تترجّح صورة الحوادث السودانية، منذ اندلاع القتال بين الجهازين العسكريين والسياسيين الحاكمين في منتصف نيسان/ أبريل، بين- جملة وقائع يومية تتناول الطرق المقفرة والهواتف المعطلة، والجثث المتعفنة في المستشفيات وفساد الدم والأمصال في براداتها، وسرقة الهاربين من الخرطوم على حواجز المسلحين والمدقّقين في الهويات (تذاكر النفوس)، وقتل القصف من الجو سكان كتلة من المباني، وترقب نفاد الطعام في الأيام القليلة المقبلة- وبين التوجس من نذر "حريق كارثي يمكن أن يبتلع المنطقة (السودان والدول السبع المجاورة التي تكابد خمس منها أزمات أهلية وإقليمية حادة) بأسرها"، على قول أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، متردداً بين التقرير المخيف وبين تعويل ضعيف على ممكنات متفائلة ولا سابق لها.
ويذهب بعض آخر، وهم قلة، إلى تسمية نزاع لا يزال على عتبة الحرب الأهلية، ويسبق زجها بجماعات الأهل القومية (الإثنية) والعرقية والمحلية والدينية والاجتماعية في الاقتتال العام والتحاجز في مناطق "صافية"، بـ"حريبة الجنرالين"، ربما قياساً على أهوال الخوض في الدوامة الأهلية إلى الأذنين أو الأنف أو الذقن، بحسب استعارات متفرقة.
ويلاحظ هؤلاء أن المناشدات الإقليمية والدولية اقتصرت إلى الآن، وقد طوى الأسبوع الثاني من الاقتتال نصفه الأول، على التمني والدعوة إلى تفادي الأسوأ والتخويف منه. ولم تقترن المناشدات والدعوات بعد، على رغم هول الفظائع المشهودة والمحصورة (على زعم المراقبين)، بالتهديد والتلويح بالعقوبات، وتجميد الودائع والمنع من السفر إلخ...
الجريمة والعقاب
وينبغي أن يلاحَظ أن مواقف الدول الإقليمية و"الكبيرة" لا تتطرق إلى مسألة جوهرية في علاقات الدول والبلدان بعضها ببعض هي التبعات أو المسؤوليات عن الحوادث. وتترتب الإدانات والعقوبات وإجراءات الحصار أو حظر البيع والشراء، على تقرير المسؤوليات وتعيينها. ويتعذر غالباً مثل هذا التعيين في الحروب الأهلية، وفي مقدّماتها على وجه الخصوص.
وتوجّهُ العلاقات الدولية كلها إلى الانقسام الصارخ على المعايير أو القواعد، وإلى التكتل بناء على مصالح وأبنية سياسية داخلية وأساطير ("سرديات")، يجعل الحكم في المسؤوليات عسيراً جداً إنْ لم يكن مستحيلاً. وإذا لم يكن الطرف المبادر إلى العنف "دولة"، أي جماعة أهلية استولت "نخبها" العسكرية على الإدارات، أو حزباً مقاتلاً، دينياً على الأغلب، وكان جهازين عسكريين محترفين ورسميين وغاصبين، على ما هي حال السودان، تعاظم عسر صوغ الرأي في المسؤوليات.
والعقوبات في هذه الأحوال، على مختلف صيغها ومهما حرصت على حصر نتائجها في أفراد أو كيانات دون غيرهم (وغيرها)، تصيب دوائر من الناس أوسع كثيراً من أولئك المقصودين بها. ويملك مَن هم في السلطة، أو رؤوس الجماعات الأهلية المتحاربة، التحايل على العقوبات وحرفها عن بلوغهم والإضرار بهم، وإيقاعها على كثرة الناس "المواطنين".
وما يلحق السودانيين من عواقب حرب الجهازين في أيامها الأولى بل في يومها الأول، قبل أي عقوبة أو إجراء رادع، بلغ من القسوة والإيلام ما يفوق أثر لائحة طويلة من الإجراءات التي ترمي إلى الردع، ولا تعلم مَن تلقي بالمسؤولية على عاتقه، وعلامَ تلقي بها عليه. فالمفاضلة بين الجهازين، الجيش النظامي والدعم السريع "الرديف" (وهذا غير صحيح)، عسيرة.
