وصف "الأقليات" الذي يطلق على جماعات معيّنة أو تجمّعات بشريّة، هو مفهوم مراوغ لارتباطه بإطارين زماني ومكاني. فبملاحظة عابرة وبدهيّة، ثمة لعبة تناوبٍ تاريخي وطرد من المركز إلى الهامش وبالعكس بين الجماعات الإثنية (العِرقيّة) والدينيّة واللغويّة. قد يكون شعب ما من أهل الدّار فيغدو بقايا سكّانٍ بفعل قوى قاهرة عسكريّة- إيديولوجيّة، أو لعوامل طبيعيّة وجيولوجيّة، ويعود ذلك أيضاً إلى أسباب العزلة الذاتيّة طوعيّة كانت أم اضطراريّة.
والملاحظة الثانية تأتي في ظلّ الاهتمام المتزايد بالأقلّيّات بذريعة الحفاظ على التنوّع الثقافي على مستوى العالم، وعلى حريّة العقائد وممارسة الشعائر الدينيّة، فضلاً عن ضرورة حفظ الذاكرة للأجيال الآتية. فتعاظم إذ ذاك دور الأفلام التسجيليّة التي تصف حياة الجماعات الإثنيّة أو الأقلّويّة، تحت مسمّى الأفلام الإثنوغرافيّة. في محاولة ربما لإعادة الاعتبار إلى ثقافات مهمّشة وجماعات مورس بحقّها العنف المعنوي أو المادّي. غير أنّ بدايات هذه السينما تفصح عن رؤية تجانب البُعد الإنساني وتعزّز مركزيّة الرجل المتفوّق على مجتمع وُصف بالبدائي أو المتوحّش.
الإثنوغرافيا: رحلات استكشافيّة واستعماريّة
في كتابه "ملامح الفيلم الإثنوغرافي" (من منشورات مهرجان الإسماعيلية للفيلم التسجيلي والقصير، 2023) يذكر حسين عبد اللطيف طريقين للإثنوغرافيا (الإثنولوجيا الوصفيّة)، هما: تسجيل المادة الثقافيّة من الميدان، أي من طريق المعاينة وملاحظة أوجه النشاط الثقافي مباشرة، أو من خلال دراسة الوثائق التاريخيّة. ويشير إلى أنّ السينما والإثنوغرافيا توأمان للروح الجمعيّة ولتحديد الهويّة، بمساهمتهما كلتيهما في تمثّل كل حكاية من حكايات التاريخ.
بملاحظة عابرة وبدهيّة ثمة لعبة تناوبٍ تاريخي وطرد من المركز إلى الهامش وبالعكس بين الجماعات الإثنية والدينيّة واللغويّة
اعتمد التصوير اليدوي منذ منتصف القرن التاسع عشر قبل التصوير الفوتوغرافي لدعم الوصف الفيزيقي/المادي (بيوت وقطع أثاث وأدوات مستخدمة وأزياء) بإيضاح بصريّ للرحلات الاستشراقيّة. ولا يخفى على عبد اللطيف أن ينبّه إلى الرسومات اليدويّة للمستشرق وعالم اللغويّات البريطاني وليام لين، وقد ضمّنها في كتابه "المصريون الحديثون". وبطبيعة الحال ثمة علاقة ترابطيّة بين ظهور الإثنوغرافيا والرحلات الاستعماريّة والبعثات الاستكشافيّة لدراسة أساليب العيش والعادات والتقاليد لشعوب وصفت بالبدائيّة وتصنيفها على خرائط تمهيداً لنَهبِها.
إزاء تعدّد التصنيفات، تقدّم المخرجة والباحثة الأنثروبولوجيّة التونسيّة صوفي فرشيو تصنيفاً يميّز بين أنواع ثلاثة للفيلم الإثنوغرافي، هي: "الفيلم الوثيقة" (تسجيل مباشر وحيّ للأفعال البشرية)، وفيلم المؤلّف أو "سينما الحقيقة" ( يقدّم نظرة شاملة لظواهر معايَنَة حول موضوع محدّد وباستخدام تقنيات دقيقة)، و"الفيلم المحادثة" (يطرح قضايا إشكالية مركزيّة غالباً ما تخصّ بلدان عالم الجنوب، أو وفق التسمية السابقة لبلدان العالم الثالث).
الدمج والتركيب بين السمعي والبصري واللغوي
يتّضح أنّ من أهداف الفيلم الإثنوغرافي الإنسانيّة كسر فكرة التمركز حول الذات، حين يتيح الاطّلاع على خصوصيّات المجتمعات شريطة عدم اختزالها في فكرة أو كلمة أو وصف. وكذلك في النظر إلى الثقافات المتنوّعة على أنّها ثقافات مستقلّة بالإمكان النفاذ إليها وفهمها باحترام قيمها وأنماط الحياة المتّبعة لديها ليس غير. لذا يأخذ هذا النوع من الأفلام بجدّية مسألة "العيش في عالم مشترك" بتوجيه خطابه إلى عقل المشاهد وشعوره، تاركاً له مهمّة "فكّ رموز ومكوّنات اللا شعور عند الآخرين"، وفق تعبير التحليل النفسي، إذ إنّ الفيلم "يوحي ولا يفصح"، وهو يخفي عناصر بقدر ما يصف ويكشف.
يتّفق عبد اللطيف مع المصوّر وعالم الاجتماع الأميركي دوغلاس هاربر في أنّ جزءاً واسعاً من الحياة الاجتماعيّة المعرفيّة لا يمرّ عبر اللغة. فالمعطيات السمعيّة البصريّة يمكن أن تتحوّل إلى أفلام إثنوغرافية بعد عمليّة التركيب. وفي هذا السياق تعتمد المصوّرة الأميركيّة الاستقصائيّة ساره تشارلزوورث "الصور المملوكة" أي المستمدّة من الثقافة الشعبيّة، لمخاطبة إحساس المتلقّي وذكائه.
وإذا كان فريق يرى أن الكلام المنطوق يحتاج إلى كلام صامت، أي إلى "كلام الصورة" لإنتاج المعنى، فتتبدّى العلاقة بين الكلمة المكتوبة والصورة في البحث الإثنوغرافي علاقة تكامل، بحيث يتمّ التآزر بين المرئي والمقروء، وذلك في حسم للجدل بين أنصار تفوّق اللغة وقدرتها على دمج المرئي داخل المقروء من جهة، والقائلين بعجز اللغة عن وصف العالم الواقعي وأشيائه، بأن تجعل اللغة المرئي شيئاً غائباً أو مفقوداً. إذن، كلّ من اللغة والصورة له نظام علامات مستقلّ عن الآخر يسهمان في إجلاء المعنى العميق والتكثيف الحسّي على حد سواء.
مطلب الثقافات بحقّ الاعتراف: النوبيون، والأمازيغ، والإيزيديون، والصابئة المندائيّة
من روّاد الأفلام الوثائقيّة الإثنوغرافيّة يُذكر اسم الأميركي روبرت فلاهيرتي بـفيلمه "نانوك رجل الشمال" (1929) والمصوّر من طريق الرحلة إلى القطب الشمالي. ومع ظهور كاميرا 16 مم في ستينيات القرن الماضي تبلور أسلوب سينمائي جديد تحت مسمّى "السينما المباشرة". وثمة نماذج لأفلام وثّقها حسين عبد اللطيف تتناول حياة النوبيين والأمازيغ على سبيل المثال، مشدّداً على أن ما يوصف بالأفلام الأمازيغيّة ليس بالضرورة لمعيار تصويرها في بقعة جغرافيّة ناطقة بهذه اللغة، بل قد تنتج في الشتات حاملة عناصر أمازيغيّة وقيمها وهمومها.
أما صاحب الفيلم الناطق بالأمازيغيّة "ماشاهو" (1955) بلقاسم حجاج فيقول إنّ "أي فيلم هو أمازيغي إذا ما كان يخاطب القيم العميقة للمجتمع الجزائري، وذلك لأنّ الجزائريين كلّهم أمازيغيين حتى لو كانوا لا يتقنون اللغة". رافضاً اعتبار فيلمه أمازيغيّاً بناءً على العامل اللغوي فحسب. ومن الأفلام الرائدة التي ترصد عادات أهل النوبة في مصر فيلم "النوبة" (14د، 1962) لصاحبه أسعد نديم.
خارج ما وثّقه كتاب "ملامح الفيلم الإثنوغرافي" من نماذج، تشير هذه السطور إلى ثلاثة أفلام من العراق وسوريا؛ يصف أحدها المكوّن الأيزيدي ضمن المجتمع العراقي في فيلم "°c73" (103 د،2017) للمخرج العراقي الأشوري باز شمعون، وفيلمان يتناولان طقوس الصابئة المندائية ومعاناة هذه الجماعة الدينيّة، هما: فيلم "غنّي لي" (38 د، 2016) لمخرجته المندائيّة العراقيّة سما وهّام، وفيلم "بيت نهرين" (76 دقيقة، 2018) لمخرجته السوريّة مايا منيَّر.
ينتمي فيلم "c°73" إلى نمط سينما المؤلف. وإن جاء التبئير على معاناة الإيزيديين، وعلى طقوس عبادتهم وممارسات النظافة والتعبّد بنور الشمس في معبد "لالِش"، فهو ضمن سياق محنة الشعب العراقي بمكوناته جميعاً مع الإرهاب، لا سيما ما نالته الطفولة من تشوّهات في الجسد وجراح في النفس. وذلك بمتابعة الكاميرا لثلاثة أطفال ينتمون إلى طوائف مختلفة: علي (من الشيعة)، وريّان (السنّي الكردي)، وآسيا (الإيزيدية) تعرضوا للأذى الجسدي والنفسي بفعل التفجيرات، وقد التقى بهم المخرج في ألمانيا في أثناء علاجهم عام2007.
لم يغفل المخرج في توثيقه ربط الراهن بأحداث تاريخيّة وفق رؤية ناظمة ترى أنّ محنة الأقليّات دائماً ما تتكرّر في إشارة إلى ما تعرّضت له الطائفة المسيحيّة الأشورية التي ينتمي إليها في ثلاثينيّات القرن الماضي، وذلك على لسان والده "دينكا" المناضل اليساري. يوحي العنوان بدرجة حرارة الجو في لعبة إيهام ربطاً بالمشهد الافتتاحي، غير أنّ العدد 75 في حقيقة الأمر يحيل إلى المحن التي تعرّض لها الأيزيديّون على مرّ التاريخ. يأتي الجزء التوثيقي متداخلاً مع حبكة دراميّة، في خيار فنّي، يتتبّع مصائر الأطفال الثلاثة على مدى سبع سنوات، لا سيما مصير آسيا التي غدت عروساً تزفّ إلى ابن عمّها (2014) وتنتظر مولوداً في رمزيّة واضحة لبثّ الأمل وتأكيد الاستمراريّة.
أمّا فيلم "غنّي لي" (فاز بجائزة الفيلم الوثائقي الطويل في مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط، 2016) فيجلّله شجن الغناء العراقي، ويلقي الضوء على مأساة المندائيين في العراق؛ ينفتح المشهد على صوت الجدّ الآتي من الغياب لينغلق عليه، في بناء دائريّ للصوت والصّورة المائيّة. يحاول الفيلم الإجابة عن سؤال العودة لمخرجته المقيمة في كندا إلى جذورها الدينيّة. وقد كان مطمحها تصوير طقس التعميد في بلدها الذي تركته طفلة، فلم تسعفها الظروف؛ آخذة بنصيحة أحد الأصدقاء بعدم زيارة العراق، وهي امرأة مندائية ستتعرض لمخاطر جمّة، فاكتفت بتصوير التعميد في كندا.
وفي فيلم "بيت نهرين" نتابع مسار أسرة "سلام الزهيري" العراقيّة، بحكم تهجيرها من العراق منذ عام 2004 إلى دمشق على أمل العودة القريبة. لكنّ الانتظار يطول وتحطّ الحرب رحالها في سوريا هذه المرّة، لتتكرّر تجربة الخوف من فقد الأعزّاء. سلام مَثّال عراقي، وزوجته أستاذة في الفن التشكيليّ، يولد لهما يوهان (يوحنا أو يحيى بالآراميّة) ليتقاسم الهمّ مع أخته نور وأخيه أنور.
إلى جانب قضيّة التهجير، ووضع الأقلّيّات في المجتمعات العربيّة، يطرح الفيلم مسألة مجابهة العنف، والانتظار، والغربة، من طريق الفنّ، وانقسام النفس البشريّة بين الدين وأحكامه من جهة، ونزوعها الفطري نحو الفنّ والجمال من جهة أخرى. هذا الصراع يمثّله سلام الزهيري بعد أن التزم دينيّا وصار شيخا في طائفته. فقضيّة الحرّيّة، إذن، هي عنوان القضايا جميعها؛ من حرية الاعتقاد إلى حرية اختيار أسلوب الحياة.
المندائيون والإيزيديون نموذجان لمعاناة الأقلّيّات العرقيّة والدينيّة. ويبقى السؤال مفتوحاً على وضع الكثير من الجماعات المماثلة في غير بلد عربي. ولا تُفهم هذه الأعمال الفنّية إلا في ضوء علاقة الأنا بالآخر
مثلما انفتح المشهد على تشكيلات طينيّة متحرّكة، وطقوس تعميد بثوب "الرِّستا" الأبيض (ثوب النور) مع اقتباسات من الكتاب المقدّس "الكِنزا رَبا" (بالآراميّة، كنز الرّب بالعربيّة) مرافقة لها، ينغلق الفيلم على النسق ذاته من التشكيلات الطينيّة لرحلة مائيّة لامرأة (وهي رمز العطاء والإنسانيّة) على ظهر زورق يُسمّى "المشحوف" من تشكيل الفنّان الشيخ، مع رسالة تدعو إلى السكينة والسلام.
في الفيلمين ("غنّي لي" و"بيت نهرين") نفهم الفكرة الروحيّة الكامنة وراء طقس التّعميد في المياه الجارية لدى المندائيين. فالصابئة من أولى الديانات التوحيديّة التي نشأت في بلاد ما بين النهرين. كان أفرادها يتبعون طريق النهر "اليردِنا" هرباً من الحروب والإبادات بحقّهم على مرّ الحقب التاريخيّة. تعترف المندائيّة بآدم أوّل الأنبياء، ويحيى بن زكريا خاتمتهم.
قد يكون القاسم المشترك بين المخرجين الثلاثة (باز وسما ومايا) تجارب الحروب والتهجير والإرهاب الفكري والديني، كما أنّ ثمة خيطاً رابطاً، أو جسر عبور نحو الوطن والذات في الأفلام الثلاثة. وإن كان يتمثّل في الطفولة والذاكرة في فيلم "°C73"، فهو يتجلّى في الفنّ، تارة في الغناء مع صوت الجدّ عبر شريط تسجيل ("غنّي لي")، وتارة أخرى في التشكّلات الطينيّة ("بيت نهرين")؛ والطين رمز الديمومة والخلق الأوّل.
لئن كان المندائيون والإيزيديون نموذجين لمعاناة الأقلّيّات العرقيّة والدينيّة، فيبقى السؤال مفتوحاً على وضع الكثير من الجماعات المماثلة في غير بلد عربي. ولا تُفهم هذه الأعمال الفنّية إلا في ضوء علاقة الأنا بالآخر، وفي إطار التعميمات الإنسانية المشتركة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...