بين سحر الرحلة وجمال الطبيعة يمر الوقت وتختفي الأزمان مبددة معها حواجز المكان. هكذا أشعر بين دفتي كتاب أدب الرحلات. خبرة معتقة بالتجربة وحسن الوصف تحكى لنا الدروس وتهدينا المتع لنلتقطها نقية عابرة سهلة دون أن تعكرها عثرات الطريق بصعوباته وأهواله. رحلة بدأها الكاتب بالتعب والمشقة أشرب ماءها في ساعات متمهلة أنتظر.
أدب الرحلات مسمى واسع يندرج تحته الكثير من الكتب والتجارب ويتسع ليحوي الكثير من الأسماء بداية من ابن بطوطة مروراً بتشارلز داروين وإرنست همنغواي وحتى نجيب محفوظ. كل كاتب له تجربة خاصة. وحمل عصرنا الكثير من التجارب الأخرى الجديدة التي تجعلني أتساءل هل ما زال أدب الرحلات يستهدف نقل المعلومات والحقائق من خلال مشاهد حية أم أصبح يركز في المقام الأول على التسلية والإمتاع؟ وهل هناك تعارض بين الاثنين أم أنها عناصرُ يكون اكتمالها ضرورياً لتحقيق المتعة للقراء؟
وجبة معرفية تمتلك متعة السرد
ثمانية كتب قدمها الكاتب العراقي باسم فرات في أدب الرحلة٫ لذلك لديه تجربة خاصة في كل رحلة ويجد أن المعلومة هي المبدأ الأول الذي يجب أن يضعه الكاتب في اعتباره ويجب أن يقدم وجبة متكاملة لقرائه. يقول لرصيف22 عن ذلك: "أدب الرحلات هو سيرة مكانية بطلها الرحالة نفسه، ومن خلاله نقرأ سيرته ورؤيته للمكان مثلما نقرأ المكان جغرافيًّا وتاريخياً وثقافياً أي اجتماعياً وإناسياً "إنثروبولوجياً" فهي وجبة معرفية بلغة أدبية تملك روح السرد ومتعته، والخيال له دوره الواضح ولكن لا يتنازل عن الدقة العلمية فيما يذكر من معلومات جغرافية وتاريخية".
في كتابه "زول في بلاد السماحة... من بابل إلى كوش" نذكر حديثه عن الكنداكات، وهن النساء اللواتي كان لهن دور في الحياة السياسية في السودان القديم، وهن أمهات أو زوجات أو أخوات أو بنات الملوك، وبعضهن كنّ حاكمات وأقرب للملكات٫ لهن صلاحيات كبرى وقدن معارك، ولأن التعريف بهن تعريف بجزء مهم من هوية السودان، بدورهن وتأثيرهن السياسي والعسكري، بل وحتى ما تتميز به أزياؤهن، ولكي لا يقع في مطب السرد التاريخي المجرد أو التقرير الصحافي المباشر، اختلق حيلة فنية لتمرير السرد التاريخي بصيغة سرد فني لا يخرج عن نطاق أدب الرحلات ويُلامس السرد الروائي قليلاً.
هل ما زال أدب الرحلات يستهدف نقل المعلومات والحقائق من خلال مشاهد حية أم أصبح يركز في المقام الأول على التسلية والإمتاع وهل هناك تعارض بين الاثنين؟ أم أنها عناصر اكتمالها ضروري لتحقيق المتعة للقراء؟
"أول وصولي للسودان، خرجنا نستكشف أسواق مدينة "أم درمان" مع الصديقة المقربة لنا السيدة "خالدة يسن "ياسين" النور"، فشاهدنا عريسًا وعروسه يتسوقان، وسبب معرفتي بحداثة عرسهما أن الحناء تزيّن يَدَي وقَدَمَي العروس، وكانت النقوش مبهرة بالنسبة لي أنا القادم الجديد للسودان، والسودانيون يتفننون بنقوش الحناء على اليدين، نقوش تستحق الدراسة وإبراز ما يكمن خلفها من تراث ثقافي موغل بالقدم والأصالة. كانت ردة فعل العروسين إيجابية للغاية، وشعرتُ بسعادتهما بما انتابني من دهشة، وبعد ذلك مباشرة أخبرتني السيدة "خالدة ياسين" بأنهم يتفننون بالنقوش وسأرى مستقبلًا نقوشًا أخرى، وبفضل هذه السيدة حضرتُ أكثر من عُرس، مثلما حضرت حفل ختان أطفال يتصلون بنسب بها".
"وعلى ذكر العُرس، فإن طقوس الزواج في السودان بخطوطها العامة تشبه طقوس الزواج في العراق والبلدان العربية الأخرى، تبقى التفاصيل الدقيقة تختلف في جزيئياتها، ليس من بلد إلى آخر بل بين مناطق البلد الواحد نفسه، وهو ما نراه واضحًا في السودان والعراق ومصر وسورية وبقية البلدان العربية. فلا زواج بدون زيارة أهل "العريس" لأهل "العروسة"، وبقية الخطوات المتبعة في الأعراس العربية قاطبة، حتى أن تجربتي في السودان على امتداد ستة أعوام أرتني التشابه المذهل بين العراق والسودان".
الجانب الإنساني المتروك
الكاتبة المصرية سامية علي لها تجربة مختلفة قدمتها في كتابها "
ناماستي" عن الهند وقد صدر عام 2017، وتقول عن أدب الرحلات وتجربتها في الكتابة عن دولة الهند: "في أدب الرحلات سرد معلوماتي إنساني دقيق، وجانب ترفيهي من خلال تجربة الكاتب الشخصية التي ليست بالضرورة أن تكون متشابهة مع تجارب الاخرين، في كتابي "ناماستي" رأيت الهند كلوحه مليئة بكل الألوان والاختلافات والتنوعات، هذه اللوحة كما وصفتها "سوف تأخذك بعيدًا بعيدًا، وربما تضيع وسط تراكم المشاهد المبعثرة، فتري نفسك تشاهد بقرة تسير بكل حرية في الشوارع وتستريح حيثما تريد، وبأي مكان تختاره، ولا تستطيع التذمر من المشهد، أو حتى تعطيل الطريق. وقد تشاهد أيضًا مشهدًا لعربات تجرها الثيران او البشر، وربما تصدمك عربة "ريكشا" مسرعة، أو تستقلها لتسير بك وسط زحام المدينة الشديد، كل هذا التنوع والصخب لن يشعرك بالملل وستجد الكثي لتعيشه وتختبره وتكتب عنه".
ثمة أمور بالحياة لا يكفي قط أن تسمع عنها أو تشاهدها عبر ناشونال جيوغرافيك، كالسفر الذي يحمل سبعة أسرار، أهمها على الإطلاق إنك ترى، لا شيء يضاهي رؤية الأشياء والشعوب والثقافات والتقاليد والعادات وروائح التوابل والشوارع والمعابد والبشر من عرقيات مختلفة
"ثمة أمور بالحياة لا يكفي قط أن تسمع عنها أو تشاهدها عبر ناشونال جيوغرافيك، كالسفر الذي يحمل سبعة أسرار، أهمها على الإطلاق إنك ترى، لا شيء يضاهي رؤية الأشياء والشعوب والثقافات والتقاليد والعادات وروائح التوابل والشوارع والمعابد والبشر من عرقيات متباينة ومختلفة، السفر رحلة في الزمان قبل المكان، وكأنك تتغذى على المخزون الروحي للأرض، وتهب لروحك فرصة لا تعوض لأن تعيش مرات ومرات، الهند هي لوحة جميلة مليئة بكل الألوان المبهجة التي تؤسر حواسك. بلد محب للحياة والألوان. وهذا ما يجعلها بلداً أكثر إشراقاً. يحب الهنود ارتداء الملابس الملونة المبهجة، ويقولون إن ارتداء الملابس الملونة يشعر المرء بمزيد من الثقة. ولا يفضلون الملابس السوداء".
وفي كتابها "
المدينة البيضاء" الصادر عام 2021، تنقل الكاتبة جانبًا آخر من أدب الرحلات وهو جانب إنساني، مغامرة عاشتها من خلال تجارب مختلفة نقلتها في قالب اجتماعي مشوق يقوم على بنيان الحكي والنقل للوقائع والقصص، ومن ثم استطاعت أن تنقل تجارب عدة تجعل القارئ يتأرجح بين البكاء والضحك والتعاطف.
"المدينة البيضاء حالة وليست مكانًا؛ حالة من الشجن الشغف، حالة من الحنين لذكرياتك وذكرياتك الآخرين، أحلامك وأحلام الآخرين... وطنك ووطن الآخرين، عمان حضن وليست عاصمة، حضن كبير للغاية، يتسع للجميع، يربت عليهم، ويواسيهم، ويخبرهم برقة شديدة أنهم ليسوا بمفردهم وسط هذا العالم، المدينة البيضاء رحم تلدك من جديد، والسطور داخل رحلتي شاهدة على ذلك، واهداء مني لاستضافته الطيبة".
"الأردن جمعت شملًا جميلًا فصارت كحديقة تنوعت فيها الزهور والورود بشتى أشكالها وألوانها؛ لا بل إنه بستان يشد إليه النفس الطيبة ليستظل المرء بظله مستنشقًا عبيرًا ممزوجًا بعطور من جبل لبنان، ومن ياسمين دمشق، وعبق نخل العراق، وريح نيل مصر العظيم، وعبق من تاريخ فلسطين المقدس، وأصوات سنابك خيل الفاتحين".
لا غنى عن المتعة
الكاتب والناقد والأستاذ الجامعي بكازبلانكا شعيب حليفي تحدث عن التطور الذي حدث في فن أدب الرحلات مع العصر الحديث وقال لرصيف22: "أدب الرحلة متجذر في الثقافات الإنسانية، وبقدر ما هو حاسم في نقل وتبادل التجارب بين الشعوب، هو أيضًا فرصة لتكوين الذات بالمعارف العيانية من مشاهدات والوقوف على أحداث. ومع التطور الذي تعرفه البشرية، فإن أشكال التعبير كما أشكال العيش، تتبدل وتتخذ طرقًا جديدة، وهو ما حصل على مستوى الشكل للرحلة ووسائلها، وأيضًا في طريقة صياغتها ومضامينها. لكن أهم عنصر في الذي لم يتغير هو المعلومة، أو بتعبير أدق المعارف المكتسبة وهي ثقافية متنوعة تعكس تفكير وحياة الناس في جغرافيات مختلفة، كما تعكسُ في الآن نفسه المتعة التي ينقل بها المسافر الجزء الممتع والعجيب والمختلف والقابل للمقارنة".
وأضاف: "لذلك، فإن الرحلات في العصر الحديث، سواء كانت كتابًا ورقيًا أو محتوى إلكترونيًا أو صورًا أو شريطًا بصريًا، فإنها تقدم الاثنين، المعلومة والمتعة لأنهما شرطان أساسيان لكل رحلة يبغي أي قارئ الاستمتاع بها والتزود بمعارف مختلفة عن الآخر في عاداته وعيشه وسلوكه وكل ما يتعلق بثقافته. ولا تعارض بين المتعة والمعرفة، فهما عِماد كل إبداع وشرط تحقق القراءة والتواصل".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.