أعادت حالة الخوف والهلع التي تحققت إثر انتشار فيروس كورونا المستجد في الفترة الأخيرة، إلى الأذهان الرؤية الدينية المُتخيلة لأحداث النهاية، ليشعر أغلبية البشر في شتى أنحاء المعمورة بهشاشة وضعف الحضارة الإنسانية، وبإمكانية هزيمتها على يد هذا الوباء المخيف.
الأمر المثير للدهشة، أن ثمة حافزاً كامناً في اللاوعي الجمعي الإنساني، دفع كل ثقافة بأن تولي اهتماماً ملحوظاً بمسألة نهاية البشرية، ووضع سيناريوهات متخيلة لتلك النهاية، وكأنما كان المشترك الإنساني دائماً يتوقع لحظة النهاية ويعتبرها قدراً مقدوراً أوشك على الوقوع.
أعادت حالة الخوف والهلع التي تحققت إثر انتشار فيروس كورونا المستجد في الفترة الأخيرة، إلى الأذهان الرؤية الدينية المُتخيلة لأحداث النهاية، ليشعر أغلبية البشر في شتى أنحاء المعمورة بهشاشة وضعف الحضارة الإنسانية، وبإمكانية هزيمتها على يد وباء طارئ
بحسب أغلبية السيناريوهات الدينية المُتخيلة لأحداث آخر الزمان، فإن نهاية البشرية سوف تتحقق بعد الوصول لحالة كاملة من الفوضى والفساد الأخلاقي والديني، وما يتوافق مع ذلك من ظلم وجور، ولكن قدرة الله سوف تتدخل بشكل من الأشكال في الاتجاه المضاد لسير الأحداث، لتحيل هذا الواقع المريع إلى مثالية طوباوية، تتحقق فيها العدالة الإلهية فتنتصر قوى الحق على جماعات الشر، وتنتظر البقية الباقية من البشر محاكمتهم النهائية أمام محكمة السماء. هذا الانتقال المفاجئ من الدستوبيا إلى اليوتوبيا، أخذ صوراً متعددة في الأدبيات الدينية الإبراهيمية، والتي جاءت كل منها متسقة بشكل كامل مع مبادئ وأصول كل دين أو مذهب.
نهاية البشرية: قصة مُكملة للنسق الديني
من بين الملاحظات المهمة على السيناريوهات الدينية المُتخيلة عن نهاية العالم، أنها في الغالب تأتي متسقة مع السيناريوهات المُتخيلة لبدء الخليقة وللمبادئ المؤسسة لكل دين أو مذهب، فإذا كانت الأديان الإبراهيمية قد اعتمدت قصة آدم وحواء، وخروجهما من جنة عدن إلى الأرض، كقصة مفسرة لبدء البشرية على هذا الكوكب، فإن الأديان نفسها قد جعلت نهاية البشرية مرتبطة بشخصيات محددة، منحتهم مجموعة من السمات الخاصة والقدرات المميزة، وذكرتهم في العديد من النبوءات المتناثرة في متون نصوصها المقدسة.
مشهد النهاية إذن كان مشهداً مكملاً ومتمماً للمعتقد العام في كل نسق عقائدي، ومن هنا يمكن فهم سبب ارتباط النهاية عند اليهود، غير المؤمنين بالبعث والمعتقدين بأفكار هي بالأساس مزيج من القومية والدين، بشخصية المسيا الملك، الذي سيقيم مملكة يهودية على الأرض، ينعم فيها اليهود على وجه التحديد دوناً عن باقي الشعوب.
وفي السياق نفسه، يمكن تفهم ارتباط يوم الدينونة عند المسيحيين، الذين يربطون خلاص جميع شعوب الدنيا بإيمانها بالمسيح، بيسوع ابن الرب الذي "يأتي مع السحاب وستنظره كل عين والذين طعنوه وينوح عليه جميع قبائل الأرض"، بحسب ما ورد في رؤيا يوحنا.
وأيضاً، تتسق الصورة الإسلامية النمطية لأحداث النهاية مع معتقداتها التاريخية التي تشكلت على مرّ القرون، والتي تذهب إلى تقسيم العالم لفسطاطين أو دارين، دار الإسلام ودار الكفر، وهي المعتقدات التي تأسست من خلال صراع مرير وطويل مع الآخر المسيحي، في الشرق الأدنى القديم، الأناضول والسواحل الشمالية للبحر المتوسط.
استجابةً لتلك المعتقدات، ارتبطت لحظة النهاية الوشيكة للإنسانية في المُتخيل الإسلامي، بتحقق اعتراف صريح بعالمية الإسلام وهيمنته على جميع الأديان، وذلك مصداقاً لما ورد في الآية 19 من سورة آل عمران: "إن الدين عند الله الإسلام..."، والتي فسرها ابن كثير الدمشقي في كتابه "تفسير القرآن العظيم"، بقوله إنها بمثابة "إخبار من الله تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين، حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لقي الله بعد بعثته محمداً صلى الله عليه وسلم بدين على غير شريعته، فليس بمتقبل".
إغلاق هذا النسق الديني الدعوي، ظهر في مشهد النهاية من خلال الروايات الكثيرة التي ذكرت نزول النبي عيسى بن مريم إلى الأرض، وأنه سوف يُعلن هيمنة الشريعة الإسلامية ونسخ جميع الشرائع السابقة عليها "فيَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ"، بحسب ما يذكر البخاري في صحيحه عن الرسول، كما أن النبي عيسى بحسب تلك الصورة المُتخيلة، سوف يعبر عن اتباعه لنبي الإسلام وانقياده له، عندما يصلي وراء المهدي المنتظر، المُنحدر من نسل الرسول، وذلك على اعتبار أن المسيح هو الشخص الذي يؤمن به الأعداء المتنافسون مع المسلمين، فكان في اختياره هو بالذات دعوة مفتوحة لجميع المسيحيين لترك دينهم والدخول إلى الإسلام، لكونه الدين الذي اختاره الله وارتضاه لكافة البشر.
وفي السياق نفسه، يمكن تفهم العلاقة الوثيقة بين الاعتقاد برجوع الأئمة وأحداث النهاية في المُتخيل الشيعي الإمامي، ذلك أنه لما كانت مسألة الإمامة هي المبدأ الأساس الذي بُني عليه التشيع، فقد كان من الطبيعي أن يكون ذلك المبدأ حاضراً في المشهد الختامي للبشرية، وذلك لتتسق مقدمات القصة مع خواتيمها.
هرمجدون: النهاية أم بداية النهاية؟
هرمجدون هي الترجمة اليونانية لتل مجيدو الذي يقع شمالي فلسطين، والذي جرت فيه مجموعة من المعارك العظيمة في العالم القديم، أهمها تلك التي شهدت انتصار الملك المصري تحتمس الثالث في 1468 ق.م على تحالف من المدن السورية والفلسطينية التي حاولت الخروج عن سلطته، وأيضاً، المعركة التي دارت في 609 ق.م وذكرها التناخ في سفر "أخبار الأيام الثاني"، بين نخاو الثاني ملك مصر ويوشيا ملك يهوذا، وانتهت بانتصار الأول ومقتل الثاني.
على الرغم من أن اسم هرمجدون قد ورد كثيراً في أدبيات الأديان الإبراهيمية، ولا سيما في أدبيات الجماعات والفرق الطوائف الأكثر تشدداً وراديكالية، باعتباره اسماً لمعركة النهاية التي ستضع خاتمة للحياة الأرضية، والتي ستسبق يوم القيامة مباشرة، إلا أن التدقيق في الروايات الواردة في ذكر تفاصيل تلك المعركة، من شأنه أن يقدم صورة مختلفة بعض الشيء، إذ إن بعض النصوص الدينية التي تحدثت عن معركة النهاية، تؤكد على أن المؤمنين الذين سوف ينتصرون في تلك المعركة سوف يعيشون لفترة طويلة بعدها، وسيتمتعون بالسلام والقوة والتمكين.
