شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"على هواك" يطرح توفيق الجبالي موقفه من المرحلة الراهنة في تونس

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 28 أبريل 202301:23 م

بمجرد أن تطالعك المسرحية بعنوانها البارز "على هواك"، تعتقد أن الهوى سيكون شكسبيرياً (نسبةً إلى مسرحية شكسبير التي تحمل العنوان نفسه: As you like it). لكن منذ اللحظات الأولى التي تجمعك بالعمل، تدرك أنك على موعد مع هوى الفنان والكاتب والمخرج التونسي المجنون توفيق الجبالي.

على هوى المسرحي صاحب العين التي ترصد وتلتقط كل شيء، وتعيد عجنه وتشكيله بمذاق خاص ورؤية فريدة، وُلدت مسرحية مدهشة استحضر فيها الجبالي بذكاء كبير خيبات البلد "تونس" كلها وأوجاعه وجروحه، وأخضع خلالها مرحلة ما بعد الثورة التونسية برموزها كلها، سواء السياسية أو الثقافية أو الحقوقية وحتى المجتمعية، للتشريح الذي لا يخضع لضوابط ولا لحدود، سوى لهواه المجنون، وطرحها على المسرح مستعيناً بالآلات الموسيقية التي حضرت كجسد للعرض لا كمكمّل له، وبروح هزلية تجعلك تضحك وأنت إزاء أحلك المواقف.


إنها كوميديا سوداء عرف المسرحي التونسي كيف يعجنها ويقدّمها على الخشبة عن طريق مجموعة من الممثلين الذين تتلمذوا على يديه وفي فضائه الخاص "التياتر".  مسرحية "على هواك"، لم تحمل هذا الاسم اعتباطاً، فهي حتماً حملت رؤى الجبالي وأفكاره وتالياً هواه، ولكن الثابت أن المسرحي التونسي الكبير الذي راكم تجربةً تتجاوز الثلاثة عقود، قد اختاره بعناية ليقول لرفيقة دربه المسرحي والحياتي زينب فرحات، التي رحلت قبل سنتين، إنه باقٍ على هواها، لا سيما أن العمل هو هدية لروحها كما أكّد.

على هوى المسرحي صاحب العين التي ترصد وتلتقط كل شيء، وتعيد عجنه وتشكيله بمذاق خاص ورؤية فريدة، وُلدت مسرحية مدهشة استحضر فيها الجبالي بذكاء كبير خيبات البلد "تونس" كلها وأوجاعه وجروحه

وفي مسرحية "على هواك"، التي عُرضت منذ أسابيع بشبابيك مغلقة، طرح توفيق الجبالي موقفه من قبح المرحلة الراهنة في تونس، منذ انبلاج الثورة، بمنتهى الجرأة والسخرية ومن دون أن يستثني أحداً من سياسييها ومثقفيها ولصوصها وقتلتها وتجار الدين فيها. لم يحاول أبداً تجميل ما جرى ويجري، وأوغل في عملية التشريح وكأنه يقول لا سبيل لأن نقابل القبح المحيط بهذا البلد من كل حدب وصوب، بالجمال أو بالتزييف. وحتى عندما استدعى الموسيقى كمكوّن رئيسي، وكجسد قائم على المسرح، لم يكن الهدف تخفيف ثقل المشاهد الموغلة في السخرية والنقد، بل ليكون قصف كل من أذنبوا في حق هذا البلد وأنهكوه، قوياً عميقاً وغائراً بحجم ذنوبهم التي لا تُحصى ولا تُغتفر.

يقول الجبالي، في تقديمه للعمل: "تهدف التجربة إلى البحث في الكيان الموسيقي، ما يدعم الخبرة المسرحية وما يتاخمها من مشاعر ولغات تتجانس في وضعياتها. إنه مسرح الآتي بالضرورة وليس مسرحاً موسيقياً بما يتيح إلغاء مفاهيم السرد والشخصية والتمثيل والأداء الموسيقي".


