شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
أنا شخصية رئيسية في رواية فوضوية...

أنا شخصية رئيسية في رواية فوضوية...

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والتنوّع

السبت 8 أبريل 202311:13 ص

حياكة الكلام


أحياناً تكون الحياة بالنسبة لي محض رواية طويلة، بعض أحداثها أكثر تشويقاً وإثارة من غيرها، تتماسك بعض أجزائها، ويترهل السرد في البعض الآخر، فتشوبها تفاصيل مملة زائدة، تجعلني أرغب في قلب الصفحات سريعاً، وتكفيني مجرد نظرات عابرة لسطورها، بينما تكون بعض صفحات رواية حياتي رائعة لدرجة تجعلني أرغب في العودة إليها وقراءتها مجدداً، وتؤلمني صفحات أخرى حد البكاء بمرارة.

وفي أوقاتٍ أخرى تغدو كلمات مبعثرة، مجرد خربشات حبر على ورق، لا أستطيع أن أجد لها معنى، وأحتار طويلاً في تفسيرها، وأجد نفسي عالقة بين السطور في بعض الصفحات غير قادرة على أن أخطو قُدماً للأمام، كما أعجز أيضاً عن العودة بالزمن إلى الوراء.

أراقب حياتي من بعيد كغريبة عنها، مُتقمّصة دور القارئ، فأصير مجرد شخصية رئيسية في رواية فوضوية، كتبتها أقدار غامضة، تتنوع فيها الأمكنة وتكثر بها الشخصيات الفرعية، ويسير الزمن أفقياً، يتسارع كالبرق أحياناً ويتباطأ كرتابة حركة عقارب الساعة في أحيان أخرى.

تقمُص دور الكاتبة

كثيراً ما أضبط نفسي وأنا أتقمص دور الكاتبة على أرض الواقع، وأعامل الآخرين وكأنهم شخصيات روائية، منها العميقة ومنها المُسطّحة، بعضها نحبه والأخر نبغضه، البعض يأسرنا فنتورط معه، ونجد انعكاساً لذواتنا في شخصيات أخرى؛ فنتحد معها في المصير نفسه أو نمارس إسقاطاً نفسياً عليها، وبعض الشخوص تمر سريعاً أمامنا بصورة عابرة لا تترك أثراً في نفوسنا، والأخرى تترك علامات في الروح لا تزول بسهولة، وهناك شخصيات تتشابه فيما بينها وأخرى متفردة ومميزة كبصمات الأصابع. 

وكلما واجهت موقفاً يتصرف فيه شخص ما على نحو غامض أجدني رغماً عني أسارع إلى التفكير في دوافع الشخصية والتنقيب بين السطور في ماضيها وحاضرها، وخلفياتها الاجتماعية والنفسية الثقافية، للبحث عن مبرّرات لتصرفها أو رد فعلها الغريب؛ فأنا أؤمن بأن لكل  شيء سبب وأن لكل فعل رد فعل.

أراقب حياتي من بعيد كغريبة عنها، مُتقمّصة دور القارئ، فأصير مجرد شخصية رئيسية في رواية فوضوية، كتبتها أقدار غامضة، تتنوع فيها الأمكنة وتكثر بها الشخصيات الفرعية... مجاز

أبحث دوماً فيما بين السطور وأربط بين أدق التفاصيل وأُفتش عن الأسباب الخفية للمواقف والدوافع المستترة عند الأشخاص، ولا يروقني أن أجلس على مقاعد المتفرجين لأشاهد الممثلين يعتلون خشبة المسرح، يؤدون مسرحية ما، بقدر ما تسعدني مراقبة ما يدور في كواليسها من أحداث، وأحياناً لعب دور المخرج الذي يختفي خلف الستار، لكنه يُحرك الأحداث والشخصيات.

سيناريوهات مُتخيلة في رأسي

منذ طفولتي ولعت بممارسة لعبة ما، وأدمنت ممارستها على مدار سنوات، كنت في البداية كرضيع يحبو ويتمرّن على الوقوف ومحاولة السير، فتزلّ قدماه الهزيلتان أحياناً ليسقط أرضاً، يبكي قليلاً ثم يمسح دموعه ويحاول من جديد، حتى صار قادراً على الركض كغزال والتحليق بخفة الفراشات.

كانت لعُبتي المُفضّلة هي خلق سيناريوهات متخيلة للأحداث ومنولوجات داخلية وحوارات افتراضية بيني وبين الأشخاص، ولا سيما كلما وصلت لمنعطف حاد أو تقاطع طرق أو واجهت موقفاً حرجاً أو اضطررت لاتخاذ قرار مصيري. كانت سيناريوهاتي تخطأ في أحيان كثيرة، وحواراتي الافتراضية لا تجري على النحو نفسه مهما كرّرتها في عقلي مراراً، وربما لا تحدث على الإطلاق إن تغيرت المعطيات أو لم يكن الحظ في صالحي؛ أما اليوم فغالباً ما تتحقق توقعاتي لتصرفات الأشخاص وردود أفعالها بشكل لا يصيبني بالصدمة، وأتخذ معه تدابير احترازية مُسبقة.

صانعة دراما بامتياز

عقلي يشبه مصنع أفكار وأحداث يعج بالفوضى، أٌعيش حيوات افتراضية في عوالم موازية تدور في رأسي، مفتاحها اسمه "ماذا لو؟"، فأعود للوراء وأتخيّل سيناريو حياتي يسير في اتجاه معاكس إذا كنت قد اتخذت قراراً مناقضاً، وفي أحيان أخرى أستبق الأحداث وأسافر للمستقبل الغامض، وأتخيل سيناريوهات متوقعة لشكل حياتي المستقبلية إذا واجهت صدمة فقدٍ لعزيز أو هزّة مزلزلة، وكأني أدرّب نفسي على احتمال الألم النفسي وأعيشه في عقلي قبل أن أواجهه على أرض الواقع، أغوص في أعماق عقلي باحثة عن أشد مخاوفي بؤساً فأنسج منها تخيلات أتماهى داخلها وأتقمصها أحياناً فأعيش الألم مرتين، وكأن آلامي الحقيقية غير كافية.

كنت أغضب وأثور حين يتهمني شريك حياتي بالتأثر بالروايات وإسقاطها على حياتي وصنع مواقف درامية واستنتاجات خيالية تدور في عقلي فقط، شعرت حينها بأنه يستهين بمشاعر الألم والمعاناة لدي، ولم أدرك وقتها أنني كنت عالقة وسط لعبتي التي أدمنتها منذ الطفولة.

أعترف بأني أضعت وقتاً من حياتي في البحث عن نهايات للمصائر المُعلقة للشخوص الحقيقية وانتظار نهايات القصص غير المكتملة، وكأن حيواتنا كبشر ليست سوى نصوص تنتظر أن يكتبها القدر... مجاز

فاجأتني صديقتي الكاتبة أن زوجها يوجّه لها الاتهام ذاته، وبقليل من البوح الصادق والعصف الذهني، أدركت كلتانا الحقيقة المُرّة، وهي أن الكاتبات صانعات دراما بامتياز، وأنه كما يقول المثل: "طباخ السُمّ بيدوقه"، فإضافة لحساسيتنا الزائدة ومشاعرنا المُرهفة، نحن قادرات ببراعة على استدعاء الذكريات القديمة واجترار مشاعر الحزن والألم؛ فالحزن رديف الإبداع والقرين الوفي للكتابة، وتولد الأعمال الأدبية الخالدة من رحمه، لكنها أحياناً تخرج للنور وتترك كاتبها عالقاً في الظلام بين براثن الكلب الأسود.

مصائر ونهايات مُعلّقة

أعترف بأني أضعت وقتاً من حياتي في البحث عن نهايات للمصائر المُعلقة للشخوص الحقيقية وانتظار نهايات القصص غير المكتملة، وكأن حيواتنا كبشر ليست سوى نصوص تنتظر أن يكتبها القدر.

اليوم وأنا امرأة ثلاثينية أكثر نضجاً مما كنت عليه من قبل، بدوتُ أكثر تقبلاً لكون الحياة  تختلف أحياناً عن الروايات، فليس من الضروري أن يجد أبطالها منُقذاً يُخلصهم من أزماتهم، أو تحدث لهم مفاجآت سارة أو صادمة، فربما تسير الأمور برتابة وروتينية قاتلة، وليس حتمياً أن تأخذ العدالة مجراها، فيلاقي المجرم عقابه في الحياة أو يقع الشرير في شرّ أعماله، ويجد الطيب النهايات السعيدة، ويجتمع شمل المحبين، وأن المعجزات أمر نادر الحدوث، وربما لا تحدث تحولات درامية كبيرة في حيواتنا، كأن تنقلب الآية فيغدو الفقير غنياً والغني فقيراً، والقوي ضعيفاً والضعيف قوياً، والحاكم محكوماً والمحكوم الحاكماً، والسجين حُراً والحُر سجيناً، وقد لا تكون مصارع الأشخاص ونهاياتهم مزلزلة ودرامية؛ فربما يرحلون ببساطة ويختفي أثرهم.

وسواء كانت "الدنيا مسرح كبير، وكل الرجال والنساء ما هم إلّا ممثلون على هذا المسرح"، كما قال ويليام شكسبير، أو كانت أشبه بالرواية كما نُرجّح نحن الروائيين، ومهما كانت هناك أوجه للتشابه والاختلاف بين حيواتنا والروايات التي نقرأها أو نكتبها؛ فإننا لن نستطيع أبداً المرور سريعاً بين الصفحات التي لا تروقنا، أو تجاهل السطور المُزعجة أو المؤلمة بالنسبة إلينا، أو الرجوع إلى الصفحة الأولى من جديد أو استراق النظر للصفحة الأخيرة من رواية حياتنا، لأننا لن نعرف بشأنها أبداً قبل أن تأتي ساعة نهايتنا.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard