بأقدامهنّ الناعمة، كنّ يدُسن عناقيد العنب الموضوعة في جرن كبير، على إيقاع أهازيج المحتفلين الملتفّين في دائرة كبيرة حولهنّ، وعلى أنغام الفرح والسعادة، وفي صحة النبيذ دائماً؛ إنه الكرنفال، وهو مجموعة من الطقوس الدينية الاحتفالية. بهذا يشي كتاب "الطعام في العالم القديم"، لأستاذ الثقافة الإغريقية في جامعة إكستر، جون إم ويلكنز، والباحث والطاهي شون هيل، ويخصص حديثه أكثر عن القلمون، تحديداً قرية حلبون الواقعة على بعد 27 كيلومتراً من العاصمة السورية دمشق.
هكذا كانت الانطلاقة؛ من تحت أقدامهن المغمّسة بدم العنب، كان ينطلق العيد في سوريا قديماً، قبل الفتح الإسلامي، وقبل المسيحية، بل حتى قبل الرومان. هذا ما تقوله اللقى والآثار التاريخية التي لا تزال تُكتشف.
بعد ذلك، كان المحتفلون ينقلون العصير إلى المغر والكهوف حيث يُخزّن وفق شروط محددة للحصول على أجود أنواع الخمور التي تُعبّأ لاحقاً في أوعية جلدية، لتُرسل إلى أوروبا والعالم، عبر البوابة الرومانية.
وقد اشتهرت سوريا، منذ القدم، بزراعة العنب، إذ شكّلت تربتها الخصبة مع مناخها، حاضنةً أعطت أجود أنواعه. واستهلاك العنب في صناعة الخمور، منحه الأهمية تاريخياً. وكانت سوريا تُعدّ قديماً أهراء الإمبراطورية الرومانية، وخابية خمرها التي لا تنضب. لكن أحوال الكرمة ومنتجاتها تردّت كثيراً فيها، حتى باتت الأرقام شحيحةً جداً قياساً بما كانت عليه طوال تاريخها، فمتى حدث ذلك؟ وكيف؟ ولماذا؟
كان يُنقل العصير إلى المغر والكهوف حيث يُخزّن وفق شروط محددة للحصول على أجود أنواع الخمور التي تُرسل إلى أوروبا والعالم
هندسة فينيقية وقداسة رومانية
بفضل الهندسة المائية التي ابتكرها الفينيقيون، نشطت الزراعة حتى في الجبال، حيث حوّلوا تلك الجبال الجرداء إلى منجم للكرمة والزيتون، مستغلّين مياه ثلوج قممها كي لا تذهب هدراً.
لاحقاً، زعم الرومان الذين جعلوا سوريا مقاطعةً رومانيةً منذ العام 64 ق.م.، بأن "باخوس" إله الخمر في الميثولوجيا القديمة، هو من علّم الإنسان زراعة الكرمة، وحماها كما تقول الأسطورة، ثم جلب العنب إلى الشرق الأدنى. كانوا يقدّسون الخمرة التي منحهم إياها الإله باخوس، ويجلّونها. كانت تسري في شرايين إمبراطوريتهم كلها، وترافقهم في موائدهم، لذا دعمت روما زراعة العنب في حوض البحر المتوسط، لصناعة الخمر، وليكون نصيب المواطن الروماني منه مرتفعاً، فيتحقق "التوازن الاجتماعي".
لكن أحدث فحص للحمض النووي للعنب المزروع، لا البرّي، كشف أنه نشأ في تركيا قبل أكثر من خمسة آلاف عام قبل الميلاد، ومن هناك انتشر إلى بلاد الرافدين، كما تناولت دراسات أخرى نشأته في أرمينيا وجورجيا قبل انتقاله إلى مناطق أخرى.
دم المسيح القلموني
ذاع صيت الخمر القلموني قديماً، حتى أن حلبون البلدة السورية الواقعة في القلمون الغربي، ذُكرت في العهد القديم وتحديداً في سفر حزقيال/ الإصحاح السابع والعشرين، حيث ورد الآتي: "دمشق تاجرتك بكثرة صنائعك، وكثرة كل غنى بخمر حلبون والصوف الأبيض".
حلبون أو شاليبون، كما أسماها بطليموس، كانت تُصدّر الخمور إلى معاقل الإمبراطورية الرومانية كافة، وقد أولاها الرومان اهتماماً كبيراً، وحالياً تضمّ البلدة التي تبعد عن العاصمة دمشق 27 كم، من الآثار واللقى والمعاصر، ما يُثبت أهميتها اقتصادياً كمنتِجة للخمور، الأمر الذي استمر في العهد البيزنطي.
اعتنق أهالي سوريا من آراميين وعرب، المسيحية في ظلّ الحكم الروماني، والتي أبقت على قدسية النبيذ، كونه فرضاً دينياً. تقول التعاليم المسيحية إن المسيح وفي أثناء العشاء الأخير، ناول تلاميذه النبيذ وكسرة خبز: "خذوا كلوا هذا هو جسدي، اشربوا من هذا كلكم لأن هذا هو دمي". ومن يومها وحتى الآن، ما زال هذا الطقس قائماً في ما يُعرف بالمناولة.
كذلك اعتنق القلمون السوري الدين المسيحي بالكامل، وبالرغم من عدم الممانعة الدينية لإنتاج الخمور، إلا أنها شهدت تراجعاً ملحوظاً في معاصره. يقول المؤرخ والباحث نور الدين عقيل، لرصيف22: "سُمّي خمر القلمون في العهد الروماني بـ'خمور الهضاب'، لطيب مذاقه وجودته، وكان يُصدَّر إلى روما، لكن بعد انسحاب الرومان من المنطقة، قلّ الطلب، ليتراجع الإنتاج فبات إنتاجه مقتصراً على الاستهلاك المحلي كون منطقة القلمون بقيت مسيحيةً حتى القرن الثالث عشر."
دودة القزّ على الخط
بحسب كتاب "تاريخ سوريا الاقتصادي" لعلي الحسني، هناك أسباب إضافية دفعت بتلك الصناعة إلى التراجع، منها دخول دودة القز إلى سوريا على يد أحد الرهبان في عهد الإمبراطور جوستينيان، فأهملت روما أحوال زراعة العنب في القلمون، على حساب تنشيط زراعة التوت، لما لصناعة الحرير من إيرادات مجدية، ليحوّل القلمون جزءاً كبيراً من كرومه إلى بساتين توت.
كانت الخمرة تسري في شرايين الإمبراطورية، وترافقهم في موائدهم، لذا دعمت روما زراعة العنب في حوض البحر المتوسط، لصناعة الخمر، وليكون نصيب المواطن الروماني منه مرتفعاً، فيتحقق "التوازن الاجتماعي"
روما التي عانت من تمرّد يهود سوريا الذين رأوا فيها مستعمِراً حثّهم الوازع الديني لدفعها إلى الجلاء، لا سيما بعد فرض الرومان على الأهالي عبادة الأوثان، عانت أيضاً من الهجمات المتكررة للفرس والعرب على تخومها، بالإضافة إلى قلّة النسل والفساد الذي تسلّل إلى مفاصل الحكم في عهد نيرون، كما ورد في كتاب "تاريخ سوريا قبل الفتح الإسلامي" للكاتب أمين مصطفى خليفة.
في ظلّ ذاك التخبط، بدأت روما بفرض ضرائب مرتفعة أرهقت كاهل الفلاح السوري الذي آثر أن ينكفئ على أرضه، ليؤمّن كفاف يومه، من دون فائض يصنّعه، فيُنهَب من طبقة البطاركة، فلا خمر ولا زيت للتصدير، والحرير عملياً قد احتكر الرومان صناعته.
ويشير الكتاب إلى أنه "خبت خوابي الخمرة في القلمون، في حين بقيت هذه الصناعة نشطةً في جبل لبنان، حيث تحصّن الفلاحون من الطمع الروماني بصخور أراضيهم وموانعها الطبيعية. زيادةً على ذلك، ظهر الدين المسيحي الذي حرف قوافل الحجيج إلى القدس، والتي كانت تقصد الهياكل السورية الوثنية، لا سيما هيكل هيلابوريس الشهير، وكل ذلك أثّر على ترويج الخمور كما باقي السلع".
ويروي خليفة في كتابه: "تزامن هذا الكساد مع فرض الرومان على القوافل التجارية مكوساً جمركيةً، وصلت أحياناً إلى 25 في المئة من قيمة السلعة قبل دخول روما فقط لأنها سلكت طريقها عبر سوريا. في حين أن طريق الحرير المارّ من تدمر، لم يعد آمناً بعد أن أعلنت زنوبيا تمرّدها والتفرّد بالحكم، لينتقم أورليان من الأهالي بحرق الأراضي الزراعية وتخريبها، الأمر الذي زاد الطين بلّةً في كروم القلمون".
الدبس بديلاً شرعياً؟
جاء الفتح الإسلامي سنة 640 م، والبلاد في حالة مزرية زراعياً وتجارياً. بسطت الخلافة الراشدية سلطتها في المدن الكبرى في حين ظلّت الأرياف، ومنها منطقة القلمون مسيحيةً.
يقول عقيل، المشارك في بعثة جامعة كولومبيا الأمريكية للتنقيب في القلمون، إنه وبعد تغلّب الديانة الإسلامية على المسيحية في المنطقة، أصبح المزارع يصنّع الدبس بدلاً من الخمر، وبفعل انحسار الكثير من الموارد المائية، نتيجة الجفاف وقلّة الأمطار، تراجعت الصناعات المعتمدة على العنب: "أتذكر أن بلدة يبرود القلمونية، في نهاية النصف الأول للقرن العشرين، كانت تمتلك تسع معاصر، وأصبحت تمتلك اليوم اثنتين فقط".
بلدة يبرود القلمونية، في نهاية النصف الأول للقرن العشرين، كانت تمتلك تسع معاصر، وأصبحت تمتلك اليوم اثنتين فقط
لم يكن الدبس سلعةً مستحدثةً، فهو قديم قِدم الخمر، عرفه الإغريق علاجاً لبعض الأمراض، بينما استخدمه الرومان استخداماً غريباً؛ جعلوه طعاماً للبط والخنازير، ليحسّن بدوره طعم اللحم ويعطيه نكهةً مميزةً، كذلك استُهلك في تحلية النبيذ، وكانت النسوة الرومانيات يستعملنه لأغراض تجميلية.
لذا وإلى جانب النبيذ، خصّصت المعاصر قديماً قدراً من العصير لإنتاج الدبس، وكان يُغلى إلى حين يتكثف ويصبح دبساً، وكانت الأواني مصنوعةً من الرصاص، ليتفاعل معها فيزيد من حلاوته، وهذا ربما ما يفسّر حالات التسمم التي كانت تودي بحياة الرومانيين بفعل الرصاص السامّ.
انعطف دبس القلمون مع الوقت عن رحلة الخطوات الرومانية سابقاً، وبات العنب يُسحق وهو زبيب جاف، ثم يُخلط مع تراب كلسي اسمه "الحور"، ويُمزج بعدها بالماء ليُطبخ السائل حتى يتكثف، فيجمد في خابيته الفخارية بعد حين، ويغدو سلعةً لا تقلّ، اقتصادياً، عن الخمر، إذ قايضت به بعض البلدات القلمونية في ما مضى كالرحيبة، سلعاً نفيسةً.
أما اليوم، فتشكّل العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، عبئاً على الزراعة بشكل عام، وعلى زراعة الكرمة بشكل خاص، وذلك لنقص مادة الديزل، مما يعيق عملية الري، وكذلك تراجعت صناعة الدبس المحتاجة إلى تلك المادة حتى تدور المعاصر.
وتوقّع مدير زراعة السويداء، أيهم جامد، إنتاج 1،500 طن من دبس العنب لهذا العام في القلمون، ولفت إلى أن إجمالي إنتاج العنب لهذا الموسم يبلغ 54 ألف طن، يتوزع بين 13% لإنتاج الدبس، و10% لإنتاج الزبيب، بينما تذهب نسبة 37% لتصنيع الخمور، بحسب وكالة الأنباء الصينية شينخوا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين