الأنسب أن يكون عنوان المقال "في هجاء قلّة القيمة"، لكني عدلت عنه. ليس الهدف أن يغضب منتجو الأعمال المتواضعة، قليلة القيمة، على الرغم من دورهم المدمر في إفساد الأذواق، وتعويد غير الخبراء بالمشاهدة أو القراءة على أصناف مغشوشة تصير المداومة عليها خطرا على الإبداع لدرجة إنكاره. أتجنب الهجاء، وأكتفي بإلقاء أضواء على قيم تبقى، أطول عمرا من أصحابها. بعضهم أصرّ على القيمة، ورفض التنازل وإغراءات السوق، وربما أصابه اكتئاب لا تفلح معه الأدوية. وكان العزاء في ضمير نقدي يفرز العارض ويبعده عن الباقي، يشيد بالموهوبين، ويضعهم في المكانة اللائقة، ويتناسى أعمالا قليلة القيمة لا يطمع أصحابها إلا في الوجاهة والفلوس.
في كل عصر يتوازى مستويان من الفنون والآداب. أحدهما يُعرض عن الزائل، وينشد الأبدية. والآخر يراعي معايير السوق، ويتحرّى الذوق السائد. كلاهما اطمأن باختياره. الأول نأى حتى عن انتقاد أعمال الفريق الثاني الذي يحصد النقد/الفلوس، ويحسد الأولَ على اهتمام النقاد، ويسخر من أسطورة العمق، ويتبجح بالرواج كمعيار للتفوق. طوال نحو عشرين سنة انخدع جمهور السينما في مصر بمثلث أضلاعه ممثلة تؤكد أنها "نجمة الجماهير". وأخرى تدّعي أنها "نجمة مصر الأولى". وممثل يستكبر على مخرجي أفلام المهرجانات، ويستعلي بعائد شباك التذاكر على جوائز لا يرشح لها. تجاهله النقاد حتى نصحه مثقِّفوه باستثمار الشهرة في أفلام تبقى، فتصادف توافقها مع الخطاب الرسمي.
بعضهم أصرّ على القيمة، ورفض التنازل وإغراءات السوق، وربما أصابه اكتئاب لا تفلح معه الأدوية. وكان العزاء في ضمير نقدي يفرز العارض ويبعده عن الباقي، يشيد بالموهوبين، ويضعهم في المكانة اللائقة، ويتناسى أعمالا قليلة القيمة لا يطمع أصحابها إلا في الوجاهة والفلوس
كان عادل إمام، وفيلمه "الإرهابي" (1994). احتشد للإشادة به حتى الذين لم يكتبوا في السينما. جابر عصفور: "ممثل نادر.. وليس سوى عادل إمام من يمتلك القدرة المذهلة على تجسيد هذا النموذج". سمير فريد: "نجاحه الجماهيري لا يقارن إلا بنجاح شارلي شابلن ملك الجمهور في تاريخ السينما في العالم كله.. أرشح عادل إمام ليكون أول ممثل يفوز بجائزة الدولة التقديرية هذا العام.. أول ممثل يستحق أن يحصل على لقب فنان الشعب منذ يوسف وهبي وواجب الدولة أن تحميه وأن تقدره". صالح مرسي: "وكأن الأمر استفتاء!!". حُسْن شاه: "كان عالميا". حسن عبد الرسول: "الوحيد، المؤهل بحق، بشعبيته غير المسبوقة، لتكثيف مشاعر الجماهير وشحنها بالغضب تجاه دعاة الظلام". أحمد يوسف وحده الذي كتب مقالا عقلانيا عنوانه "عادل إمام.. من هتاف الصامتين إلى شعارات الحكومة".
بين الفني والسوقي
في الفنون والآداب كانت المسافة واضحة بين الفني والسوقي. الضمير النقدي يرفض الجمع بين نجيب محفوظ وإسماعيل ولي الدين. ولي الدين له أضواء السينما، ونسبة من مبيعات "روايات" جماهيرية يتجاهلها النقاد. ونجيب محفوظ له خلود استحقه، أيضا، شادي عبد السلام بفيلم روائي واحد. أُنتج "المومياء" عام 1969، وشارك في مهرجان فينيسيا عام 1970، ولم يعرض في مصر إلا عام 1975. في تلك السنوات الست، فقط، أخرج حسام الدين مصطفى 29 فيلما. وفي عام 1979 بدأ صحفي مصري يخرج أفلاما تجارية، بعضها من تأليفه. في خمسة عشر عاما أخرج أكثر من ثلاثين فيلما، تماثل تقريبا عدد أفلام كمال الشيخ ويوسف شاهين.
أرض الله واسعة. والفنون، الباقية والعابرة، ساحة لاختبار ديمقراطية التلقي. والجمهور متنوع، كلٌ يبحث عما يرضيه. والنقد لا يتنازل عن شروط الفن. ولا تغريه ظاهرة ترتبط بظرف يعاني اختلالا جماليا واجتماعيا وسياسيا. قد يقترب نقاد ومفكرون من هذه الأعمال في سياق التحليل الثقافي، وليس لتقصي جماليات مستحيلة. رهانات الضمير النقدي على القيمة، لا شفاعة للبيست سيلر، قصصا وروايات وأفلاما. وحين يغيب الضمير أو الكفاءة يلهث البعض في فراغ كان يجب أن يشغله نقاد حقيقيون. عدّة الشغل لا تفرق بين أعمال نجيب محفوظ وأحمد مراد وسلالة من كتاب لا تنشر أخبارهم في المجلات الأدبية، ويتفاعلون مع جماهيرهم عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
أرض الله واسعة. والفنون، الباقية والعابرة، ساحة لاختبار ديمقراطية التلقي. والجمهور متنوع، كلٌ يبحث عما يرضيه. والنقد لا يتنازل عن شروط الفن. ولا تغريه ظاهرة ترتبط بظرف يعاني اختلالا جماليا واجتماعيا وسياسيا
ضمير الناقد يتصدى للإجماع. فعلها يحيى حقي في مقال "مسرح الريحاني"، نشرته مجلة "الأديب" اللبنانية في أبريل/نيسان 1954. كان للريحاني "حضور"، "فلا يكاد صاحب هذه الموهبة يظهر على المسرح، وقبل أن ينطق بحرف أو يأتي بإشارة، حتى يستبد بالنظارة، ويجذب إليه قلوبهم ووجوههم وعيونهم وآذانهم، فتنبسط أساريرهم وتطيب نفوسهم ويزول عنهم الهمّ والغمّ ويتعالى الضحك والقهقهة، بل قد يضحكون لقول لا يسمعونه وسط الضجة، وقد يسأل أحدهم جاره بعد ذلك عن النكتة التي فاتته وضحك لها... بل لعلهم ضحكوا وهم يشترون تذاكرهم". الريحاني قلّد شارلي شابلن، "ولكنه حبس فنه المسروق أيضا في تمثيل متاعب طبقة واحدة هي طبقة الأفندية من موظفي الحكومة وأشباههم، ولولا غلبة هذه الطبقة على المجتمع المصري.. لما توفرت أسباب هذا النجاح السطحي للريحاني".
يحيى حقي لا يلوم الريحاني وحده، لأنه "كان من مظاهر عهد بائد اختلطت فيه القيم وأحيط الشعب المصري بحملة ضخمة من التدليس والخداع.. فليس من العجيب أن تكون فرقة الريحاني من قلائل الفرق المصرية التي مثلت في قصر عابدين، وليس من الغريب أن فاروق كان ينتقل إلى مسرحه، ويرى الجمهور جانب شاربه المعقوص في البنوار الملكي، إلى أن تنتهي المسرحية. ومن الأسى والأسف أن رئيس الديوان الملكي ـ ولن يتم تاريخ مصر الحديث دون الكشف عن شخصيته وأسراره ومدى أثره ـ يقف ليقدم الريحاني إلى مولاه.. وقد سمعته مرة يصف الريحاني قائلا: "هذا رجل يأكل عنده جمع من الناس على مائدة واحدة، ولكنه يتجشأ للفقراء بصلا، وللأغنياء ديكا روميا".
للتخفيف عن المكروبين
أتمنى لو أن أحد نقاد المسرح انتبه إلى دلالة كلام يحيى حقي، ليقدم تحليل مضمون لتراث الريحاني، وتلميذه فؤاد المهندس وخصوصا أعماله المسرحية والسينمائية الهزلية بعد هزيمة 1967، بتوجيهات من السلطة السياسية؛ للتخفيف عن المكروبين. كما أنتظر أن يكتب باحث دؤوب نقدا لنقد آلي يستعين أصحابه بعدّة السباكة، للتطبيق على أي نص، استنادا إلى رؤية أعينهم لأشخاص في زمن محدد يتحركون في أمكنة، ويتصارعون. لا يعدم "الناقد"، أعمى البصيرة والكفاءة والضمير، هذه العناصر في أي "رواية"، ولو من الأدب النظيف، منزوع الدسم، الخالي من النتوءات، المترفع عن الضعف البشري. الأدب الورقي الأملس يدغدغ المشاعر، "يتجشأ للفقراء بصلا، وللأغنياء ديكا روميا".
لا يكابر مخرجو الأفلام التجارية. لا يغضبهم أن تفوتهم جوائز لم يتقدموا إليها؛ لعلمهم بأن المخرج لن يرضي الله والشيطان معا. من فاز بفلوس الجمهور لا ينشغل بجائزة أو شهادة تقدير. كانت المسافة واضحة بين الفني ذي الطابع الإنساني، والتجاري المسلّي الذي لا يليق أن يشارك أصحابه في لجان التحكيم، هذا يهين الأعمال المتسابقة وأصحابها. وجاء تيار السينما النظيفة، والأدب النظيف الذي جذب "نقادا" جاهزين بعدّة السباكة، اختلقهم أو أغراهم. قد ينشر أحدهم مقالا عن "أصداء السيرة الذاتية"، ثم مقالا في مديح "رواية" تنتمي إلى الأدب النظيف ومؤلفها النجم الذي يحكّم روايات أدباء مرموقين؛ تضطرهم الحاجة إلى أموال الخليج "واهب اللؤلؤ والمحار والردى".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...