والأقرب إلى الصحة والعدالة والواقعية هو المساواة بين الفريقين في الإدانة والاستبعاد والقصاص. ولكن الرأي العادل والواقعي هذا، يصح فيه القول في صاحب الأخلاق المثالي المجرد: يداه طاهرتان ولكنه من غير يدين. ويقتضي التأثير في السياسة السودانية، وفي حرب الجهازين العسكريين قبل تغلغلها في الأحزاب والكتل والجماعات والديار والمديريات، التعامل مع "الأيدي".
ولم تبادر أيدٍ سياسية وغير مسلحة بعد- ما خلا بياناً صدر، في 24/4، عن قوى سياسية ومنظمات مجتمع مدني ونقابات، في مدينة الفاشر بوسط السودان، ودعا إلى إنشاء "جبهة مدنية واسعة"، وإلى وقف القتال الدائر- إلى الانخراط في سياسة سودانية فاعلة. وفي ضوء الأعوام الأربعة الأخيرة، المنقضية على إطاحة عمر حسن البشير وبعض نظامه، والتعبئة المدنية العريضة والعنيدة والمديدة التي جابهت التسلط العسكري النظامي و"الرديف" على الحكم وأخفقت إخفاقاً دامياً في جبهه، يبدو انتظار القوة السياسية المرجوة هذه، في خضم عنف "أعمى"، على ما يصفه السودانيون، رهاناً صعباً.
التوأمان
وصعوبة الرهان على "عودة" السياسة إلى السودان الواقع فريسة الجهازين، أو على "إعادتها" من طريق المؤتمرات وقراراتها أو من طريق إجراءات عسكرية وأمنية أممية أو إقليمية، مردّها إلى نشأة الأزمة العاصفة، وبلورة دوريْ الجهازين في سياق الأزمة السياسية العامة والمزمنة التي أصابت الدولة والمجتمع السودانيين، ولا يزالان أسيريها المرغمين. والفرق الذي يلوَّح به بين جسم عسكري ونظامي أصيل، وبين جسم غير نظامي وطارئ، كان ليعوَّل عليه، ويقبل دليلاً إلى التمييز والترجيح، لولا اصطباغه بصبغة "الدولة"، البشيرية (نسبة إلى عمر البشير) والنميرية (نسبة إلى جعفر النميري) والعبّودية (نسبة إلى إبراهيم عبود)، من آخر جنرال انقلابي إلى أولهم.
"مساكنة جهازين مختلفين ومتناقضين (الجيش السوداني وقوات الدعم السريع)، على ما يفترض، وتوأمين، من سمات أنظمة ديكتاتورية وقمعية، ‘أهلية- ملية’، لا تُحاسب ولا تسأل"
فتمييز النظامي والعام، أو العمومي شأن الدولة وقوانينها وإقرارها بحقوق مواطنيها ومساواتهم- من الميليشياوي والخاص والملحق بـ"المتفرقات" التي يَتَصَرَّف بها مَن لا يُسأل، يصح التمييز ويصدق في أحوال غير أحوال العهود التي توالت على السودان منذ غداة استقلاله في 1956، وانقلاب عبود بعد سنتين من الاستقلال المدني. فسمة هذه العهود وأمثالها هي توأمة الأجهزة التي تنشئها، أي ازدواجها جهازاً رسمياً "محترماً"، وآخر مقنّعاً، توكل إليه المهمات القذرة. ولا ينكر الجهاز الرسمي الجهاز الخفي أو شبه الخفي، على نحو ما لا يحل هذا محل ذاك. فمساكنة جهازين مختلفين ومتناقضين، على ما يفترض، وتوأمين، من سمات أنظمة ديكتاتورية وقمعية، "أهلية- ملية"، لا تُحاسب ولا تسأل.
وقوات الدعم السريع، بقيادة محمد دقلو (حميدتي)، تتحدّر من الجماعات القبلية العربية والدارفورية والمعروفة بالجنجويد في ما بعد، التي سلّحها جعفر النميري في أوائل عقد 1980، واستعملها الضابط الذي خلفه، عبد الرحمن سوار الذهب، في 1985، وحارب بها الجيش الشعبي لتحرير (جنوب) السودان، الإفريقي وغير العربي وغير المسلم.
وانتقل هؤلاء المقاتلون، في 1989، إلى جنوب دارفور، وقاتلوا وحدات الجيش الشعبي هناك. واندلعت حرب أهلية جديدة في جنوب كردفان. فندب العشرون ألف مقاتل غير النظاميين إلى القتال هناك. وآذن توالي الجبهات بتجاوز الجنجويد وضع القوات الرديفة، وبدمجها في "المؤسسة" العسكرية النظامية، من غير إلزامها بالتخلي عن بنيتها الأهلية واختصاصها العشائري.
ففي هذا العام، 1989، وهو عام استيلاء البشير على حكم السودان، انتدب مقاتلون من قبائل البقّارة، بجنوب دارفور، ومن المسيرية، من جنوب كردفان، إلى قتال متمردي جنوب البلاد. ودمج المقاتلون في وحدات شبه عسكرية، وفي إمرة القوات الحكومية. وعلى هذا، نشأت القوات شبه العسكرية عن قصور القوات النظامية عن قتال حركات التمرد الإفريقية، قبل تحولها إلى حركات انفصالية واستقلالية وبعد تحولها.
والسبب الأول في تمرّدها على الخرطوم هو نزوح قبائل رُحَّل ورعي، عربية ومسلمة، من الوسط والشمال، إلى جنوب زراعي ومتوطن إفريقي، ورعاية الدولة هذه القبائل ومماشاة فرضها ترتيباً عرقياً واجتماعياً طبقياً جديداً يسلط قبائل العرب الرعاة على قبائل الإفريقيين المزارعين. وتوسَّلَ البشير بالميليشيا إلى موازنة الجيش بسبب ضعف ولائه للبشير الخارج من صفوفه، والمدين بسلطته إلى زملائه الضباط وأمثاله، وتناوب حملات التطهير عليه.
الرديف والأصيل
وهذا التعليل الشائع لا يقنع جيروم لاكروا لوكلير وبيار بهلوي، الباحثين الفرنسيين وكاتبي مقالة بعنوان "دارفور، مَن هم الجنجويد؟"، نُشرت في دورية "بوليتيك ايترانجير" (السياسة الخارجية)، المجلد الثاني، 2012. فهما يحملان ارتقاء الميليشيا غير النظامية مرتبة متصدرة ساوتها بالقوات المسلحة الوطنية وقدّمتها عليها ربما، على حوادث طارئة وداهمة أملت حلولاً مرتجلة في بادئ الأمر، وأمست في صلب سياسات الدولة البشيرية وسننها وتقاليدها.
ومن هذه الحوادث هجوم جيش تحرير السودان وحركة العدالة والمساواة على حامية الفاشر، في 25 نيسان/ أبريل 2003. وأوقع المهاجمون في صفوف الجيش خسائر فادحة فاقت خسائره في أثناء العشرين سنة الفائتة من النزاع مع الحركات الاستقلالية والانفصالية. وتوسعت رقعة سيطرة جيش تحرير السودان في أعقاب الهجوم، وتهدد الخرطوم وعمر البشير بخسارة دارفور كلها، وطاقم الحكم بانقلاب الجيش عليه وخسارة الحكم.
"‘الجنجويدية’، على تعريف علي هجّار، أحد الباحثين في الظاهرة، هي مُرَكَّبٌ من خارجين على القانون وقطاع طرق، ومسلحين قبليين عرب وغير عرب يقتلون ويشردون من غير رادع تحت سلطة مسؤولين سودانيين متواطئين"
فاستعاض البشير وطاقمه عن تأهيل جيش يعد 110 آلاف جندي ثقيل التكلفة، وخرج جريحاً ومهيضاً من موقعة الفاشر وغير مضمون الولاء ولا كفؤ لخوض حرب طياحة وغوار من هذا الصنف، بقوات الجنجويد الجاهزة. فدعا 20 ألف جنجويدي، هم قوام ما يُعرف بقوات الدفاع الوطني، إلى قتال قوات حركات "التحرير" في جنوب السودان، وجنوب دارفور وجنوب كردفان.
