اللافت في روايات ثلاث لبسّام شمس الدين أنّ ما يطلق الحدث أو يوهم بجريانه، هو الحلم المتّخذ صوراً مختلفة تتراوح بين الرؤيا في المنام، على نحو ما جاء في رواية "نهاية رجل غاضب"، والكابوس في "لعنة الواقف"، والنبوءة، أو الزعم المغرق في القدم في رواية "نبوءة الشيوخ". صحيح أنّ الروائي اليمنيّ قد وضع قرّاءه في الأجواء الحكائيّة لعوالم "ألف ليلة وليلة"، ولكن الأصحّ أنّ سياقات اجتماعيّة راهنة تخصّ مجتمعه، على غرار سيطرة الخرافة والجهل والطبقيّة والجندريّة، وأخرى سياسيّة، مثل الفساد وسوء استخدام السلطة، وتحكّم الخطاب الديني، حرّضته على رسم طريق فنّي يبحث فيه عن إثارة الأسئلة في منجزه الرّوائي، لعلّهم –أي القرّاء- يتلمّسون إجابات ممكنة.
تتقاسم النصوص إذاً، غرائبيّة الرحلة بدلالاتها المتباينة أحياناً، مع لحظ السِمة المُبهجة للنهايات. والسؤال الذي تطرحه علينا النهايات السعيدة يحيلنا إلى ما يبتغي أن يبشّرنا به الحلم من معنى، لا سيّما أنّ النمط الروائي الغريب العجيب يشتغل على ثنائيّة المضيء إزاء المعتم.
هيكليّة من الأبويّات أمام معول الخطاب الرّوائي
غالباً ما تنجدل الخطابات: الدّيني والطّبقي والقَبَلي والسّياسيّ. فيشغل الخطاب الديني مساحة لا يُستهان بها من النصوص. في رحلتَي الطفل زيد (نهاية رجل غاضب) والأجير مهدي (نبوءة الشيوخ) تعرُّف بمفاسد السلطتين الدينية والسياسية. فقد انتبه زيد إلى صراع جماعات دينية واقتتالها على إدارة المسجد، على غرار أهل الدعوة، والفقهاء الرجعيين. وإلى من عاد من جهاده في دول الجوار ناقلاً معه أفكاراً وسلوكيّات دخيلة على المجتمع المحلّي، ومثيرة للفرقة والشقاق بين المؤمنين. وانتبه مهدي إلى أنّ من سيرث ثورة خطابُها تغييري (ثورة 1962) هي تيارات قوميّة ودينيّة متنافرة تلاقت في رجعيّتها: "لم يتغيّر شيء. خرج الناس من قمقم صدئ إلى آخر. هذا هو السجن الحقيقي".
تجلّل الخرافة والإيمان الغيبي والجهل جميعها النصوص الثلاثة، وتدخل في تكوين الشخصيّات وأنماط تفكيرها؛ من الاستنجاد بالصّوفي وأدويته البدائيّة في قرية "سحمّر"، إلى الفلكي (المنجّم) لمعالجة الإضطرابات النفسية، والمقرئين لطرد الكوابيس، والمسفّل للتوسّط مع أرواح الموتى الهائمة، فإلى الشيخ العجيب (العرّاف) المتهّم بالشعوذة والقدرات الخارقة، وهو بريء من ظنون العامّة وأوهامها. فضلاً عن الإيمان بالرسائل الغامضة والإشارات من الأولياء الصالحين. هذا الخطاب الذي يغيّب العقل في تفسير الظاهرات واتّخاذ القرارات والمواقف هو نفسه يدين خطاب العلم المنهجي، والعلوم الطبيعيّة والتجريبيّة، لتعزيز موقعه.
سيطرة الخرافة والجهل والطبقيّة والجندريّة في اليمن، وانتشار الفساد وسوء استخدام السلطة، وتحكّم الخطاب الديني... حرّضت الروائي بسام شمس الدين على رسم طريق فنّي يبحث فيه عن إثارة الأسئلة في منجزه الرّوائي، لعلّ قرّاءه يتلمّسون إجابات ممكنة
غير أنّ الخطاب السياسي يبرز جليّاً في رواية "لعنة الواقف"، لجهة سوء استخدام السلطة، وتكرار الأخطاء السابقة بعد نقدها حالما يتبوّأ من كان في صفّ المعارضة المنصب نفسه. هو مرض الاستقواء بالنفوذ يقابله مرض استضعاف الذات والاستلاب والتملّق لدى العامة، والنظر إلى من في السلطة معصوماً عن الزلل، إذ لم يصدّق السكان أنّ ناصر، أمين القرية، هو قاتِل الفقيه عبد القادر.
"لو دامت لك لما آلت إليّ". قد تكون هذه الخلاصة المقصود تسريبها في "لعنة الواقف"، في تتبع مصير أمين القرية السابق (صويلح جوهد) الرافض انتزاع السلطة منه، وكان مصيره الجنون بعد فشله في سلسلة أعمال تخريبيّة قام بها. تتيح الحبكة في الرواية نفسها تأويل الكوابيس التي تهاجم النيام ليلاً بأنّها ليست إلا الحدث الذي يهزّهم بعنف لعلّهم يستفيقون.
إنها "وخز الضمير" مع كل معصية أو تعدٍّ على حقّ عامّ أو شخصيّ. كأنّما هذا التأويل يكرّس الوجه الآخر لمقولة "الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا"؛ إذ بالإمكان أن نرى أنّ الناس نيام، فمتى استفاق الموتى انتبهوا! وفي استعارة كبرى لعالمَي الموتى (في القرية القديمة) والأحياء (في القرية الجديدة)، يقودنا التأويل إلى عالمَي الماضي والحاضر المتوثّب نحو المستقبل، في رؤية مغايرة تجيب عن السؤال: أي وجه للقرية يريد الخطاب الروائي؟
المرأة بين الفاعليّة والمفعوليّة
بتتبّع مسارَ هذه الشخصيّة وتحوّلات هويّتها، نكتشف أنّها شخصية محوريّة في رواية "لعنة الواقف"، ومحرّكة الأحداث، وإن بُنيت الرواية على قطبين في المكان والمفهوم، هما منازل الأحياء والقبور، فقطب آخر يرفد الخطاب الروائي، يتمثّل في قرية "الهجرة" الجديدة المبنيّة بيوتها على أرض وهبتها "قبول" للفلاحين وساعدتهم بمبالغ للبناء تُسدّد وفق مواقيت متفّق عليها، مقابل قرية "بيت الهادي" القديمة المبنيّة على الأرض الموقوفة. بدأت حكاية قبول مع ذبح والدها مبخوت بقرتها مقتحمة المقبرة؛ حيث أظهرت رباطة جأش فريدة.
إثر موت والدها وأخيها وزوجها، آلت إليها الممتلكات جميعها من البيت العتيق إلى الحقول، علاوة على أمر الوصاية على المقبرة. وهي، وإن كانت من عائلة ذات نسب ويسر ووجاهة، فلها شخصيّتها التي مكّنتها من مواجهة الفقيه عبد القادر وأمين القرية صويلح جوهد. غدت أمينة القرية الجديدة التي أسّستها. وهذه سابقة بأن تتولّى امرأة هذا المنصب الذي لا يتولّاه عادةً سوى الرجال. تخاطب الأمين جوهد قائلة: "ماذا يعني أن أكون امرأة؟ ... ألم تتولَّ والدتك أمر تربيتك في يوم ما؟".
لدى قبول موهبة في "اشتمام الشرّ المتخفّي وراء اللحى والعمائم"، كما يفصح الراوي. فقد حدست بالأذى اللاحق بصفيّة، ابنة الفقيه، وقد حبسها عقاباً لها. واجهته وحرّرتها. أنشأت المرافق للقرية، واعترضت على أداء مندوب الأوقاف، لأنّه لا يهتمّ إلا بمتابعة غلال المسجد، مهملاً قضايا تهمّ الناس. وتابعت تحديّات أمين القرية المتهالكة وبنادقه، محذّرة من إثارته غضب الأحياء كما أثار غضب الموتى، ودافعت مع فلاحيها عن القرية والكرامة.
هذه المرأة العاقر، تحمل خطاب الأمومة في القرية الوليدة، وتنطق أيضاً بخطاب سياسيّ سرعان ما بات شبيهًا بخطاب الأمين السابق، لجهة الوقوف الموقف نفسه أمام حقل البُنّ (وهو جزء من الأرض الموقوفة) واستقدام جرّافة تنتهك حرمة الأموات لبناء سور يحميه من السيول. لكنّها ما لبثت أن استعادت هويّتها السابقة، أو أنّ ما كانت تضمره قد برز للعلن، ودائماً وفق خطّة النهايات السعيدة. تفيد وصيّتها بتسوير المقبرة القديمة. ليكون قبرها الأول في مقبرة القرية الجديدة، وتكتمل الدائرة.
إذا كان الخطاب الرّوائي ينزع إلى تغيير مفهومَي الخصوبة والعقم، وإلى هدم التصنيف القارّ بين المهمّش والأصيل، ورفيع النسب ووضيعه، فهو لم يحسم الجدل بشأن المرأة، بل أبقاها في وضعيّة بَينيَة، تتردّد بين موقعَي المفعولية/الموضوع والفاعليّة/الذات. "فوزيّة" (نهاية رجل غاضب)، التي تحمّلت قرار تمرّدها على رغبة أبيها في الزواج ممّن تحب، لم تكن بمنأى عن انتقام أخيها جعفر. و"خليلة" (نبوءة الشيوخ) وقد زُوّجت للضابط المستبدّ موسى البادي لطمع إخوتها بالميراث، وخالفت الأخلاق العامة بخيانة زوجها، ثم بادرت إلى تزويج نفسها لمهدي وقيادته، لكنّها بقيت في الوقت نفسه موضوع انتقام عشيرتها برمّتها، وظلّ مهدي بالنسبة إليها مثال الأمير المنقذ. أما "قبول"، فلم تنجُ هي الأخرى من صَلف الفقيه وأمين القرية كونها امرأة. و"عزيزة" بقيت رهينة مزاج ناصر في تحديد موعد ارتباطهما.
تتقاسم نصوص بسام شمس الدين غرائبيّة الرحلة بدلالاتها المتباينة أحيانًا، مع لحظ السِمة المُبهجة للنهايات. والسؤال الذي تطرحه علينا النهايات السعيدة يحيلنا إلى ما يبتغي أن يبشّرنا به الحلم من معنى، لا سيّما أنّ النمط الروائي الغريب العجيب يشتغل على ثنائيّة المضيء إزاء المعتم
كما تبرز المفارقة الساخرة بين خطبة إمام المسجد في أهمية زيارة الأرحام إزاء استسهال قتل الأرحام في حالة المخالفة في الرأي في ما يخصّ الفتاة. بل حريّ بنا القول إنّ لا شيء يخصّها، بل يعود الأمر والنهي برمّته إلى العائلة أو القبيلة. فالأقدار أقدار جماعيّة، بحيث ينكشف التغييب الحادّ لما هو فرديّ وشخصيّ وذاتيّ.
مهمّشون ... ولكن
الواقع أنّ الكلام الحكيم بمجمله لم يتفوّه به أصحاب السلطان والمكانة الرفيعة. الأمر الذي يفسح المجال لفهم ما يضمره القول الروائي من مقاصد. في "نهاية رجل غاضب" يحذّر الشيخ العجيب الفقيه جعفر من عناده وتطرّفه في قوله: "مثلك في هذا الزمن سيقاد إلى حتفه دون أن يشعر"، متمنّياً أن يكون الابن مختلفًا عن الأب. ويمسك بيد زيد ويسرّ له بأمنيته أن يفهم ما يحدث؛ فهو رجل منصف وليس شريراً في إقفال المسجد واحتجازه من اقتتلوا فيه. وأن يفهم عمى الناس الذين يضخّمون الأشياء، ولا يحسنون إدارة شؤونهم. تماماً مثل سلوك العجوز حمّود في القرية البدائيّة والمبتهجة بغير مسجد، في إشارته إلى زيد ألّا يكون مثل أبيه يعشق العراك والمشاكل.
النّهايات المضيئة في الروايات الثلاث لبسام شمس الدين ترسّخ الرؤية المشرقة في استشراف مستقبل الآتي من الأجيال. وتقول قولَها إنّ الأمل بالتغيير والتجدّد والتحوّل ما هو إلا "الوجود بالقوّة"
وما جاء من تهكّم على لسان فوزيّة يندرج كذلك الأمر في الخطاب المتبصّر للمهمّشين. إذ ترى أن لا شيء في الحياة يستحق أن نغضب، ونهلك من أجله. وما عبّر عنه زيد في سجاله مع أبيه، بحيث يشعر بالإشفاق على جيل والده الوسيط، لأنهم ليسوا بسطاء وأقوياء كالأجداد، ولا متعلّمين وأذكياء كالأحفاد. بل يراهم مجموعة من المكابرين الضعفاء والمؤمنين الشواذ. ويخلُص في تجربته إلى أنه لم يجد فرقاً بين قطعان البشر والحيوانات، بل إنّ الميول الوحشيّة تجلّت له بوضوح في القفر الأعلى، حيث الالتزام الأعمى بالتقاليد. وثبت له أنّ الشقاء يبزغ في مناطق الفضيلة والإيمان أكثر من أيّ مكان آخر رآه.
ثمة هرميّة متكاملة من القهر، تتمثّل في قهر الجماعة للفرد، وقهر السلطة القبليّة أو الحزبيّة الحاكمة للأفراد والجماعات، وقهر الموروثات الثقافيّة والتقاليد الانغلاقيّة للحكام والمحكومين جميعاً. فالشخصيّات في محاكاتها للسّياق المرجعيّ، شاهدة على مرحلة تاريخيّة. وإذا كان المضيء يسعى في صراعه مع المعتم للانتصار عليه، كما جاء في المقدمة، فإننا نجد أنّ خطاب الحياة والفرح بها قد انتصر على الموت، عبر توسّطات عديدة يفصح عنها خطاب الحق في معركته مع الباطل، والجديد مع القديم، والتحديث الفكري مع رسوخيّة التقاليد.
فأيّ إنسان يبتغيه الخطاب الرّوائي، وأيّ مستقبل يراه من خلال الثنائي زيد وهند، على سبيل المثال؟ فوزيّة عادت من منفاها مجازاً عبر طفلتها. وما يكدّر عيشها وعيش زيد رحل برحيل الغضب والرجل الغاضب (الفقيه جعفر)، والد زيد. هذه النهاية ما هي إلا رسم لبداية مغايرة، ولجيل ذي أفق أكثر انفتاحاً ورأفة بالإنسان، وأكثر تخفّفاً من ثقل التقاليد والشرائع الاجتماعيّة. ومهدي ما عاد أجيراً مقهوراً وضيع الشأن، ومتنمّراً عليه لعقم مزعوم. وناصر لم يعد ذلك الوصي على مقبرة، رثّ الثياب ومطرود من المجالس لتشاؤمه.
بكلمة جامعة، فإنّ النّهايات المضيئة في الروايات الثلاث ترسّخ الرؤية المشرقة في استشراف مستقبل الآتي من الأجيال، وتقول قولَها إنّ الأمل بالتغيير والتجدّد والتحوّل ما هو إلا الوجود بالقوّة، والكمون في الحلم، وما هو إلّا عصف الانتظار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.