطلابية، قبل أن تصدر المذكرة الأخيرة عام 2019.
يشدد المتحدث ذاته على أن اقتحام القوات الأمنية لمدرجات الجامعة وضرب الطالبات والطلبة المسالمين، "حدث غير مسبوق ولم يقع حتى في عهد وزيري الداخلية الجنرال محمد أوفقير وإدريس البصري"، في إشارة إلى فترة مظلمة في تاريخ الانتهاكات الحقوقية في المغرب، ويضيف: "من اتخذ قرار منع الملتقى يفتقد الحكمة والحس السياسي الضروري لتدبير المجتمع الطلابي، لأن الوسط التعليمي معروف بنقديته ومثاليته وحركيته في كل أنحاء العالم".
معركة سياسية
من جهته، يقول الحقوقي خالد البكاري، لرصيف22، إن منع نشاطات اتحاد الطلبة غير مرتبط بمذكرة وزير التعليم السابق "التي جرى تجاوزها"، بقدر ما هو "قرار سياسي مرتبط بخيارات الدولة في السنوات الأخيرة، الهادفة إلى تدبير الفضاءات العامة بالمقارنة الأمنية"، مشيراً إلى أن "تفسير أحداث العنف المفرط بحق فعالية طلابية، قد يجد منبعه في طبيعة الجهة المنظمة التي هي محسوبة على جماعة العدل والإحسان".
يُذكر أن الاتحاد الوطني لطلبة المغرب يسود مؤسساته منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي فصيل إسلامي يُعدّ الذراع الطلابية لجماعة العدل والإحسان المعارضة، والتي تعيش توتراً مستمراً مع النظام الملكي في المغرب، منذ عقود طويلة.
البكاري: "هو قرار سياسي مرتبط بخيارات الدولة في السنوات الأخيرة، الهادفة إلى تدبير الفضاءات العامة بالمقارنة الأمنية"
والمعروف أن السلطات المغربية، يضيف البكاري لم تعد تتسامح مع أي تعبير علني للجماعة أو مقرّب منها، "لأنه في الوقت الذي تم منع الملتقى الطلابي الذي يقف وراءه طلبة العدل والإحسان في البيضاء، جرى الترخيص لملتقى وطني طلابي آخر لطلبة منظمة التجديد الطلابي المقربة من حزب العدالة والتنمية في بني ملال، كما رُخِّص لمنظمة النساء الاتحاديات المحسوبة على حزب الاتحاد الاشتراكي بتنظيم مجموعة من الندوات في مواقع جامعية مختلفة"، ما يبيّن أن "السلطة قد اتخذت قراراً بخصوص منع الفعاليات المحسوبة على التنظيمات التي تنعتها بالراديكالية من قبيل جماعة العدل والإحسان وحزب النهج الديمقراطي والجمعية المغربية لحقوق الإنسان"، حسب المتحدث ذاته.
"غطاء التطبيع"
أما الحقوقية وعضوة الجبهة المغربية لدعم فلسطين وضد (ومناهضة) التطبيع، السعدية الولوس، فترى أن الانتهاكات بحق الطلبة هذا الأسبوع توحي بأن "النظام مقتنع بوجود غطاء دولي رسمي يحميه من أي تبعات نتيجة انتهاكاته الحقوقية"، لافتةً إلى أن "هذا برز منذ توقيع اتفاقيات التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي"، برعاية أمريكية في كانون الأول/ ديسمبر 2020.
تقول الولوس، في حديث إلى رصيف22، إن "معظم الفعاليات التي تناقش القضية الفلسطينية وترفض اتفاقيات التطبيع بشكل واضح صارت تُمنع منذ ذلك الوقت، كما أن ملتقى القدس العام الماضي في القنيطرة مُنِع في السياق ذاته"، لافتةً إلى أن "في اليوم الذي شهد تعنيف الطلبة بشكل مفرط كان من المقرر أن يُنظَّم مهرجان خطابي ضد التطبيع بمشاركة حقوقيين وناشطين في الجبهة المغربية لأجل فلسطين، والمرصد المغربي لمناهضة التطبيع".
يتفق الكاتب الوطني لاتحاد طلبة المغرب صابر إمدنين، مع كلام الولوس؛ إذ أشار خلال ندوة تواصلية الجمعة 17 آذار/ مارس الجاري، في تقديره السياسي إلى أن "من الأمور التي تعطي النظام الضمانات لينتهك حقوق الإنسان في المغرب ارتماءه في حضن الاحتلال الإسرائيلي"، مشدداً على أن الانتهاكات بحق الطلبة ومكونات المجتمع عموماً، وعدم استشعار خطورتها والانتباه إلى تداعياتها السياسية، "تؤكد أن النظام يعيش نشوةً وحالةً من الوهم بسبب التطبيع"، وفق رأيه.
انتهاك لحرمة الجامعة
تنظيمات طلابية ونقابية عدة مقربة من جماعة "العدل والإحسان"، ومن اليسار أيضاً، تحركت للتنديد بالتدخل الأمني إلى جانب تصدر هاشتاغ "المخزن_يستبيح_الحرم_الجامعي"، موقع تويتر منذ الجمعة الماضي، وندّدت فصائل ومنظمات طلابية وحقوقية ونقابية باقتحام جامعة الحسن الثاني في الدار البيضاء، وتعنيف الطلبة المشاركين في ملتقى اتحاد طلبة المغرب من قبل القوات العمومية.
وقال مكتب النقابة الوطنية للتعليم العالي في كلية العلوم عين الشق التي جرى اقتحامها أيضاً: "تم انتهاك حرمة الجامعة من طرف قوات الشرطة التي تدخلت بشكل سافر لقمع نشاط طلابي"، وأدان في بيان ما سمّاه "عسكرة الجامعة" معبّراً عن رفضه لهذه الأحداث باعتبار أن "الجامعة فضاء للعلم والمعرفة والثقافة والحوار الديمقراطي وليست فضاءً للعنف".
Casablanca:
— drici sofiane (@tintouche92i) March 16, 2023
Plusieurs étudiants blessés par force de l'ordre lors des manifestations#Maroc #المخزن_يستبيح_الحرم_الجامعي pic.twitter.com/LKryUuPm0y
وبدوره عَبّر فصيل طلبة اليسار التقدمي عن رفضه استباحة الحرم الجامعي معلناً تضامنه مع الطلبة المعنَّفين وإدانته أشكال العنف والحظر العملي على الأنشطة الطلابية، كما استنكرت منظمة التجديد الطلابي، المقربة من حزب العدالة والتنمية، الاقتحام الأمني لمؤسسات جامعة الحسن الثاني كونه "انتهاكاً سافراً لحرمة الجامعة"، مبديةً أيضاً رفضها لكل تضييق أو منع للمبادرات الطلابية.
ومن جهتها أشادت اللجنة الوطنية لطلبة الطب وطب الأسنان والصيدلة، "بالمستوى الذي عبّر عنه الطلبة المشاركون في الملتقى الوطني من خلال التزامهم بالسلمية وإصرارهم على نبذ العنف في دفاعهم عن حرمة الجامعة العمومية وتحصين مكتسباتها"، مستنكرةً المقاربة الأمنية في التعامل مع هؤلاء الطلبة "الذين مارسوا حقهم الطبيعي داخل الحرم الجامعي".
عَبّر فصيل طلبة اليسار التقدمي عن رفضه استباحة الحرم الجامعي معلناً تضامنه مع الطلبة المعنَّفين وإدانته أشكال العنف والحظر العملي على الأنشطة الطلابية
أما دولياً، فأكد المرصد الأورو-متوسطي لحقوق الإنسان ومنظمة إفدي الدولية، أن التدخل الأمني في حق الطلبة يُعدّ "انتهاكاً لحرمة الجامعة، واستهتاراً واضحاً من السلطات بالحقوق الدستورية الأصيلة للأفراد"، مع الإشارة إلى أنه "لا يمكن تفسير منع فعالية طلابية والاعتداء على المشاركين فيها سوى بوجود قرار سياسي بمصادرة الحريات، وإهدار حق الأفراد في التعبير عن آرائهم ومشاركة مواقفهم على نحو علني".
كما عبًر مجلس جنيف للحقوق والحريات عن "استهجانه لانتهاك حق الطلبة في التجمع السلمي وتنظيم فعاليات نقابية"، مطالباً الحكومة بعدم التدخل في العمل الطلابي و"محاسبة عناصر الأمن".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...