وكافأ البشير الجنجويد على قتالهم غير المقيّد بقوانين الحرب وآدابها، وعلى إنزالهم بالجماعات التي خرج منها مقاتلو الحركات المحلية فظائع تدخل في بابي جرائم الحرب وجرائم في حق الإنسانية، (كافأهم) بدمجهم، على ما مر، في القوات النظامية. وغدا استعمال الميليشيات في مكافحة الحركات المسلحة النهج السوي والشائع. وتعاونت الوحدات النظامية مع الجنجويد في معظم الحملات على قرى دارفور. وأقر مرسوم جمهوري، في تشرين الثاني/ نوفمبر 1989، إطاراً قانونياً أدخل فيه جيش الدفاع الشعبي، ورسم مراتب قيادة يتربّع البشير، رئيس الدولة، في قمتها. وضمن القانون حصانة المقاتلين من العقاب. ودين البشير نفسه بجريمة الإبادة فتوافد قادة عرب إلى السودان تأييداً له.
وقضى اتفاق أبوجا، في أيار/ مايو 2006، بين الحكومة وحركات التمرد، بفك الحلف بين الحكومة والجنجويد. فتحولت الميليشيات العربية إلى مرتزقة، وبعضها إلى قطّاع طرق. واستقلت جماعات منهم بنفسها وأعمالها، على غرار جنجويد غرب دارفور، القريب من تشاد. ومنذ 2007، فشت ظاهرة "الجندي المظلوم" أو الجنود البطالين. وبرزت الميليشيات العربية على شاكلة قوة سياسية ترفع لواء القضية القومية (الإثنية). وعين موسى هلال، أحد قادة جنجويد دارفور، في كانون الثاني/ يناير 2008 مستشاراً لوزير الشؤون الاتحادية.
وتجدد العنف القومي والديني بعد استقلال جنوب السودان في 2011، وإخفاق اتفاق السلام. وفتحت جبهة حرب جديدة في شمال كردفان وجنوبه، وتجددت الحاجة إلى تحريك الجنجويد دعماً للعرب المسَيْريّة الذين قامت عليهم الحركات الإفريقية. فوقّع رئيس الدولة، في 2013، مرسوماً جمهورياً ألّف بموجبه قوة عسكرية محلية من خمسة آلاف مسلح قبلي عربي. وتولى موسى هلال التنسيق بين القبائل العربية وبين النظام العسكري. وكان هلال- وهو شيخ عشيرة أم جلول، من قبيلة المحاميد بدارفور وحلف الرزيقات الشمالي- محازباً لحزب المؤتمر الوطني الإخواني (وعلى رأسه حسن الترابي).
"فتح تراجعُ عبد الفتاح البرهان عن مساواته محمد حمدان دقلو (حميدتي) بنفسه ومحاولتُه إلزام غريمه بدمج قواته في الجسم النظامي وفي غضون مدة قصيرة، وحسم الإثنينية المعلقة والحائرة، (فتح) الباب عريضاً على سباق تعبئة وتجنيد وتسليح محموم"
ولما فترت علاقات الجماعات المسلحة المحلية بالخرطوم وطاقم الحكم فيها، خرج القائد الجنجويدي من الحزب الحاكم، وأنشأ "حزبه"، المجلس الثوري لحزب اليقظة السوداني، في أوائل 2014. وأعلن توليه إدارة شمال دارفور، وضم إليها مدن سرف وعُمْرا وكُتوم وكبكبية، ومنطقة الوها. وعندما أوقف موسى هلال، في خريف 2017، زعم أنه شيخ عشيرة، وليس "لصاً جنجويدياً".
وقال إن أعمال الجنجويد، القتل والسبي والتحريق والتعذيب والاغتصاب والخطف والرق أو الاستعباد، أمر بها البشير. أما هو فطريقه الجهاد، ولن يرمي سلاحه إلى حين إخلاء دارفور من القبائل الإفريقية. وهذا الانتقال بين "خاص" القبائل وبين "عام" أو "عمومي" الدولة المفترضة، داوم على مزج الجيش بالميليشيا، والقانون بالانتهاكات. وتستر على الجرائم، والمسؤولية عنها، بازدواج وتوأمة أدرجا في صلب المؤسسات أو مباني الدولة.
بين الأهل والدولة
ومحمد حمدان دقلو (حميدتي) (أي محمد الصغير أو الطفل على سبيل التودّد، كناية عن طفولة الوجه، ونظير "حمودي" في لغة المشرقيين) كان على رأس "قوات الدعم السريع"، الميليشيا المسلحة التي أنشأها مرسوم 2013 الرئاسي، ويتحدر مجندوها من فروع الجنجويد التي ترجحت بين الاجتماع والتفرق، وبين الاندماج في مرافق الدولة وبين الخروج عليها وقتالها، وقتال العشائر العربية التي ترعاها. وزاول المراهق الفتى، بعد تركه المدرسة مبكراً، تجارة الجمال والنوق في شمال دارفور، البلاد القريبة من تشاد حيث ترعى عشائر المحاميد والمَهَرية (من الرزيقات).
وقاتل المَهَري الشاب في صفوف جماعة موسى هلال. واقتفى سُنّة شيخه، وتردد بين القتال تحت لواء عمر البشير وبين الخروج عليه حين تأخر تسديد الرواتب. وشأن إخوانه الذين يدخلون في "المنظمات" القبلية كتلاً، كتّل في إمرته جماعة مقاتلة معظم ضباطها من المَهَرية، عشيرته الأقرب. وضوت جماعته منشقين عن جيش تحرير السودان، الإفريقي والمسيحي، وبعض الفور، الإفريقيين كذلك.
وصالح الخرطوم حين عَرَضت عليه تسديد الرواتب "المرتجعة" أو "بمفعول رجعي" (التي لم تسدد في أوقاتها)، وعائداً مقطوعاً ("بونس") عالياً، ورتبة فريق أول ساوته بقائد القوات المسلحة. وأدخلته، وقواته، في إطار جهاز الاستخبارات والأمن الذي كان يخوض في تشاد حرباً بالوكالة. واستقل استقلالاً كاملاً عن شيخه السابق موسى هلال (ووثق هذا حلفه بإدريس ديبي، الرئيس التشادي، فزوجه ابنته، أماني)، وحل محله في بنية الأجهزة العسكرية. ونافسه، منذ 2012، على ذهب جبل عامر في شمال دارفور، في أثناء الأزمة الاقتصادية التي انفجرت غداة استقلال جنوب السودان واستحواذه على 75 في المئة من النفط.
وألحق المرسوم الرئاسي قوات الدعم السريع بإمرته المباشرة، ولقب قائدها الشاب، "حميدتي"، بـ"حمايتي". وأغدق عليه معسكرات التدريب على مقربة من الخرطوم، على ما يليق بالحرس "الإمبراطوري" والنخبة الأمينة. ووهبه مئات مركبات "لاندكروز" والرشاشات الثقيلة. وأوكل إليه قتال متمردي كردفان، حيث لم يبل البلاء المتوقع، وتمرد دارفور، حيث "تحسن" أداؤه، أي تحرره من قواعد القتال.
وانقلب الرجل على مَن كان "حمايته" بالأمس القريب، على نحو ما خالفه وخدمه ثم قاتله وحالف خصومه والمتمردين عليه، وعاد إلى خدمته لقاء أجر وجوائز. فـ"الجنجويدية"، على تعريف علي هجّار، أحد الباحثين في الظاهرة، هي مُرَكَّبٌ من خارجين على القانون وقطاع طرق، ومسلحين قبليين عرب وغير عرب يقتلون ويشردون من غير رادع تحت سلطة مسؤولين سودانيين متواطئين، ومن "قوات الدفاع الشعبي" و"مصلحة استخبارات الحدود".
وجاء انقلابه، شأن ولائه من قبل ومزاعمه اليوم في تأييد الحكم المدني بعد اشتراكه في إقالة رئيس الحكومة المدنية عبد الله حمدوك وخلعه، ملتبساً. فغداة انحيازه إلى حراك إعلان قوى الحرية والتغيير، في شتاء 2019، أقدم على فض اعتصام هذه القوى في الثالث من حزيران/ يونيو من العام نفسه، وسحقه في الدم. وذلك على شاكلة قتاله، وقتال شيخه موسى هلال حركات التمرد في دارفور وكردفان وشرق تشاد.
الرئيس و"الوزيران"
وحرر عزل قوات الجيش وقوات الدعم، مشتركتين، الرئيسَ و"القائم بالمحل الأول"، على قول ابن المقفع في المَلك، المنافسة بين قائمَيْن بـ"المحل الثاني" أو "الوزارة". فما تقدم "الوزيرين" العسكريين، البرهان ودقلو، مَن يرأسهما، عمر البشير، قيدت الرئاسة الثابتة المنافسة، وقصرتها على المحل الثاني، أو المرتبة الثانية، إلى أن يضعف صاحب الرئاسة الأولى، ويقوم عليه الوزيران قبل أن يقوم واحدهما على صاحبه ويعزله.
وتعلُّل الفريق أول عبد الفتاح البرهان بتقدم مرتبته العسكرية النظامية على مرتبة الفريق أول محمد حمدان دقلو، الميليشاوية، لا يستقيم. فهو سبق وقلده مفاوضة قوى إعلان الحرية والتغيير باسم القوات المسلحة، وندبه، بعدها، إلى مفاوضة الحركات المسلحة في دارفور وكردفان والنيل الأزرق باسم الحكومة. ورأّسه على اللجنة الاقتصادية التي أوكل إليها النهوض باقتصاد السودان، وفضّله على الخبير الاقتصادي الأممي، رئيس الحكومة المدني. وسبق التدابير الجسيمة هذه، حلّه "الدعم"، وقائده من التبعية للجيش، وإلغاؤه المادة (الشكلية) التي موّه بها البشير استقلال ميليشيا متحدرة من الجنجويد عن المرفق النظامي والقانوني.
وفتح تراجعُ البرهان عن مساواته دقلو بنفسه ومحاولتُه إلزام غريمه بدمج قواته في الجسم النظامي وفي غضون مدة قصيرة، وحسم الإثنينية المعلقة والحائرة، (فتح) الباب عريضاً على سباق تعبئة وتجنيد وتسليح محموم. ولا شك في أن التوقعات السياسية في شأن موازين القوى الداخلية وأطوارها، وميلها إلى ترجيح البت في الخلاف المدني- العسكري، ومواقف القوى الخارجية من الترجيح وما بعده، عجلت في رجوع البرهان عن تردده وإطالته مساوماته.
والرجلان عوّلا على القوة العسكرية. وحسب البرهان أن سلاح الجو يضمن انتصاره بضربة أولى قاضية على عدو يفتقر إلى هذا السلاح، وجَمَعَ معظم قواته في العاصمة المثلثة وضواحيها القريبة، ويتمتع بالقدرة على الانتشار والتشتت والحركة. وأراد دقلو تعويض الثغرة القاتلة هذه في جهازه. فبادر، في 13 نيسان/ أبريل، إلى حصار أكبر القواعد الجوية السودانية، قاعدة مروي الشمالية والقريبة من "حليف" البرهان المصري. وقدَّر أن شلها ينتزع من البرهان تفوقه.
وكان دقلو أوصى الصناعة العسكرية التركية التي تنتج مسيرات "بيرقدار"، وهذه أظهرت فاعليتها في الحرب الروسية على أوكرانيا ودورها في صد العدوان على كييف، على عدد كبير من هذه المسيرات. وكشفت استخبارات البرهان عن حوالة مالية يسدد صاحب الدعم بموجبها جزءاً من ثمن المسيرات. وآذن الكشف، مع رصد محاولة حصار قاعدة مروي، برد البرهان واندلاع القتال على الشاكلة "العمياء" التي اندلع عليها.
ولا يستنفد العامل العسكري الصرف، وهو ليس صرفاً في المعسكرين، الحسابات السياسية. فروافد الكتلتين، الأهلية والسياسية، العسكرية والاقتصادية، الداخلية والخارجية، كثيرة ومتشابكة، وينبغي إضافة: متغيرة ومتلونة. وتنذر كلها بموارد اقتتال احتياطية، غنية ومتجددة، وبتحول السياسة السودانية إلى استمرار الحروب الأهلية بوسائل عنيفة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين