شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"غرفة مؤقتة أصبحت سكناً مدى الحياة"...الشيباني مهاجرو شمال إفريقيا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والمشرّدون

الأربعاء 26 أبريل 202303:40 م

يجلس محمد ب. على حافة سرير مهترئ في غرفة ملأى برائحة السجائر.  وإذ يسعل تهتز كتلة عظام هرمة نخرها الزمن والوهن، ثم يستدير يميناً ويساراً وكأنه يبحث عن منقذ يخلصه من حياة أصبحت عبئاً عليه، طالباً مني أن أدعو له: "بالموت بين أحضان أسرته في الجزائر".

كان رجلاً ثمانينياً، يعيش وحيداً في غرفة في مساكن خاصة بالمتقاعدين المهاجرين في مدينة ليون الفرنسية. اضطرته ظروفه الصحية وأعباء عائلته الكبيرة إلى البقاء في فرنسا للاستفادة من النظام الصحي المجاني والحصول على راتب تقاعدي.

يقول محمد: "لا أملك خياراً. بناتي وأسرة أختي الأرملة يعوّلن علي. يعشن على ما أحوله لهن من معاشي. لا يتبقى لي إلا ما يسد رمقي. أغادر غرفتي لزيارة الطبيب أو التسوق أو لشأن إداري. أنا ميت مع وقف التنفيذ".

وصل محمد إلى فرنسا في ستينيات القرن الماضي، ولا يتعدى معاشه 500 يورو، ويعاني اليوم من هشاشة العظام وإعوجاج في أصابع اليد، مثله مثل الآلاف من المهاجرين الذين غادروا الجزائر والمغرب وتونس في فترة الشباب إلى فرنسا خلال الثلاثينيات المجيدة (1946-1975) بقصد العمل في مجال البناء أو الزراعة أو المناجم وغيرها، حسب مكان استقرارهم، شمالاً أو جنوباً. ورفض معظمهم أن تلتحق بهم زوجاتهم وأطفالهم أو لم تسمح لهم ظروفهم المادية بذلك. 

 يطلق عليهم الفرنسيون صفة "الشيباني" و"الشيبانية" في إشارة إلى المهاجرين المسنين الذين خدموا فرنسا ولم يعودوا إلى أرضهم الأصلية ويعيشون بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط

هؤلاء المتقاعدون الذين تراوح أعمارهم بين 75 و82 عاماً، يطلق عليهم الفرنسيون صفة "الشيباني" و"الشيبانية" في إشارة إلى المهاجرين المسنين الذين خدموا فرنسا ولم يعودوا إلى أرضهم الأصلية ويعيشون بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط. وقد قضى البعض منهم حياته كلها في نفس الغرفة في بيوت تم بناؤها لاستقبال العمال المهاجرين، غالباً ما تكون صالة نوم بها مطبخ صغير وحمام. كان من المفترض أن تكون سكناً مؤقتاً لكنها أصبحت منزلهم الدائم، فيما كان البعض الآخر محظوظًا لتمكنه من استئجار شقق.

معارك كبيرة

اليوم، بعد التقاعد وجد الآلاف أنفسهم مضطرين للبقاء في فرنسا للحصول على "بدل التضامن للمسنين". هذه المساعدة المدفوعة بالإضافة إلى المعاش الضئيل، تتيح لهم الحصول على ما يعادل الحد الأدنى للشيخوخة، وتخص أولئك الذين لم يصرح رب العمل بساعات عملهم كاملة أو بالساعات الإضافية أو بإجازاتهم المرضية.

"للحصول على هذه المساعدة، يجب على المهاجر المتقاعد أن يثبت إقامة مستقرة ومنتظمة، أي الإقامة ستة أشهر على الأقل في السنة". يشرح سالم فكير، رئيس الجمعية الفرنسية المغربية "كاب سود MRE" لرصيف22. وهو من المناضلين الذين سعوا إلى حل ملفات عالقة تهم الشيباني، وآخر معاركه توجت يوم 23 يوليو/تموز 2019 بسن قانون جديد يمكّن عمال شمال إفريقيا المتقاعدين الذين يحصلون على معاش كامل دون مساعدات من العودة إلى ديارهم بشكل نهائي مع الاستمرار في الاستفادة من حقوق الضمان الاجتماعي في فرنسا. وبالتالي، لن يضطروا إلى تقديم إثبات الإقامة لتلقي العلاج في فرنسا أو تحويل معاشهم إلى حيث هم.

لكن الكفاح من أجل حقوق الشيباني لم ينته بعد. وفقاً لرئيس جمعية كاب سود MRE: "لا تزال هناك حالة المستفيدين من بدل التضامن للمسنين، الذين ما زالوا مضطرين لإثبات أنهم يقضون أكثر من ستة أشهر في فرنسا حتى يتمكنوا من الاستفادة منها".

العزلة والهشاشة 

وبين اختيار والتزام، هم الآن في مواجهة العزلة، بعيدون عن أبنائهم الذين لم يعد يربطهم بهم إلا بعض الدنانير التي تصلهم شهرياً وزيارات يتيمة كل سنتين أو أكثر. العديد منهم يعاني الفقر والهشاشة، وأغلبهم لا يتقن الكتابة والقراءة ويتحدث فرنسية متلعثمة.

العديد منهم يعاني الفقر والهشاشة، وأغلبهم لا يتقن الكتابة والقراءة ويتحدث فرنسية متلعثمة.

لهذا تأسست عدة جمعيات تدعم "الشيباني والشيبانية"، وتساندهم في معاركهم الإدارية، في مجموعة من المدن الفرنسية كما هو الحال مع جمعية "لوليفيي دي ساج" التي تأسست في عام 2008 وتتخذ من مدينة ليون مقراً لها.  

تسعى هذه الجمعية لكسر عزلة هذه الفئة، عبر توفير المساعدات الاجتماعية والقانونية. وتنظم الرحلات والأسفار للمسنين وتساهم في تيسير نقل جثامين من وافته المنية منهم وحيداً في بلاد الغربة. 

وفي الآونة الأخيرة، أنشأت الجمعية قاعة اتصال رقمي لمواجهة الفجوة الرقمية. أسطول صغير من أجهزة الكمبيوتر، يتم خلال جلسات تدريبية تلقين بعض الأساسيات للشيباني الراغبين في التعلم.

وفي حديثها لرصيف 22،  تؤكد زورا فرحات، مديرة الجمعية، التي كانت أول من أسس "كافيه اجتماعي" للشيباني في مدينة ليون في عام 2009.  أن المساكن التي تشرف عليها  تستقبل حوالي 800 مهاجر متقاعد من 19 جنسية، والغالبية العظمى منهم من الجزائر. يقطنون في غرف أو شقق مشتركة، يختلف سعرها باختلاف الموارد. منهم من يدفع 150 يورو وآخرون 300 يورو. معظمهم يبرر بقاءه في فرنسا لأسباب صحية أو لحصوله على معاشه كاملاً".

وتتابع: "أغلبهم يعيش في فقر مدقع وعزلة وكآبة، وعدم إتقانهم للكتابة والقراءة بالفرنسية يفقدهم الكثير من حقوقهم. نحن نكتب المراسلات ونطلب الاستفسارات لحل مشاكلهم الإدارية".

الشبانيات… مستبعدات من تاريخ الهجرة

يتحدث الحافظي عماد، أخصائي في طب المسنين ورئيس الرابطة الأورو-مغربية لطب المسنين وعلوم الشيخوخة،  عن "منسيات الضفتين" أي "الشبانيات" أو أرامل الشيباني. ويرى أنهن "مستبعدات من تاريخ الهجرة الوطني، إذ تم تجاهل الدور الكبير الذي لعبنه داخل الأسرة والمجتمع، هن اليوم أمهات وجدات ومن حقهن الاعتراف والتقدير".

"الشبانيات، مستبعدات من تاريخ الهجرة الوطني، إذ تم تجاهل الدور الكبير الذي لعبنه داخل الأسرة والمجتمع، هن اليوم أمهات وجدات". الحافظي عماد، أخصائي في طب المسنين

وبما أن غالبية اللواتي التحقن بأزواجهن في فترة الشباب اكتفين بتربية الأبناء وبدخل الزوج لدى وفاته في مرحلة التقاعد، فكان عليهن الانتظار حتى انتهاء المعاملات الإدارية للاستفادة من معاش أزواجهن، والتي قد تأخذ وقتاً طويلاً بسبب عدم اتقانهن اللغة الفرنسية أو جهلهن بحقوقهن.

كما هو الحال مع الأرملة الجزائرية الحموشي ف. التي لا تتقن اللغتين العربية والفرنسية، وتتحدث بالأمازيغية فقط. تقول لرصيف22 إنها كانت تقتات من الخبز الذي يقدمه المارة إلى الحمام في الشارع قبل أن تحصل على معاش زوجها.

وبحسب الأرقام التي أمدنا بها سالم فكير، يوجد في فرنسا إلى عام 2019، حوالى 192 ألف شيباني جزائري، و172 ألف مغربي و40 ألف تونسي.

تختلف الروايات والشخصيات. لكن الظروف التي مر بها الجيل الأول من مهاجري شمال إفريقيا تبقى واحدة، يسردونها في كل مرة يجمعهم فنجان قهوة ويتذكرونها وكأنها حصلت في الأمس القريب. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image