ويضيف: "الموسيقى كفن يفترض أن تكون شرفتنا على العالم في كونيته وشموليته وروعته. نحن ندوس بها على أكثر الأشياء قداسةً، بأناملنا العازفة بلا روح وحناجرنا المحشرجة لأصوات أقرب إلى النحيب والعويل تحت مسوغ 'التطريب'. ندوس على العناصر الأساسية لتعريف الموسيقى كفن حمّال لسلّم قيم جمالية لا تنضب منقلبة على ذاتها ومحيطها باستمرار". أي أن الجبالي قد تعمد المضي إلى هذا الاختيار لكسر العلاقة القائمة بين الموسيقى والمسرح في العروض المسرحية، حيث جعل الموسيقى منخرطةً كلياً داخل العرض ومصاحبةً للأداء المسرحي من اللحظة الأولى حتى النهاية، وتالياً أخرج الموسيقى من دورها التقليدي كمكمّل إلى جزء رئيسي من الفعل المسرحي.

ومن خلال هذا الاختيار، يكون توفيق الجبالي قد استدعى تجربةً رائدةً في المسرح، هي المسرح الموسيقي أو المسرح الآلاتي الذي يُعدّ المؤلف الموسيقي الأرجنتيني المولد والألماني النشأة موريسيو كاجيل Mauricio Kagel أبرز روّاده على الإطلاق، فهو أول من توجه صراحةً إلى المسرح الآلاتي وأول من قرر فعلياً التخلي عن فكرة الموسيقى كمكمّل للعرض أو كخلفية له، وجعل من الآلة الموسيقية جسداً مرئياً ومسموعاً على المسرح في الوقت نفسه، وكسر فكرة الاستماع فقط إلى الموسيقى على خشبة المسرح. ومع كاجيل، تحولت الموسيقى إلى عنصر أساسي من سينوغرافيا العرض المسرحي، وأصبحت الآلة الموسيقية تؤدي دوراً فعلياً داخله، وأصبح العازف هو ذاته الممثل. وبهذه التجربة انتقد المبدع الأرجنتيني الألماني على وجه الخصوص نظام الحكم في بلده الأم الأرجنتين، ولاقت أعماله نجاحاً كبيراً، وتلقّف عدد من الفنانين والمؤلفين تجربته هذه.

ويبدو أن توفيق الجبالي قد أراد شقّ هذه الطريق الصعبة، ونعني استدعاءه للآلات الموسيقية كعنصر أساسي في العرض المسرحي، لسببين؛ الأول إيماناً منه بأنه إزاء واقع سياسي وثقافي واجتماعي موبوء يحتاج إلى تجربة غير تقليدية لقصفه وتشريحه وتعريته تماماً، وثانياً يبدو أن الجبالي أراد أن يطرح أفكاره من مداخل الفنون كلها، الموسيقى والشعر والمسرح، ليكون العمل لائقاً بروح شريكة دربه الراحلة زينب فرحات.

والمسرحية تجعلك تشعر حيناً بأنك داخل متاهة لا تنتهي، حيث مأساة شعب داهمته ثورة تلقفها اللصوص وتجار الدين سريعاً، وعاثوا فساداً في كل شيء، كما تجعلك تشعر بأنك في الحقيقة لست إزاء وجع بلد بعينه، بل أنت أمام شقاء قسم كبير من هذا العالم. والفريد في هذا العمل، أن الجبالي قد حشد الفنون كلها ودمجها ليضعنا أمام سلسلة من المحطات القبيحة التعيسة المبكية، لكنه في الآن ذاته يجعلك تضحك طويلاً.

يقول الناقد المسرحي حاتم التليلي المحمودي، إن "العرض برمّته أشبه بمطبخ عمومي تُسلخ فيه تلك المسوخ، ومن ثم تُرمى جلودها كريهة الروائح على الركح، وهذا ما يجد له تمثيلاً منذ مشهد العميان الذين ظهروا متباهين بخرابهم وانتمائهم إلى الحضيض الوطني. ها هو الأول من طينة الفحوص الشرجية حيث يعلق وطن بأسره في قضايا ثانوية باسم الدفاع عن الحريات، والثاني من فصيلة حراس السماء حيث كان المسخ الإسلامي يهشّ بعصاه الجموع الرافضة صوم رمضان، ويلاحقهم من مقهى إلى آخر، وها هو الثالث من فصيلة 'كلاب فلاسفة الثقافة' حيث أصبح الفيلسوف مبشراً بالقيامة ومتحالفاً مع الإسلاميين ومشاركاً في تلميع صورة الإرهابيين المسافرين إلى بؤر التوتر، وها هو الرابع من الذين حملوا اللهب وأوقدوه في أجساد الناس في باب سويقة حيث استوت النار عقاباً إلهياً ضد كل من يخرج عن دين الإسلاميين. هؤلاء هم نموذج من المسوخ السياسية الذين جمعهم لهيب الرغبة في تشغيل الانحطاط العمومي، وهؤلاء هم أيضاً الخائفون من قوى مضادة لا تقلّ عنهم سفالةً وانحطاطاً من قبل المفروزين أمنياً إلى غربان الخيمات الدعوية، وصولاً إلى سفراء الحملة التفسيرية باسم الرئيس الجديد".

وأضاف: "إن مسرحة هذه الأشكال السياسية بتمريغها في الوحل الفرجوي إلى حد رسمت فيه على نحو الجثث الميتة التي يقتات منها الذباب الأزرق، ما هي إلا علامة جذرية على خصي وجودها السياسي، فهي مؤهلة أكثر من أي وقت مضى لمغادرة ركح الحياة، ولهذا فإن التنكيل بها جاء محفوفاً بغير قليل من استدعاء ذاكرة المشاهد، حيث تم تذكيره بجملة الوقائع المريعة التي تم توقيعها في الفضاء العمومي. هكذا ينزاح الألم، ينزاح عبء المسوخ، ينزاح خراب البلاد، ينزاح القيح الذي ينزّ من الغيم الممطر، وينزاح الجميع إلى الركح الضاحك بتوقيع من المخرج الضحوك، وبتوقيع من المؤدي الذي ضرب بمناهج التمثيل المتعارفة عرض الحائط، بتوقيع مشهدية العرض المتهكمة، اللا مبالية بإمكانية نقدها نقداً علمياً أو أكاديمياً. وهكذا أيضاً يصبح التخريب هو ما يقاوم الموت، وهو ما يقاوم المعادلة القائمة، وهو ما يقاوم الصمت أمام رؤوس الرعاة المذبوحة في الجبال حيث فصلت عن الأجساد ووُضعت كما توضع لحوم الخرفان في الثلاجات".

المسرحية تجعلك تشعر حيناً بأنك داخل متاهة لا تنتهي، حيث مأساة شعب داهمته ثورة تلقفها اللصوص وتجار الدين سريعاً، وعاثوا فساداً في كل شيء، كما تجعلك تشعر بأنك في الحقيقة لست إزاء وجع بلد بعينه، بل أنت أمام شقاء قسم كبير من هذا العالم

وينتهي العرض، ولكن لا يُسدل الستار أبداً، فالحكايات لا تنتهي والمدينة الفاسدة المريضة العليلة لم تلفظ أنفاسها بعد؛ ما زال فيها مكان للحب والموسيقى والشعر والحياة. وفي الأثناء يكون توفيق الجبالي، الفنان الساخر والعبثي، قد نجح أيضاً في أن يُخرج جيلاً جديداً من الممثلين من رحم ذاكرة مسرح التياترو، ومن روح أسماء كبيرة صنعت ربيع هذا المسرح وقدّمت من خلاله أبرز الأعمال المسرحية وأنجحها على الإطلاق، وأكثرها رسوخاً في الذاكرة التونسية.

ويبدو أن الجبالي كان واعياً بقيمة بدايات تجربة التياترو وعظمتها، وتميّز علاماتها ممن شاركوه الإبداع والنجاح مثل كمال التواتي ومحمود الأرناؤوط ورؤوف بن عمر وغيرهم، فقام، حتماً عن وعي، بتشكيل الوافدين الجدد لديه من موسيقيين وممثلين على هوى هذه التجربة وإغراقهم في روحها إلى حد كبير، ولكن من دون تكرار أو سقوط في مطب اجترار ما قدّمه سابقاً.


لقد استطاع الجبالي من خلال "على هواك"، وبذكاء كبير، أن يخلق حياةً أخرى لتجارب التياترو الأولى، لا سيما لـ"كلام الليل". حياة بمفردات جديدة وجمالية أخرى غاية في التفرد، لكنها لا تخفي ولا تنكر أنها وُلدت من رحم مسار إبداعي طويل وثري اسمه التياترو.

ومسرحية "على هواك"، من تأليف وإخراج توفيق الجبالي، وتمثيل مجموعة من شباب مسرح التياترو، وهم نوفل عزارة وليد العيادي وآمال العويني وسيرين بن يحيى وإشراق مطر وأحمد عليوين ومهدي الميداني ومحمود السعيدي ومحمد أمين الحرباوي وبدري ميمونة ووسيم الطرابلسي وفاطمة صفر وبديع بوسعايدي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image