يعيش أهل بلدي
قادني إلى الزنزانة عنصر غير عدواني. بينما كنت أسير بجواره غارقاً في قلقي وخوفي، كان هو يمشي مطرقاً بالأرض ويغني بصوت منخفض أحد مواويل العتابا الساحلية: "أمس المسا هديتيني وردتك، كلام الصدق حبيتك وردتك". يا لبساطة مهمته وعاديتها، ويا لهول ما أنا فيه!
كان يغني كأني إلى جواره لا أحد، كأني موضوع بلا ذاتية خاصة. رجل هادئ ينفذ مهمته بكل عادية وكأنه يرافق حيواناً وديعاً إلى اسطبله، أو كأنه يخلع الجاكيت ويخطو ليرميها على ذراع أقرب كرسي، كي يتفرّغ لعمله. لا العادية ولا البساطة ولا الغناء العفوي، لا شيء كان يمكنه تخفيف قلقي. كل الطرق إلى طمأنينتي كانت مغلقة، على خلاف الطريق الواسع المفتوح إلى خوفي وقلقي.
كان البناء جديداً ولا تزال رائحة الدهان طاغية في القبو. الخوف هو المضاف إليه المطلق في هذه الظروف، كل ما تتلقاه الحواس ينتسب في نفسك إلى الخوف ويرتبط به، إلى وقت طويل وربما إلى الأبد. شكل البلاط، لون الأبواب، رائحة الدهان، لون إضاءة النيون، صرير فتح الأبواب الحديدية، الأصداء التي تتردّد في الممرّ العاري، السكون المسكون بأصوات مكبوتة، كل حواسك تصبح باباً يفتح على هوة سوداء اسمها الخوف.
توقف المشي والغناء، بعد عبورنا ممراً قصيراً تلتمع على بلاط أرضيته إضاءة النيونات الباردة. إلى اليوم يترك انعكاس ضوء النيون على البلاط العاري أثراً ثقيلاً على قلبي. فتح العنصر أحد الأبواب الحديدية السوداء وقال بصوت محايد وبشيء بدا لي قريب من الملل: "فوت"، ثم أغلق الباب، ومن خلال طاقة الباب، تأمل وجهي قليلاً، قبل أن يغلقها. لم يكن الزمان حينها قد تدهور إلى حد منع السجين من النظر إلى وجه سجانه، هكذا تأملت أنا وجهه أيضاً بعينين مكسورتين وقلب ضعيف. رأيت على وجهه ملامح طيبة، ولكن لا شيء هنا يمكن أن يسند القلب ليحميه من السقوط في هاوية.
قادني إلى الزنزانة عنصر غير عدواني. كان يغني كأني إلى جواره لا أحد، كأني موضوع بلا ذاتية خاصة. رجل هادئ ينفذ مهمته بكل عادية وكأنه يرافق حيواناً وديعاً إلى اسطبله، أو كأنه يخلع الجاكيت ويخطو ليرميها على ذراع أقرب كرسي... مجاز
رقم الزنزانة 8. أنا لا أحب الأرقام الزوجية. مصادفة سعيدة أن يكون تاريخ ميلادي باليوم والشهر والسنة، بأرقام مفردة. كنت دائماً لا أستسيغ الأرقام الزوجية، وكان هذا قبل زمن طويل من قراءتي السيرة الذاتية والفكرية لنيكوس كازنتزاكي في "تقرير إلى غريكو"، ومعرفة نفوره من هذه الأرقام أيضاً.
من جهتي يتوقف أمر نفوري هذا على إحساس غامض يستعصي على التفسير، أما صاحب "زوربا" فإنه يتأمل في نفوره ويبحث عن تفسير له فيتكلم عن الأرقام الزوجية بهذه الطريقة: "إنها تقف على أقدامها بثبات كبير، وليس لديها أي رغبة في تغيير مكانها. قانعة ومحافظة ومستقرة. لقد حلت كل مشكلة وحولت كل رغبة إلى واقع وهدأت. أما الرقم الفردي فهو الذي يتلاءم مع إيقاع قلبي، إنه لا يحب العالم بالشكل الذي يراه عليه، إنه يقف على قدم واحدة والأخرى جاهزة في الهواء وهو راغب في الرحيل. إلى أين؟ إلى الرقم الزوجي التالي من أجل أن يتوقف قليلاً ليلتقط أنفاسه ويستحضر زخماً جديداً".
بعد لحظات ستصبح هذه الزنزانة رقم 8 "زنزانتي". ياء النسبة في اللغة العربية "واسعة الذمة"، تنسب أي شيء لأي شخص بسهولة بالغة. أشار بدوي لصاحبه في الليل إلى نجمة لامعة في السماء، كان ذلك كافياً كي تُنسب تلك النجمة إليه، فيقول له صاحبه في ليل تال: "أنظر، تلك هي نجمتك". هكذا نُسبت هذه الزنزانة لي، وفي أحاديثنا اللاحقة عن عالم الزنازين، سوف تسقط الأرقام وتنسب كل زنزانة إلى اسم "ساكنها".
صفّان من الزنازين يفصل بينها ممر طويل لا ممرّ لضوء النهار إليه، فيبقى في ليل دائم تبدده أضواء النيون. لا يمكن لقاطني الزنازين أن يعرفوا الليل من النهار سوى من حركة ونشاط العناصر.
في الأيام التالية سوف يكشف لنا هذا العالم المخفي نظام عمله. الوقت هنا وقتان، وقت التحقيق، ووقت ما بعد التحقيق. في وقت التحقيق يسيطر صوتان، صوت الجرس الكهربائي الذي يستخدمه المحقق حين يريد أن يطلب شيئاً من العناصر. وغالباً ما يلي هذا الصوت، دخول أحد العناصر إلى الممرّ وصوتُ فتح باب إحدى الزنازين، أو أصوات بدء حفلة تعذيب. صوت الجرس الكهربائي كان يعيدنا إلى قواقعنا الذاتية، ننكمش ونفقد الرغبة في التواصل، نتمنى لو نستطيع محو الواقع أو محو أنفسنا. جرس غرفة المحققين هو نفسه الجرس الذي يسمونه "بيانو" ويستخدمه كثير من الأهالي على أبواب بيوتهم. ألا يوجد من يحمي نفوسنا من أن يستعير عالم التحقيق المرعب، مفردات حياتنا العادية، ويلوثها؟
في عالم الزنازين، حين تنسحب من الوقائع المباشرة لما يجري حولك، وتتأمل في الحال الذي أنت فيه، يضيق صدرك وتشعر أن دوامة تعصف بذهنك، فيصبح هذا التأمل ضرباً من التعذيب الذاتي... مجاز
حين يغيب المحققون، تسترخي النفوس قليلاً. وكما لو بغريزة البقاء، ترفع النفس المعذبة عنها عبء ترقب جلسة التحقيق القادمة، تنسى أو تهمل أو تزيح الخوف ولو قليلاً. في هذه الفترة بدأت أسمع جاري في الزنزانة المجاورة يغني لعبد الحليم حافظ، عرفته من صوته، إنه "وائل" صديقي في كلية الطب، الصديق الرقيق المولع بالعندليب الأسمر، "ظلموه، القلب الخالي، ظلموه. قابلوه، شبكوه، وارتاحوا لما شغلوه".
في هذه الفترة عرفت زنازين زملائي في النكبة، ناصر وبرهان وجلال ونبيل يحتلون الزنازين المقابلة لزنزانتي، في القسم الواقع على يمين باب ممر الزنازين. نور وعبد الحميد ووائل على نسق زنزانتي، أما البقية، خير وحسن وعلي ومحمد وعبد الحكيم فقد كانوا في القسم الثاني من الممر.
حين يغيب المحققون، تسترخي النفوس قليلاً. وكما لو بغريزة البقاء، ترفع النفس المعذبة عنها عبء ترقب جلسة التحقيق القادمة، تنسى أو تهمل أو تزيح الخوف ولو قليلاً... مجاز
بعد انتهاء التحقيق يتغير العناصر، يتحولون من جلادين إلى بشر عاديين، تستعيد عيونهم لمعتها الطبيعية، ويصبحون قادرين على التعاطف. يدخلون ممر الزنازين، يفتحون الطاقات للجميع، ويتحدثون معنا بطريقة أليفة. وقد تجد من يمتلك منهم الجرأة فيقدم سيكارة لأحد "الخرمانين" من أهل الزنازين. وقد يقص علينا "سبع"، وهو العنصر الذي قادني إلى زنزانتي أول مرة، حكايا عشقه للمرأة التي أصبحت زوجته ولا زال يحبها. وكتعبير عن تعاطفه معنا، كان يسمعنا مواويل تناسب حالنا في محنتنا وبعدنا عن أهلنا: "أنا يا ديب بكاني عويلك، علوا ينمزج ويلي عويلك، أنت يا ديب يا مضيع عويلك، وأنا يا ديب ضيعت الحباب". أكثر من ذلك، قد تسمع منهم من يعبر عن استغرابه اعتقال طلاب جامعة لم يفعلوا شيئاً.
يخرج العناصر من ممر الزنازين، فيبدأ وقتنا الخاص. تلتصق وجوهنا بالطاقات، نتحادث بكل شي. في كل منا شوق ليروي ما جرى معه، وشوق ليسمع ما جرى مع صديقه. نبتكر في هذا المَعْزَل لحظات للنفس، للضحك، للتسلية. نمزح معاً، نسخر من أنفسنا معاً، نكرّر معاً، بصوت منخفض، الدعايات التجارية التي حفظناها من محطة التلفزيون السورية، فقد كانت القناة الوحيدة المتوفرة في العاصمة. وخلال ذلك، يسخّن برهان إبريق المتة ويمد يديه من خلال الطاقة مقلداً صب كاسة متة، ويوزع على طريقة أهل السويداء، حيث الجميع يشربون بكأس واحدة. وبين حين وحين تسمع برهان يحتج: "ساعة حتى تخلص الكاسة يا كلب، غيرك بدو يشرب كمان". فتسمع نور يرد: "تضرب أنت وهالمتة الفارطة".
قبل أن يخرج العناصر من ممر الزنازين، يطلبون من "جمعة" الاستعداد لشطف الممر. "جمعة" هو المسجون الوحيد في الزنازين الذي لا علاقة له بقضيتنا. شاب أسمر لطيف، تشعر أن لطفه ينبع من نفس مكسورة. شرطي ينفذ عقوبة لسبب ما. لكنه في الواقع كان ينفذ مهمة الإصغاء لما نتبادل من أحاديث ونقلها إلى المحقق.
في عالم الزنازين، حين تنسحب من الوقائع المباشرة لما يجري حولك، وتتأمل في الحال الذي أنت فيه، يضيق صدرك وتشعر أن دوامة تعصف بذهنك، فيصبح هذا التأمل ضرباً من التعذيب الذاتي. من الأسهل لك، في مثل هذا الظرف، أن لا تحاول إدراك الظلم وأن لا تنظر إليه عيناً بعين، من الأسهل لك أن تشتت تفكيرك، أن تنساق مع ما يجري حولك دون أن تسأل بأي حق أنت هنا، أو لأي غرض. من الأسهل أن تنغمس في اللحظة دون أن تحاول التفكير، أو النظر عن بعد، إلى ما أنت فيه. هذا هو الاستسلام الذي يحميك. حين تقع في دوامة أثناء السباحة في البحر، من الأفضل لك أن تستسلم للماء دون مقاومة، قد ينجيك هذا من الاختناق بالماء.
نسهو، فيعلو صوتنا، ويأتينا التنبيه من نايف، رئيس المفرزة، بلهجته الحورانية التي سنتعرف عليها جيداً في السنوات القادمة. يتقدم الليل، فننسحب بالتدريج إلى النوم، بانتظار المصير الذي سيقرره لنا "أصحاب القرار".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه