شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
خطي أم دائري؟... الزمن في الميثولوجيا الدينية

خطي أم دائري؟... الزمن في الميثولوجيا الدينية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والخطاب الديني

الأربعاء 7 يونيو 202303:43 م

شغلت فكرة الوقت مساحة كبيرة في الفكر الديني القديم، ولم يكن من العجيب أن نجد أن الأغلبية الغالبة من الأديان قد وضعت لنفسها تقاويم زمنية مختلفة. عبّرت تلك التقاويم عن الاهتمام الديني بفكرة الزمن من جهة، كما تضمنت الروزنامة الخاصة بمجموعة الأيام المقدسة في كل دين من جهة أخرى. سيلاحظ الباحث في ميثولوجيا الحضارات الغابرة أن الأديان نظرت للتاريخ والزمن بطرق متعددة، وأن العديد من المعجزات قد ارتبطت بالزمن بشكل أو بأخر، فهناك الأبطال الخارقون الذين تمكنوا من التغلب على الزمن وتحدوا الموت، وهناك أيضاً أبطال أخرون تمكنوا من إيقاف عجلة الزمن أو تمكنوا من العودة بالوقت إلى الوراء.

مفهوم الزمن في الأديان

لا يمكن الادعاء بأن الأديان القديمة قد وضعت مفهوماً واضحاً للزمن. عبّر كل دين عن تصوره للزمن من خلال بعض القصص الأسطورية التي خلطت بين الخرافة والحكمة.

 سيلاحظ الباحث في ميثولوجيا الحضارات الغابرة أن الأديان نظرت للتاريخ والزمن بطرق متعددة، وأن العديد من المعجزات قد ارتبطت بالزمن بشكل أو بأخر

في الحضارات العراقية القديمة ظهر الزمن في صورة عدو صعب لا يمكن التغلب عليه. يظهر ذلك بشكل واضح في قصة البطل العظيم جلجامش الذي يسعى للخلود والتغلب على الموت.

يحكي المؤرخ العراقي طه باقر في كتابه "ملحمة جلجامش" عن سعي جلجامش للتغلب على الزمن عقب وفاة صاحبه المقرب أنكيدو. يلتقي جلجامش بأوتو نبشتم -وهو البشري الوحيد الذي منحته الآلهة سر الخلود- ويسأله عن سر التغلب على الزمن فيقول له أوتو نبشتم: "... يا جلجامش دعني أخبرك عن سرٍّ آخر. يوجد نبات مثل الشوك ينبت في المياه. إنه كالورد شوكه يخز يديك كما يفعل الورد. فإذا ما حصلت يداك على هذا النبات وجدت الحياة الجديدة. وإذا ما سمع جلجامش هذا القول حتى فتح المجرى الذي أوصله إلى المياه العميقة وربط برجليه أحجاراً ثقيلة. ونزل إلى أعماق المياه حيث أبصر النبات، فأخذ النبات الذي وخز يديه وقطع الأحجار من رجليه. وعند خروجه قال لأوتو نبشتم عجيب هذا النبات سوف أخذه معي إلى أوروك وأجعل الجميع يأكل منه وأنا سآكله في نهاية حياتي حتى يعود شبابي...". ينزل جلجامش إلى النهر ويحصل على النبات ولكن الحية تخطفه منه بعد ذلك، ويخيب أمل جلجامش في التغلب على الزمن ليموت في النهاية كباقي البشر.

في الحضارة اليونانية، عُرف خرونوس باعتباره إله الزمن. وعلى العكس من بقية الآلهة والأرباب الإغريقية، لم يُعبد خرونوس، ولم تُقام له المعابد أو التماثيل. وبقي في هيئة رمزية بعيدة عن التشكل المادي. وتحدثت بعض القصص أنه ولد نفسه بنفسه من رحم الإلهة الأولى كاوس والتي تمثل السديم الكوني الأول قبل خلق الزمان والمكان.

من جهة أخرى، سنجد أن هناك تبايناً واضحاً فيما يخص مفهوم الزمن بين الأديان الإبراهيمية والأديان الهندية والشرق أسيوية. تتبنى الأديان الإبراهيمية النظرة الخطّية للزمن، بما يعني أن للزمن نقطة بداية ونقطة نهاية. وأن التاريخ البشري الطويل يمتد بين تلكما النقطتين. رغم اتفاق تلك الأديان على نقطة البداية إلا أنها تختلف اختلافاً صريحاً في تحديد نقطة النهاية. حدد كل دين نقطة مختلفة بحسب تصوراته العقائدية والميثولوجية، في اليهودية تتحقق النهاية مع ظهور المسيا الذي سيقود اليهود للنصر، وفي المسيحية يصل الزمن لنهايته مع المجيء الثاني للمسيح، أما في الإسلام فينتهي الزمن مع قيادة المهدي المنتظر للخير للانتصار على قوى الشر.

لا تعترف الأديان الهندية بذلك التصور الخطي، بل تبدله بالتصور الدائري. على سبيل المثال تؤكد التقاليد الهندوسية والبوذية على مبدأ "الكارما" والذي يعني أن الزمن لا نهاية له. فمع نهاية كل حياة تبدأ حياة جديدة. وتغادر الأرواح الأجساد البالية لتسكن في أجساد جديدة في كل دورة. وهكذا يصبح التساؤل عن بداية الزمن ونهايته سؤالًا عبثيًا لا معنى له.

في الإسلام، وجدت بعض الروايات التي عبّرت عن مفهوم الزمن من خلال ربطه بالإله نفسه. على سبيل المثال ورد في صحيح البخاري قول النبي: "قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم؛ يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار"، أيضاً أورد الألباني في "السلسلة الصحيحة" القول المنسوب للنبي: "لا تسبوا الدهر، فإن الله عز وجل قال: أنا الدهر، الأيام والليالي أجددها وأبليها، وآتي بملوك بعد ملوك".

معجزات التغلب على الزمن

إذا كانت الأديان قد اختلفت في تصورها لمفهوم الزمن إلا أنها قد اتفقت على دمجه بأشكال متباينة في قصصها الفلكلوري والميثولوجي. على سبيل المثال تحدث العهد القديم عن طول أعمار البشر الأوائل. وذكر سفر التكوين أن الحفيد السابع لأدم، متوشالح بن أخنوخ قد عاش لمدة تسعمئة وتسعاً وستين سنة، وهو أطول البشر عمراً بحسب نصوص الكتاب المقدس.

في التقليد المسيحي، يظهر اسم سمعان الشيخ كواحد من البشر المعمرين. ارتبطت قصته بأنه كان أحد مترجمي العهد القديم في الترجمة السبعينية. عندما أراد سمعان أن يترجم سفر أشعيا وجد آية "هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً ويدعى اسمه عمانوئيل...". تعجب سمعان من ولادة العذراء فأتاه الملاك وأخبره أن سيظل حياً حتى يشهد على عملية الولادة بنفسه.

بالفعل يحضر سمعان ولادة المسيح في بيت لحم. ويذكر الإصحاح الثاني من إنجيل لوقا أن سمعان أعترف عندها بالمعجزة وقال: "الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ الَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ وَمَجْداً لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ...". أيضًا تحدث التقليد المسيحي عن اليهودي الذي ضرب يسوع على ظهره أثناء تعذيبه وقال له ساخراً: "أسرع". تذكر القصة أن المسيح استدار له وقال: "إني ذاهب، ولكنك سوف تبقى حتى أحضر". يُعرف هذا اليهودي باليهودي التائه، ويُعتقد أنه يعيش حتى الآن، وأنه يهيم على وجهه في شتى جنبات الأرض.

 هناك تبايناً واضحاً فيما يخص مفهوم الزمن بين الأديان الإبراهيمية والأديان الهندية والشرق أسيوية. تتبنى الأديان الإبراهيمية النظرة الخطّية للزمن، بما يعني أن للزمن نقطة بداية ونقطة نهاية. 

تتشابه القصة السابقة مع قصة السامري الذي صنع العجل الذهبي لبني إسرائيل. تذكر المصادر الإسلامية أن النبي موسى أبعد السامري عن بني إسرائيل ولعنه. يقول شمس الدين القرطبي في تفسيره: "جعل الله عقوبة السامري ألا يماس الناس ولا يماسوه عقوبة له ولمن كان منه إلى يوم القيامة… ويقال لما قال له موسى: فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس خاف فهرب فجعل يهيم في البرية مع السباع والوحشي، لا يجد أحداً من الناس يمسه حتى صار كالقائل لا مساس؛ لبعده عن الناس وبعد الناس عنه".

أيضاً تحتفي الثقافة الإسلامية بشخصية الخضر باعتباره أحد القلائل الذين وهبوا القدرة على تحدي الزمن، وأنه قد عاش لقرون طويلة ولا يزال حياً حتى اللحظة. يقول النووي في شرحه لصحيح مسلم مبيناً ذلك الاعتقاد: "جُمْهُور الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ -أي الخضر- حَيٌّ مَوْجُودٌ بَيْن أَظْهُرِنَا، وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْد الصُّوفِيّةِ، وَأَهْل الصَّلَاح وَالْمَعْرِفَة، وَحِكَايَاتهمْ فِي رُؤْيَته وَالِاجْتِمَاع بِهِ وَالْأَخْذ عَنْهُ وَسُؤَاله وَجَوَابه وَوُجُوده فِي الْمَوَاضِع الشَّرِيفَة وَمَوَاطِن الْخَيْر أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَرَ، وَأَشْهَر مِنْ أَنْ يُسْتَر".

عند الشيعة الإمامية الإثني عشرية، يظهر الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري باعتباره أحد الموهوبين بطول العمر. تؤكد المصادر الشيعية أن الإمام الثاني عشر هو نفسه المهدي المنتظر الذي بشرت به الأحاديث النبوية، وتذكر تلك المصادر أنه قد غاب عن أنظار الناس في سنة 329هـ وأنه لن يظهر مرة أخرى إلا في آخر الزمان، بما يعني أن عمره الآن قد زاد عن الألف سنة.

قصص توقف فيها الزمن!

هناك بعض القصص التي تحدثت عن قدرة بعض الأبطال على إيقاف عجلة الزمن من خلال بعض المعجزات والكرامات التي منحها الله لهم. في اليهودية تحدث الإصحاح العاشر من سفر يشوع عن قيام يشوع بن نون بإيقاف الشمس والقمر أثناء حروبه ضد أعدائه عند دخوله لأرض فلسطين. ورد في هذا الإصحاح "... وَبَيْنَمَا هُمْ هَارِبُونَ مِنْ أَمَامِ إِسْرَائِيلَ وَهُمْ فِي مُنْحَدَرِ بَيْتِ حُورُونَ، رَمَاهُمُ الرَّبُّ بِحِجَارَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى عَزِيقَةَ فَمَاتُوا... حِينَئِذٍ كَلَّمَ يَشُوعُ الرَّبَّ، يَوْمَ أَسْلَمَ الرَّبُّ الأَمُورِيِّينَ أَمَامَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَالَ أَمَامَ عُيُونِ إِسْرَائِيلَ: «يَا شَمْسُ دُومِي عَلَى جِبْعُونَ، وَيَا قَمَرُ عَلَى وَادِي أَيَّلُونَ. فَدَامَتِ الشَّمْسُ وَوَقَفَ الْقَمَرُ حَتَّى انْتَقَمَ الشَّعْبُ مِنْ أَعْدَائِهِ... فَوَقَفَتِ الشَّمْسُ فِي كَبِدِ السَّمَاءِ وَلَمْ تَعْجَلْ لِلْغُرُوبِ نَحْوَ يَوْمٍ كَامِل...".

إذا كانت الأديان قد اختلفت في تصورها لمفهوم الزمن إلا أنها قد اتفقت على دمجه بأشكال متباينة في قصصها الفلكلوري والميثولوجي

في المُتخيل الشيعي كذلك ورد الحديث عن بعض الحوادث المتشابهة. تؤكد الروايات الشيعية إن الشمس قد رُدت من المغرب إلى المشرق مرتين. ينقل عبد الله بن جعفر الحميري القمي في كتابه "قرب الاسناد" عن الإمام جعفر الصادق تفاصيل وقوع الحادثة الأولى فيقول: "صلّى رسول الله العصر، فجاء علي ولم يكن صلاّها، فأوحى الله إلى رسوله عند ذلك، فوضع رأسه في حجر علي، فقام رسول الله عن حجره حين قام وقد غربت الشمس، فقال: يا علي، أما صلّيت العصر؟ فقال: لا يا رسول الله، قال رسول الله: اللّهمّ إنّ علياً كان في طاعتك، فاردد عليه الشمس، فردّت عليه الشمس عند ذلك...". وردت تلك القصة في بعض المصادر السنية كذلك، واستدل بها الشيعة على أحقية علي بن أبي طالب بالإمامة وبخلافة النبي بعد وفاته، وذلك لأن الوحيد الذي وقعت له تلك الحادثة من قبل علي كان هو يشوع بن نون وصي النبي موسى.

تذكر المصادر الشيعية حادثة أخرى رُدت فيها الشمس لعلي بن أبي طالب. يذكر الشيخ الصدوق تفاصيل تلك الحادثة في كتابه "من لا يحضره الفقيه". يحكي الصدوق عن أحد الشيعة أن علي بن أبي طالب مر بالقرب من بابل بعد أن حقق الانتصار على الخوارج في سنة 37هـ. بحسب الرواية فإن علياً قال للناس إن: هذه الأرض كانت أول أرض تُعبد فيها الأصنام "وإنه لا يحل لنبي ولا لوصي نبي أن يصلي فيها". تابع علي سيره حتى أجتاز تلك المنطقة فلمّا أراد أن يصلي كانت الشمس قد غربت عندها. يقول الراوي: "نزل علي فتوضأ ثم قام فنطق بكلام لا أحسنه إلا كأنه بالعبراني، ثم نادى الصلاة فنظرت إلى الشمس قد خرجت من بين جبلين لها صرير فصلى العصر وصليت معه، فلما فرغنا من صلاتنا عاد الليل كما كان".  


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image