صفاء ذهني، وهدوء، وانسجام، وراحة.
تجتاحني مشاعر إيجابية في كل رحلة خارج القاهرة. أحب استكشاف الأماكن الجديدة، وثقافات متنوعة. هذا ما حدث في رحلتي إلى برمانا اللبنانية، التي قضيت فيها أسبوعاً.
لكن يتغير كل شيء عند عودتي إلى القاهرة، بضجيجها ولهاثها، خاصة منطقة السيدة زينب المكتظة، محل سكني آنذاك، وتدور ذاكرتي عن كل شيء جرى في لبنان، وبمنطق سيكولوجي أنا لم أكن أطبق مبدأ "أنا هنا أنا الآن". فلم أكن هنا ولا الآن، وغرقت في حالة حزن شديدة لأيام لم أعرف سببها.
تكرر "الاكتئاب" ذاته عند عودتي من مدينة سياحية في جنوب سيناء.
تكرر "الاكتئاب" ذاته عند عودتي من مدينة سياحية في جنوب سيناء، قبل أسابيع، ودارت الذكريات مرة أخرى، كم كنت منتشية طوال الوقت، بدون أدوية مضادة للاكتئاب.
لم أبرح سريري طوال أسبوع، ومرت أيام كنت أنام فيها أكثر من 16 ساعة، وأكرهت نفسي على الخروج من سريري بعد أسبوع من وصولي، لزيارة طبيبتي النفسية.
فما الذي حدث معي، ولماذا، وهل أنا فقط من يشعر بتلك الحالة؟
ما افتقدته في القاهرة وشعرت به خارجها هو الإحساس بالأمان والحرية واكتشاف روحي في أبعاد نفسية لم أعتدها.
ولكن، يظل السؤال صعباً: ماذا بعد نهاية الرحلة، والعودة إلى ما كنت عليه؟
1 - محاولات فاشلة للتعايش
ظننت أن تلك حالة كانت تخصني وحدي، ولكني صادفت عدداً من الأصدقاء مروا بالحالة نفسها، مثل مها طه، وهي محررة علمية وكاتبة محتوى، شعرت بالأمر ذاته حينما عادت من ألمانيا، قالت: "كنت في رحلة لألمانيا قبل أربع سنوات وبعدما عُدت اكتأبت، بكيت طوال الطريق من مطار القاهرة إلى بيتي، وظللت لأكثر من أسبوعين رافضة الخروج من البيت أو مقابلة أحد".
كان تلك الرحلة الأولى لمها خارج مصر، وهناك اكتشفت ثقافة أخرى وعالماً آخر حيث رأت بحسب وصفها "كمية خضرة وشجر مبهرة لم أرها في حياتي".
تضيف مها بشاعرية: "تخيلي في الصباح، كنت في الطريق إلى مطار برلين المزروع كله شجراً، وفي الليل أكون على الطريق الدائري فوق عشوائيات والجو عابق بالأتربة والتلوث والعوادم".
بعد رحلتها، تغيرت نظرتها لمدينتها، أحست أن لها "ظلاً كئيباً على النفس، ولا يوجد بها براح".
جربت مها لأول مرة أن تخرج في تمشية مع أصدقائها حتى الثالثة فجراً دون مضايقات، وجربت أن تغني في الشارع بصوت عال أو تلعب على الترامبولين أو أن تنام ببساطة على الأرض في وسط حديقة عامة تستمتع بالطبيعة والسماء فوقها، ولكن ماذا بعد العودة، ونهاية الرحلة؟
ذكرتني كلمات مها بتقرير شهير في موقع نيويورك تايمز، بعنوان "مدينة لا يمكنك أن تسمع فيها صوت صراخك"، وقد خلص علماء بعد خمس سنوات من الدراسة إلى أن متوسط الضوضاء في القاهرة من السابعة صباحًا حتى العاشرة مساءً هو 85 ديسيبل، أعلى قليلاً من أن تكون على بعد 15 قدماً من قطار الشحن، وفي بعض مناطق وسط العاصمة، مثل ميدان التحرير ورمسيس، يمكنها أن تصل إلى 95 ديسيبل.
جربت مها لأول مرة أن تخرج في تمشية مع أصدقائها حتى الثالثة فجراً دون مضايقات، وجربت أشياء لم تجربها في القاهرة، مثل أن تغني في الشارع بصوت عال أو تلعب على الترامبولين أو أن تنام ببساطة على الأرض في وسط حديقة عامة تستمتع بالطبيعة والسماء فوقها، تراها، وليست أبراج الطوابق الإسمنتية.
2 - الهروب
إحساس الحرية ذلك جربته داليا، وهي أم لطفلين، ودفعت لأجله الكثير، فهي لم تكن تبحث عن الحرية فقط بل أيضاً عن واقع مختلف وأفضل، الأمر الذي جعلها تجد في السفر خارج مصر متنفساً لها.
عاشت داليا طفولتها في السعودية، وكانت تزور عائلتها في الإسكندرية من وقت لآخر، تحب بيتها القابع بجوار البحر وكانت المدينة أكثر هدوءا وبساطة من الوقت الحالي إذ أصبحت مثل القاهرة في زحامها وكآبتها -بحسب داليا- لكنها اضطرت إلى السفر للقاهرة للدراسة ثم استقرت فيها لعدة سنوات.
في كل مرة كانت داليا تسافر للخارج تعود بحالة غريبة، فاليأس والإحباط كانا يلازمانها حينما تدخل الطائرة المجال الجوي للقاهرة. تقول إنها حتى لو كانت مسافرة إلى السعودية فعند عودتها تدخل في حالة حزن وضيق وتعب نفسي، وتقضي عدة أيام حتى تتأقلم، فهناك لم يكن يضايقها أحد، رغم كونها في بلد عربي من المفترض ألا يختلف كثيراً عن بلدها.
وعندما سافرت إلى أوروبا فكان الوضع أسوأ عند عودتها.
تسكن داليا في منطقة الرحاب، وهي مدينة حديثة بنيت على أطراف القاهرة، تتمتع بنظام أمني مختلف، وحالة من الخصوصية الشديدة، وتناسب أبناء الطبقة المتوسطة- المرتفعة والطبقة العليا، مما يجعل الكثير من المضايقات والمشكلات غير موجودة بها، كما تعزز مطالبها في ألا تسكن في منطقة مليئة بالأبنية ومزدحمة.
لم تشكُ داليا الحالة التي تصيبها عند عودتها للقاهرة إلى طبيبتها النفسية مثلي، فهي تخبرها فقط بالأشياء التي لا تبدو لها منطقية، أما هذه الحالة فهي بالنسبة لها منطقية؛ فطبيعي أن تشعر عند عودتها بالحزن والخوف، وتعرف أن الأمر مسألة أيام وستتأقلم ثانية.
غيرت رحلاتها المتكررة خارج مصر من تفكيرها، فقررت الانتقال والإقامة في النمسا، والآن تمثل مصر والقاهرة تحديدا بالنسبة لها فرصة لرؤية عائلتها وأصدقائها، وتناول الأطعمة التي اشتاقت إليها، أما عن النمسا فتؤكد أنها سعيدة بها رغم ما تواجهه من مصاعب هناك.
ذكرتني داليا بالعديد من الأصدقاء الذين غيرت الرحلات من إحساسهم بأماكنهم، فاستبدلوها إما بمدن شبه سياحية مثل الفيوم وسيوة وسانت كترين، أو مغادرة مصر نهائياً.
3 - الحلم بالسفر مرة أخرى
كنت أظن أن تلك الحالة تخص النساء وحدهن، لأنهن يبحثن عن الأمان والحرية والابتعاد عن المضايقات والأحكام المجتمعية المسبقة والتدخل في مساحتهن الخاصة، لكن وجدت أن صديقي محمد (اسم مستعار) وهو منتج محتوى من نفس فئتنا العمرية، الثلاثينيات، يمر بنفس الحالة عند السفر، إلا أنه في بعض الأوقات يشتاق للعودة إلى البيت، وأحياناً كان يكره بعض السفريات.