بحسب المعتقد اليهودي التقليدي، فإن هرمجدون سوف تشهد ظهور المسيا المخلص، المنحدر من نسل داود، والذي سيقود جيش اليهود ضد أعدائهم، ويحقق الانتصار لهم، وبعدها يعيش اليهود في أمان، وبحسب وصف الحاخام اليهودي روبن فايرستون لذلك المشهد في كتابه "ذرية إبراهيم" فأن المسيح الذي يؤمن به اليهود سيظهر "كملك سينقد وسيحكم إسرائيل في ذروة التأريخ البشري، وسيكون الأداة التي ستؤسس المملكة الإلهية العادلة على الأرض في آخر الأيام. وسيعيد فترة السعادة الفيزيقية والروحية معاً".
فيما يخص المعتقد المسيحي، فسوف يسبق هرمجدون، فترة من الألم والضيق والمعاناة التي ستصيب المؤمنين، والتي سماها المسيح بحسب ما ورد في الإصحاح الرابع والعشرين من إنجيل متى، بمبتدأ الأوجاع، إذ وصفها لتلاميذه بقوله: "...وَسَوْفَ تَسْمَعُونَ بِحُرُوب وَأَخْبَارِ حُرُوبٍ. اُنْظُرُوا لاَ تَرْتَاعُوا. لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ هذِهِ كُلُّهَا، وَلكِنْ لَيْسَ الْمُنْتَهَى بَعْدُ. لأَنَّهُ تَقُومُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ وَمَمْلَكَةٌ عَلَى مَمْلَكَةٍ، وَتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وَأَوْبِئَةٌ وَزَلاَزِلُ فِي أَمَاكِنَ. وَلكِنَّ هذِهِ كُلَّهَا مُبْتَدَأُ الأَوْجَاعِ".
بحسب ما يذكر الأنبا بيشوي في كتابه "المسيح مشتهى الأجيال"، فإنه وفي تلك الفترة تحديداً سينتشر الإنجيل في العالم، وسيؤمن اليهود بالمسيح بعد قرون من الإنكار والتعنت، وستحدث نهضة روحية بين المؤمنين بالمسيح، ولكن في الوقت نفسه، سيظهر الوحش الذي يسميه العهد الجديد في بعض المواضع "ضد المسيح"، وفي مواضع أخرى يسميه "إنسان الخطيئة"، وسيقوم هذا الوحش بإظهار بعض الآيات الإعجازية الخارقة فيرتد العديد من المؤمنين بعد أن يظنوا أنه هو المسيح نفسه، وفي سياق هذا القتال المحتدم بين قوى الحق وقوى الباطل، ينزل من السماء النبيّان أخنوخ وإيليا –وهما بحسب المعتقد المسيحي قد رُفعا إلى السماء ولم يموتا- فيساعدان الكنيسة في قتال الوحش، ويستشهدان أثناء هذا القتال، ثم تأتي كلمة النهاية ويُسدل الستار على تلك المعركة بعدما تتحقق الـ "باروسيا"، والتي تعني المجيء الثاني للمسيح على الأرض، وذلك عندما يأتي المسيح ويقضي على الوحش ويحين موعد يوم الدينونة. وفي حين تؤمن أغلبية الطوائف المسيحية بأن الدينونة ستشهد قيامة الأموات ومحاسبتهم، فإن شهود يهوه يؤمنون بأنها سوف تستمر لمدة ألف عام كاملة على الأرض، وفيها سيعيش الأبرار في سلام كامل.
النقطة المهمة في ذلك السيناريو المُتخيل، أنه استعان باثنين من الآباء المقدمين في الثقافة اليهودية، ليكونا محاربين في صف الكنيسة ضد قوى الشر، وهو الأمر الذي يتشابه كثيراً مع استدعاء عيسى بن مريم ليحارب في صف المهدي في الرؤية الإسلامية، وكأن كل نسق عقائدي يحتاج إلى دعم من النسق السابق عليه، ليس فقط لتدعيم موقفه وترجيح كفته في المعركة، بل أيضاً لإسباغ صفة الخيرية المطلقة على معركة هذا النسق وإلزام الخارجين عليه بالاعتراف بتفوقه وهيمنته.
في الإسلام: دابق وليس هرمجدون
إذا كانت كلمة هرمجدون قد ذكرت صراحة في الكتاب المقدس، في كل من عهديه القديم والجديد، فأنها لم ترد على الإطلاق في القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية، ويمكن القول إن تلك الكلمة غريبة كلية عن الثقافة الإسلامية الجمعية.
مع ذلك، فإن الثقافة الإسلامية قد قدمت رؤيتها الخاصة للمعارك والأحداث التي ستسبق النهاية، وذلك من خلال الأحاديث التي تحكي عن ملحمة آخر الزمان، وهي معركة كبرى سيخوض فيها المسلمون الحرب ضد النصارى، وسينتصر المسلمون، ويعقب ذلك نزول المسيح عيسى بن مريم وقتله للمسيح الدجال بحربته، فعلى سبيل المثال، ينقل أبو داود في سننه عن الرسول قوله: "عمران بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح القسطنطينية، وفتح القسطنطينية خروج الدجال".
بحسب ما ورد في صحيح مسلم، فأن تلك الملحمة ستندلع في موقع يُعرف بالأعماق أو بدابق، وتذهب أغلب التفسيرات إلى أنهما موضعان في بلاد الشام، وأنهما قريبان من مدينة حلب، وذلك بحسب ما يذكر الإمام يحيى بن شرف النووي في كتابه "المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج".
ما سبق يفسر تسمية تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، لمجلته الدعائية الأهم باسم دابق، واحتفاءه الكبير بالسيطرة على تلك المدينة السورية في 2013م، والتي لطالما عدّها المتشددون الإسلاميون مكاناً للملحمة النهائية في آخر الزمان.
مع ذلك، فإن دابق ليست نهاية العالم في المُتخيل الإسلامي السني، إذ سيتبعها معارك أخرى مع المسيح الدجال وشعوب يأجوج ومأجوج، وستتعاقب بعدها مجموعة من علامات الساعة الكبرى، ومنها طلوع الشمس من الغرب، هدم الكعبة، رفع القرآن من السطور والصدور، خروج دابة تكلم الناس وتفتنهم، خروج نار عظيمة من أرض اليمن وغير ذلك من العلامات التي يوجد خلاف كبير بين المفسرين المسلمين في ترتيبها وتفسير معانيها.
أما في المخيال الشيعي الإمامي، فتوجد العديد من المعارك التي سيخوضها المهدي محمد بن الحسن العسكري بعد ظهوره، ضد أعدائه من المسلمين المعادين لآل البيت، هذا بالإضافة إلى العديد من الروايات التي تؤكد على أن المهدي لن يكتفي بالانتصار للحق فحسب، بل إنه سيقيم مملكة عالمية، ويحكمها بنفسه لعشرات الأعوام، ثم يحكمها من بعده مجموعة من أبنائه، فعلى سبيل المثال، نقل أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في كتابه "الغيبة" عن الإمام جعفر الصادق قوله: "إنّ منّا بعد القائم –أي المهدي المنتظر- أحد عشر مهديّاً من ولد الحسين عليه السلام".
الشعور العام بالمظلومية، والذي سيطر على العقل الشيعي الجمعي منذ ما يقرب من الألف وأربعمائة عام، وتحديداً بعد فاجعة كربلاء في 61ه، سيلقي بظلاله الوخيمة على التصور الشيعي لأحداث النهاية، وذلك في صورة العقيدة الشيعية الإمامية المعروفة باسم الرجعة، إذ وردت بعض الأخبار التي تؤكد على أن الأئمة سوف يعودون إلى الحياة مرة أخرى، كما سيعود الأشرار الذين ظلموهم وغصبوهم حقهم في الحكم والسلطة، وأن الأئمة سينتقمون من ظالميهم قبل أن يحين موعد يوم القيامة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...