ليس بالهيّن أن يكتب المتلقي العربي العادي عن السينما التجريبيّة مثلما هو حاله في مشاهدة أعمال سينمائية فنيّة تندرج تحت هذا العنوان. فأن نفهم، أو نحاول على أقل تقدير، فهم رؤية هذا الاتجاه من السينما، ربما يتيح لنا تناولها في نتف قد لا تلج العمق بل تبقى في التخوم. وليس المقصود بالفهم فكرة الفيلم بذاته، بل الخلفيّة التي ينطلق منها التجريب في السينما، إذ إنّ التلقي سيكون مختلفاً وشديد الذاتيّة في اختبار التجربة.
يضعنا الفيلم التجريبي في حالة خاصة، ويكوّن لدينا انطباعاً مختلفاً في كلّ مرة نعود إليه في أوقات متفاوتة، إذ إنه يهدف إلى خلق صورة وليس إلى سرد حكاية، ويعمل على توليد منظورات مختلفة لدى المشاهدين، باشتغاله على التقنيّات. فغاية الفيلم التجريبي أن يجيب عن سؤال الكيفيّة: "كيف نخلق من الأشياء صورة؟"، وفق ما صرّح به المخرج والموزّع بيب تشودوروف، وهو مدير معرض ريفوار (Revoir) المخصص للفيلم التجريبي. وقدّ حلّ عضواً في إحدى لجان التحكيم في مهرجان الإسماعيليّة الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة في دورته الثالثة والعشرين (آذار، 2022).
سينما لا حدود لها
قبل الحديث عن بعض الأفلام التجريبيّة التي أحضرها معه تشودوروف وأدار نقاشاً حولها، موضّحاً تقنيات صناعتها وأفكارها في إطار برنامج السينما التجريبيّة، من الجميل التوقّف أمام أحد المنشورات القيّمة والفريد من نوعه، للمهرجان في رؤيته المتكاملة، بين تنظير يعنى بالتجريب السينمائي والمشاهدة التفاعليّة.
"هذه السينما التي لا حدود لها" هو مجموعة مقالات ودراسات وتقارير (ترجمة وتقديم صلاح سرميني). يبرز غلافه مشهداً من الفيلم الروائي "شبكات ما بعد الظهيرة" للمخرجة مايا ديرين (14 د، 1943، الولايات المتحدة الأميركية).
ويعقد السرميني مقارنة بسيطة بين حجم الاهتمام العالمي بالسينما التجريبيّة (أو الطليعيّة، المختلفة، البديلة)، إن من خلال المواقع المختصّة والمكتبات والمتاحف أو المهرجانات وصالات العرض (على غرار متحف الفنّ الحديث في نيويورك، مهرجان كليرمون-فيران في فرنسا، موقع مركز جورج بومبيدو، وبرمجة السينماتيك الفرنسية)، وبين الاهتمام العربي بهذا الاتجاه، لا سيما أنّ البشر هم جانب من تاريخ السينما، إذ يقول إنّ أي ترجمة لكتاب واحد في السينما التجريبيّة لم تصل إلى المكتبة العربية.
يضعنا الفيلم التجريبي في حالة خاصة، ويكوّن لدينا انطباعاً مختلفاً في كلّ مرة نعود إليه، إذ إنه يهدف إلى خلق صورة وليس إلى سرد حكاية، ويعمل على توليد منظورات مختلفة لدى المشاهدين، باشتغاله على التقنيّات. فغاية الفيلم التجريبي أن يجيب عن سؤال الكيفيّة: "كيف نخلق من الأشياء صورة؟"
السؤال التالي الذي يقفز أمامنا هو عن إنتاج عربي لأفلام تجريبية، فيجيب الكتاب أنّ عشرات من السينمائيين العرب ينجزون أفلاماً تجريبية مبسّطة، لكنها لا تصل إلى المتفرّج كما هي حال السينما السائدة (أي التقليدية). وهذا ما خبرته شخصيّاً في القاعة المخصّصة لعرض هذه الأفلام مع تشودوروف واحتفالاً بمئوية جوناس ميكاس؛ إذ كان الحضور خجولاً قياساً بنسبته في القاعات الأخرى.
وترد في الكتاب المذكور مجموعة من العناوين المتحرّرة من نمطيّة السينما العربيّة، مثل الفيلم المصري "المومياء" (إخراج شادي عبد السلام، 1973)، والفلسطيني "سجّل اختفاء" (إخراج إيليا سليمان، 1996)، والإماراتي "الأرض المبتلّة" (إخراج لمياء قرقاش، 2003)، والتسجيلي اللبناني "رائحة الجنس" (إخراج دانيال عربيد، 2008).
الدادائيّة، التجريد والتجريب في السينما
لا يخفى على المطّلعين أنّ الدادائيّة حركة ثقافيّة انطلقت منذ العام 1916 بوصفها ردّ فعل على عبثيّة الحرب العالمية الأولى، حيث تُلي بيانها الأوّل في "كاباريه فولتير" في زيورخ السويسريّة. ووفق موقع "سويس إنفو" التابع لهيئة الإذاعة والتلفزيون السويسري، فإنّ الشعر الصوتي الخالي من الكلمات والمعاني، والعشوائية والحَدَث وفن الملصقات وأسلوب الطباعة، جميعها من تمثيلات هذه الحركة. منطلقها الشعور بالفوضى ورفض ما يكبح جموح التلقائيّة في الإبداع الفني، بمعنى آخر هي تعبير عمّا هو غير تقليدي.
عشرات من السينمائيين العرب ينجزون أفلاماً تجريبية مبسّطة، لكنها لا تصل إلى المتفرّج كما هي حال السينما السائدة أي التقليدية
هذه المقدمة التعريفيّة تتقاطع مع فكرة التجريب بما هو النقض المستمرّ للتقليدي. وكان السينمائي الأميركي الطليعي من الأصول الليتوانيّة، جوناس ميكاس، وقد خصّص له مهرجان الإسماعيلية مساحة لعرض أفلامه احتفاءً بمئويّته، يردّد مقولة كابالا، أن أعظم شرّ في العالم هو عدم التجديد، بحسب ما صرّح به صديقه ومنظّم مئويته بيب شودوروف.
وفي تذوّق اللوحة التجريديّة التي لا تصوّر أشكالاً واضحة (من أجساد، وأمكنة...)، وصف الفنان التشكيلي المصري عبد الرازق عكاشة لوحات الفنانة السعوديّة اعتدال العطيوي بأنّها قراءة شعريّة في اللون، وأخرى فنيّة في كتابة النصّ البصريّ. على هذا القول يتكئ السرميني ليضيف أنّ مشاهدة الفيلم "التجريدي" كأنما هي مشاهدة نص بصريّ بطريقة شعريّة وموسيقيّة.
تجربة ميكاس وغيره في قصر الثقافة في الإسماعيلية
لا يحتاج الإقدام على التجديد والتجريب الفنّي شحنة اندفاعيّة وشجاعة واجتراءً على تحدي التقليد وحسب، بل وعياً بذلك من خلال تجارب الآخرين. من هذا المنظور، خصّص المهرجان زاوية لعرض سبعة أفلام لميكاس صاحب مشروع (365 يوماً) الذي تحدى فيه نفسه بصناعة فيلم كلّ يوم، بمدّة تتراوح بين (4 و10 دقائق) على مدار سنة كاملة، لذا لم يكن مستغرباً أن يُخرج عام 2011 أربعة أفلام تسجيليّة طويلة.
يندرج فيلماه التسجيليّان "جوناس ما زال يصوّر" (10 د، فرنسا) و"الرباعيّة رقم 1" (8 د، الولايات المتحدة الأميركية) في باب "سينما اليوميّات". في الأول (أخرجه بيب تشودوروف) يروي حكاية وصوله إلى الولايات الأميركيّة وحياته المبكرة في نيويورك وتجاربه في صناعة الأفلام، ذلك احتفالاً بعيد ميلاده الثمانين. وفي الثاني إخراج لكميّة كبيرة غير محرّرة من يومياته المصوّرة بتلقائيّة؛ وقد تأثر بأوديسة "العودة إلى إيثاكا" لأنه كان لاجئاً.
في فيلمه التسجيلي "كاسيس" (4 د، 1966) لا نرى سوى تنويعات بصرية للمشهد نفسه لمنارة ميناء كاسيس الفرنسي. يعتمد الفيلم على ضغط نتاج تصوير يوم كامل بكاميرا في وضع ثابت، لتقديم صور بصرية مختلفة للمرفأ، وقد صوّره في زيارة لصديقه الطليعي جيروم هيل في باريس.
كما صنع فيلمه التسجيلي "سلفادور دالي في العمل" (8 د، 1964) متابعاً عروض الفنان الإسباني الأدائيّة في شوارع نيويورك، تحت عنوان "يحدث"، وذلك على جسدين لفنانتين ظهرتا في الفيلم (ويروشكا وتايلور ميد). هذا العمل يؤكّد تأثير الحركة الدادائية في فنون الأداء والحدث المباشر، والتلقائيّة. وقد يجد المشاهد نفسه أمام صور مفككة، غير مترابطة الموضوع، تشكّل بمجموعها فيلماً، فيدرك أنه أمام عمل تجريبي، كما هو حال الفيلم الصامت لثلاث صور غير مكتملة (6 د، 1995)، تحاكي لقطاتها شعر الهايكو الياباني.
انطباعات بتأثيرات متباينة
في الأفلام الثلاثة الآتية ثمة رصد للعلاقة بين الشاشة والصورة. لعلّ المشاهد يترقّب ما سيظهر أمامه ضمن إطار أبيض صامت، منتظراً إحدى عشرة دقيقة إزاء لوحة ضبابيّة تلوح فيها أطياف لا يتبيّنها وخطان أفقيان، والمشهد الضبابي برمّته ما هو إلا لمنظر طبيعي في الريف الكندي، حيث يقطع إطار الصورة عرضيّاً مجموعتان من خطوط الهواتف، من فيلم "خط الضباب" (1970).
ومن البياض إلى عالم سحري من الألوان مترافقاً مع موسيقى تجعل المشاهد يدخل إلى عمق الصورة. هو فن الإيهام والإيحاء الجمالي في فيلم "بعد الحريق" التسجيلي (8 د، فرنسا، 2010) المصوّر في أجاكسيو- كورسيكا، وقد جاء في نبذة الفيلم وصفاً معبّراً، حيث "تنهار الأرض تحت وطأة ألوانها".
ومن عالم الصمت في فيلم "خط الضباب" إلى صخب الصوت، ومن تنويعات سمفونيّة لونيّة في فيلم "بعد الحريق" إلى ألوان صارخة تبهر العين في الفيلم "مؤثر" (12 د، إخراج بول شاريتس، الولايات المتحدة، 1969)، حيث يحتل إطار الشاشة صورة شاب يوهم بقطع لسانه بمقص، وتظهر تباعاً أحرف كلمة (T,O,U,C,H,I,N,G)، مترافقة مع إيقاع سريع لكلمة "تدمير" (Destroy) التي تلقّاها المشاهدون كلّ على طريقته وسمعها بألفاظ متعدّدة. وهو بذلك يجمع إلى البنائيّة (الإضاءة والألوان والظلال، والصوت) الحركة الحروفيّة.
إذا كان التلقي شديد الحساسية والانطباعيّة، فإنّ هذه السطور تتراوح بين الموضوعيّة والذاتيّة في "الحكي" عن السينما التجريبيّة وقراءة بعض أفلام التجريب، ولا تدّعي أنّها ممارسة نقديّة. ولمن يأتي من عالم النقد السردي مثلي يعي معنى تلقي ما هو مختلف أو "اختلافي" في المفهوم التفكيكي. وهو تماماً ما خبره جمهور قرّاء الروائي اللبناني ربيع جابر حين نشر رواية "طيور هوليداي إن"، وقد اعتادوا على نمط سرده ذي البُنية الكلاسيكيّة.
أعود هنا إلى ما ورد في كتاب المهرجان "هذه السينما التي لا حدود لها، من إجابة للناقد السينمائي اللبناني محمد رضا عن إمكانيّة نقده لفيلم تجريبي وكيفيّة ذلك، فيردّ بالإيجاب، قائلاً إنّ نقده سيقوم على مبادئ مختلفة كثيراً وسيتعرّض لاحتمالات الخطأ، وفي البال تفكيكه كحال الفيلم غير التجريبي، ومرّة أخرى يؤكّد أنّ الأفلام التجريبيّة لا تشاهَد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...