وجرب محمد ذلك الإحساس مؤخراً، عند سفره إلى دبي، يقول: "شعرت أنني إنسان حُر وآمن ومشيت في الشارع بحرية ووجدت شوارع نظيفة، وأكلاً نظيفاً، ونظاماً في كل شيء، ولم أسمع أحدهم تجاوز بلفظ جارح"، ويضيف مازحاً: "وشي نوّر وأنا هناك"، وهو تعبير دارج يقصد به أنه ازداد إشراقاً.
أما عن إحساس العودة إلى الواقع أو القاهرة تحديداً، فشبهه أحمد بـ"كما لو كنت شخصاً أخذ دش وتأنق للغاية وفجأة سقطت عليه سيارة قمامة، وجلس يسب ويلعن اليوم الذي سار فيه بجوارها".
لم يتأقلم محمد بعد عودته من دبي، ولكن عليه التعامل مع الوضع الحالي، ويتمنى الرجوع مرة أخرى.
العلم بيقول إيه؟
العديد من مدونات السفر تخبرنا عن اكتئاب ما بعد انقضاء الإجازة أو العودة من السفر أو العطلة، وتسميه Post Travel Depression، لكن نهال زين، وهي أخصائية نفسية، ترفض وصف الحالة بـ"الاكتئاب"، وتقول: "كي نطلق على حالة نفسية هذا اللفظ لا بد أن يتم إجراء اختبار معين، وأن تستمر تلك الحالة لمدة تتخطى الأسبوعين".
بحسب نهال، هذا المصطلح "اكتئاب ما بعد الرحلات" غير موجود في المصطلحات التشخيصية التي يعملون بها كأطباء نفسيين، أي ICD وDSM، وهما من الأدلة الأمريكية والبريطانية، لكن سيتم التعامل مع الحالة كما يتم التعامل مع الاكتئاب بدءاً من الحالة البسيطة حتى المتوسطة فالقصوى، والأخيرة تتطلب علاجاً دوائياً والنوعان الأولان سيكون التعامل معهما وفق مدارس العلاج النفسي بدون دواء.
بحسب خبيرة، لا يوجد شيء علمي اسمه "اكتئاب ما بعد الرحلات"، يمكن أن نسميه "حزناً"، يمكن التغلب عليه بممارسة مهارات التكيف والتأقلم... فهل شعرتم بالحزن يوماً بعد عودتكم من رحلة ما، وهل تتفقون معها؟
وفضّلت نهال أن تسميه "حزناً"، ويمكن التغلب عليه بممارسة مهارات التكيف والتأقلم في المحن والأزمات، ومهارات تنظيم المشاعر.
والتكيف هنا لا يعني الموافقة على مساوئ الوضع الحالي وعيوبه بل الحفاظ على الحالة النفسية متزنة في مواجهة هذه المحنة حتى يستطيع الشخص السفر أو الهجرة أو حتى البقاء في نفس المكان.
مدونة السفر Go Abroad تقول إن تلك حالة شائعة عند المسافرين، فالصدمة الثقافية التي رأيتها ستصعب عليك التأقلم عند العودة إلى مدينتك وثقافتك التي اعتدتها، والتي يكون من أعراضها النوم كثيراً أو الأرق، ومشكلة في التركيز على المسؤوليات اليومية مثل العمل أو الدراسة، وتجنب مغادرة المنزل وقضاء وقت طويل في التفكير للانتقال للخارج فوراً، وتغيرات مفاجئة في الشهية أو الوزن وغيرها.
أما عن التعاطي مع هذه الحالة، فتوصينا المدونة بأن نقرأ عن الصدمة الثقافية العكسية، وأن ننخرط أكثر في مجتمعنا المحلي بغية اكتشاف أماكن جديدة والتواصل مع الآخرين، واستكشاف الذات أو التخطيط لرحلة أخرى حتى لو كانت بعد فترة. هذه الخطوة ستمنحك شعوراً مطمئناً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.