سعياً إلى امتلاك روايتهم والدفاع عنها، يكتب الفلسطينيون عن معاناتهم وعن تاريخهم وحاضرهم. تتنوع كتاباتهم من شعر ونثر ومسرح وأغنية، لتطوف حول ترسيخ هوية فلسطينية لسكان البلد والشتات. هوية تكسر حدود الاستيطان وعوائق اللغة وتنوّع اللهجات والحصار على غزة، كما أنها تعيد تشكيل شخصية الفلسطيني عبر الأجيال خالقةً تاريخاً موحداً وبصمةً أدبيةً مميزةً وحركةً ثقافيةً توازي تلك العسكرية. أحد هؤلاء الكتاب، معين بسيسو، الذي امتازت كتابته بالمسرح الشعري وبأسلوب مبنيّ على الكناية وإعادة كتابة الثورات التاريخية التي سطّرتها الأنظمة ومؤرخوها.
"ثورة الزنج"، تأريخ أدبي ينافس التأريخ السياسي
قُدّمت المسرحية لأول مرة في القاهرة سنة 1970، في شباط/فبراير. وهي، كما يدل اسمها، مبنية على ثورة حصلت فعلاً، وتُعدّ أول ثورة لذوي العرق الأسود في الإسلام. ويمكننا ببحث بسيط عبر الإنترنت الوصول إلى السردية السائدة عنها، وهي تلك التي سطّرتها الخلافة العباسية آنذاك التي حارب الزنوج ضد حكمها.
سعياً إلى امتلاك روايتهم والدفاع عنها، يكتب الفلسطينيون عن معاناتهم وعن تاريخهم وحاضرهم. تتنوع كتاباتهم من شعر ونثر ومسرح وأغنية، لتطوف حول ترسيخ هوية فلسطينية لسكان البلد والشتات
"ثورة الزنج" أو "ثورة العبيد" الذين لُقّبوا بـ "الزنوج" في العالم العربي في جنوب العراق وشرقه، خاصةً في نواحي البصرة في ولاية مصعب بن الزبير، انطلقت في القرن التاسع ميلادي تحت قيادة زعيم من طهران، يدعى علي بن محمد الفارسي. دعا محمد الناس للثورة بعد أن كان شاعراً في بلاط الحكام العباسيين يطمح إلى الحكم. فشل في استقطاب الناس في البحرين والموصل وبغداد، فاستخدم الزنوج ليقوم بثورته مدّعياً أنه يتواصل مع الملائكة، وأنه علويّ يريد أن يطبّق الاسلام الذي ينادي بالمساواة.
خلال ثورته، سيطر على الموصل أولاً، ثم على جنوب العراق وشرقه حتى قُتل بعد أربعة عشر عاماً من القتال على يد جيش أمير عباسي يُدعى الموفق طلحة، في الأهواز عام 883 ميلادي.
وهذا في التاريخ المعمم. أما في المسرح الشعري، فيقترح معين بسيسو تأريخاً جديداً للثورة المسلحة التي قادها علي بن محمد، عبر إعادة إحياء شخصية ثورية. بيد أن الثورة فشلت فعلياً، إلا أن بسيسو قرر إعادة الثائر "بوجه جديد"، ليكتب ثورةً أفضل من تلك التي كتبها مؤرخو الخليفة الذين صوّروا محمداً على أنه متسلّق ومؤسس ثورة فاشلة. حتى أنه اخترع عبد الله بن محمد مشيراً إلى استمرار الثورة عبر الأجيال:
"صندوق الدنيا والتاريخ على حبل غسيل
كل التاريخ على حبل غسيل...
أوراق تُغسل، أوراق تُصبغ...
كلكم مغسول،
كلكم مصبوغ،
كل يتحسس ثوبه،
كلكم يتحسس جلده.".
مأساة غيفارا... مأساتنا جميعاً؟
في مسرح شعري آخر يحمل عنوان "مأساة غيفارا"، يسرد معين بسيسو قصة قرية بوليفية تخوض ثورةً ممنوعةً بعد موت غيفارا، بينما يتوافد السيّاح إلى القرية ليروا جثته التي تتغنى بها سلطات القرية بهدف استقطاب المزيد من السياح. تتطرق المسرحية إلى معاناة كل من شخصياتها المتعددة التي تحكي قصة كفاحها على حدة، لتتقاطع جميعها في نص درامي مكتوب بقالب شعري ومقدّم على المسرح. يشير بسيسو في هذه المسرحية إلى الكفاح الثقافي الذي يستقطب الفلاحين الذين بالكاد يعرفون من هو غيفارا:
"لم مات إذن؟
من يدفع دولاراً كي يبصر جثة فلاح؟
السائح يدفع دولاراً كي يبصر
فلاحاً يتكلم
أو فلاحاً يقرأ
ثم يموت الفلاح
صدّقني لا أحد غير الفلاح يموت
إن نبت لسان في أذنيه مات
أو نبتت أذن في فمه مات
لا أحد غير الفلاح يموت
وإن كان غيفارا فلاحاً
فليرحمه الرب".
تتسم هذه المسرحية بكسر الجدار الرابع بين الممثلين والجمهور، إذ تخاطب إحدى الشخصيات الجمهور مباشرةً مؤكدةً أن المسرحية تعكس الواقع، لكنها ليست واقعاً ملموساً في مشهد يُفتتح بمونولوغ يقوله أحد الفلاحين، وهو يرنو إلى الجمهور:
"ولد في الجنة
والولد الثاني في النار
ولد في فردوس الشرطة
والآخر في نار المنجم".
تشكل المسرحية أيضاً كسراً للتابوهات الاجتماعية والسياسية، إذ إنها تطرح قضايا كالتمييز بين المعرفة التي تحتكرها الدولة وتلك التي تسمح بها. كما تنتقد التحالف السياسي-الديني الذي يدفع الناس إلى الرضوخ ويطرح قصة حب بين ثائر وعاملة جنس. بيد أن هذه المواضيع تسيطر على الساحة الثقافية اليوم وقد تم تناولها سابقاً في أعمال مختلفة، إلا أن طرحها في ستينيات القرن الماضي أحدث نقلةً نوعيةً عبر طرح القضية الفلسطينية بتقاطعها مع قضايا أخرى، وتفسيرها من منظار جديد.
والأهم، أن هذه المسرحية، كسائر مسرحيات بسيسو، مبنية على الكناية؛ لكل شخصية رمزيتها حتى أن بعض الشخصيات ترمز إلى القصة المستمَدة منها كأن الكاتب يطرح قالباً عربياً لأدب أو أحداث عالمية أو يسقط زمانه وزماننا على أحداث حصلت سابقاً. يحدث ذلك كله في إطار شعري بحت يمتاز بالسهولة اللغوية والأحداث السريعة والسلسة والبحث الأدبي العميق.
إنها تطرح قضايا كالتمييز بين المعرفة التي تحتكرها الدولة وتلك التي تسمح بها. كما تنتقد التحالف السياسي-الديني الذي يدفع الناس إلى الرضوخ ويطرح قصة حب بين ثائر وعاملة جنس.
في إحدى المسرحيات، يحاكم كاتب "كليلة ودمنة"، الذي ينتمي "لكل زمان ومكان"، بتهمة الرمز الذي تحول إلى أداة سياسية يمارسها عامة البشر مهددين "بالفتنة". والمسرحية، التي هي أقصر مسرحيات بسيسو، عبارة عن مماطلة دائمة للكاتب والشخصية الرئيسية عبد الله بن المقفع أمام القاضي حتى استدعى جميع الحيوانات المذكورة في الكتاب. لكن تعذرت محاكمتها جميعها لأسباب كُتبت بأسلوب تهكمي قليلاً ما يطغى على كتابات بسيسو. وفي مسرحية أخرى، يعيد نثر رواية توراتية بعنوان "دليلة وشمشون"، التي تتناول قصة البطل شمشون الذي جاء لنصرة اليهود وقتل أهل فلسطين قبل أن تغويه دليلة لاكتشاف سرّ قوته، وهو شعره، وتشي به ليُقبض عليه.
مسرح نابع من تجربة شعرية
بزوغ مسرح بسيسو بعد تجربة شعرية، أضفى طابعاً فنياً وبعداً فلسفياً على المسرح. يحكي بسيسو عن إصدار ديوانه الأول "المعركة" سنة 1952، في القاهرة، بعد يوم من حريقها: "... دافع العمال المصريون عن مطبعتهم ولم يحترق ديوان الشعر، وتم تهريب ديوان 'المعركة' إلى مكتب الشاعر المصري كامل الشناوي وإلى بيت المصوّر المصري حسن التلمساني الذي قام برسم الغلاف".
وكأن تسرّب شعره من مطبعة أورفند المحترقة، ليس إلا كناية حقيقية عن تسرب شعره من مصر إلى غزة ومن الداخل الفلسطيني إلى الأدب العربي والعالمي، ومن ثم تسرب موهبته الشعرية إلى المسرح، وذلك كان قبل أن يتسرب إلى واقع آخر سنة 1984، إثر نوبة قلبية بعد أن كتب حتى عن موته: "ولساني كان السيف، وأنا الآن أموت/وشهودي هذي الجدران الأربعة الخرساء.".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 4 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ 5 أيامحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ اسبوعينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.