شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
حميدتي... من راسب ثالث ابتدائي إلى حاكم إقليم

حميدتي... من راسب ثالث ابتدائي إلى حاكم إقليم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحقيقة

الأربعاء 26 أبريل 202301:06 م

كان أبو السعيد راكباً فوق حماره وذاهباً إلى أرضه في "الخلة"، على تقاطع الطرق في منتصف المسافة بين بيته و"الخلة"، التقى بمحمود الوحش، الراكب فوق حماره والعائد من أرضه في "الخلة". كان الاثنان قد وصلا من العمر ما يسمح للزمن أن يضرب حاسة السمع لديهما. بلغة عصر القوميات كان يُطلق عليهما "جوز طرشان"، أما بلغة عصر التكنولوجيا فهما "من ذوي الاحتياجات السمعية الخاصة"، لكن لأن الحادثة أو اللقاء هذا حصل في الزمانات، فهما جوز طرشان في هذا النص.

صاح محمود الوحش من بعيد: "عوافي يا بو السعيد". لم يسمع أبو السعيد ولكنه بادر هو أيضاً: "عوافي يا محمود". سأل محمود: "وين رايح ع ساعة هالصبح، عالخلة؟". أجاب محمود: "لا والله يا بو السعيد، واصل هون عالخلة". قال أبو السعيد: "والله فكرتك رايح عالخلة، يلا طريقك مسهّلة".
هذا الكلام بين الاثنين يدعى، في اللغة العربية، حواراً. كان في عصر تشكّل الدول يدعى حواراً، وصار في عصر تفتّت الدول يدعى حواراً. وهو نسخة مصغرة عن الحوارات بين حفتر والسراج مثلاً، أو بين مقتضى الصدر ومحمد شياع السوداني، وفي أحسن الأحوال بين عبد الفتاح البرهان و محمد حمدان دقلو، المعروف بلقب حميدتي.
بدأ حميدتي حياته كراسب في الصف الثالث الابتدائي، لكن هذا المؤهّل ليس عائقاً أمام الفرد العربي في الوصول إلى أعلى المناصب في الدولة
ليبيا حاضرة في الحوار كمسمّى، والعراق كذلك، والسودان أيضاً، تماماً كما تحضر الخلّة في حوار أبي السعيد مع محمود الوحش. لكن المتحاورين يقولون ما في أذهانهم الضيقة، وينطلقون من مصالحهم الضيقة، وهذه الاحتياجات الخاصة لا بد لها من مظلة معنوية، لا وظيفة لها سوى اكتساب شرعية أمام الخصم، وهذه المظلة تدعى الوطن.
بدأ حميدتي حياته كراسب في الصف الثالث الابتدائي، لكن هذا المؤهل ليس عائقاً أمام الفرد العربي في الوصول إلى أعلى المناصب في الدولة. يكفي أن تمتلك عائلتك القوة العددية أو المال، لتترفّع تلقائياً إلى رتبة حاكم.
شكراً كينيا، نتمنى كما يتمنى الشعب السوداني، أن تنجح مساعيك حيث فشل العرب، أو أرادوا ذلك.
ميزتان صغيرتان لعبتا دوراً حاسماً في حياة الرجل، الأولى أنه من قبيلة كبيرة من قبائل دارفور، الإقليم المتمرّد، والثانية أن عائلته تمتلك الكثير من الإبل. كبر الولد الشقي مع هاتين الميزتين، واختار أن يتاجر بالإبل. صار يبيع ويشتري ويراكم المال والرعيان، ولأن أصحاب الأملاك المتحركة، كالإبل، بحاجة لحماية ممتلكاتهم، شكّل الرجل قوة مسلّحة لحمايته وحماية تجارته. هذه القوة كبرت وتضاعف منتسبوها، وهذا طبيعي في الدول التي لا تحتكر القوة ولا تفرض سيادتها على الأطراف.
ولأن الدولة التي يحكمها رئيس غير شرعي وقادم عبر انقلاب على حكومة مدنية، هو عمر حسن البشير، لم تستطع تجريد الرجل من قوته، قرّرت أن تكسبه لصالحها. اتصل البشير بحميدتي واستماله إلى صفّه، وصار يناديه بدل حميدتي "حمايتي"، ثم أسند إليه محاربة المتمرّدين في كافور عام 2004. لا داعي للتذكير بما قامت به قوات الدعم السريع، والتي يرأسها حميدتي الآن، من مجازر وإبادة ضد المتمرّدين في دارفور، وفي حرب جنوب السودان، لكن ما يدعو إلى وضع العقل في الكف، هو أن حميدتي "زعل" من البشير في مرحلة ما، وانضم إلى المتمردين في دارفور. بالطبع لم تكن هذه حركة مبدئية بقدر ما هي للضغط على الحكومة المركزية لتحصيل المكاسب. وهذا ما كان فعلاً، إذ قام البشير بالتفاوض معه وبترقيته وتسليمه قيادة الدعم السريع.
هنا بدأت القوة تأتي ثمارها، حيث تحول الرجل من تاجر للإبل إلى تاجر للذهب، ومسيطر بلا منازع على مناجم الذهب في دارفور، بحيث يوصف الآن كأغنى وأقوى شخصية في عموم السودان.
البرهان شخصية أخرى، فهو خريج الكلية الحربية ومحارب في دارفور وجنوب السودان كذلك. كان شخصية مغمورة إلى عام 2018 حيث استلم قيادة القوات البرية، ثم وفي نفس السنة صار مفتشاً عاماً للجيش. مع ثورة الشعب السوداني عام 2019 قام البشير بترقيته إلى فريق أول، وصار عضواً مهماً في المجلس العسكري الذي قاد البلاد بعد تنحية البشير. كجملة معترضة، تجدر الإشارة هنا أن حميدتي (ما غيره) هو من قام باعتقال البشير، رغم كل كلمات الإطراء التي قالها الأخير بحقه ووصفه بأنه هو الحماية الحقيقية للرئاسة.
بعد نجاح الثورة واعتقال البشير، استلم الجنرال أحمد بن عوف مقاليد الحكم، لكن الثورة لم تخمد وطالبت بتنحيته، فقام هو بتسمية البرهان ليستلم مكانه في قيادة المجلس العسكري والبلاد.
استلم البرهان بلداً على قائمة الإرهاب، تشكلت حكومة بتوافق القوى السياسية برئاسة حمدوك، فأيّدها ثم انقلب عليها، ثم وبسبب ضغط الشارع، أعاد حمدوك لرئاسة الحكومة. فاوض الإمارات بدعم من مصر، ثم فاوض ترامب في الإمارات بدعم من الأخيرة، ثم فاوض إسرائيل بدعم من أمريكيا ترامب، مقابل وعود بالدعم المالي وشطب الديون، ثم شطب السودان عن قائمة الدول الداعمة للإرهاب. وَعَد المنتفضين في الشارع بحكومة مدنية وانتخابات حرة، وأخلف ومدّد وماطل، اعتقد لوهلة أن السعودية والإمارات وإسرائيل في ظهره، كما يقال.
البرهان يستميل مصر، وحميدتي يستميل الإمارات. لكن البلد الوحيد، في المنطقة، الذي يعرف كيف يدير صراع الجيران هو إسرائيل، فوزير خارجيتها يلتقي مع البرهان، ورئيس موسادها يفاوض حميدتي
في عام 2022 كان يصرّح بكل ثقة أن الجيش سينسحب من مفاوضات تشكيل حكومة سودانية، وذلك لتمكين القوى السياسية من تشكيل حكومة مدنية خالصة. لكن حميدتي كان قد سبقه بخطوة، حيث صرّح بأنه لن يقبل حتى المشاركة في المجلس العسكري ذاته، إن لم يتم احترام إرادة الشارع، وذلك بإنشاء محاكم لمحاكمة الفاسدين، وتخليص البلاد من الفساد، ثم إجراء تعديلات على الدستور ليصبح ملائماً لدولة عصرية، يلي ذلك انتخابات حرة تفضي إلى حكومة مدنية.
الطرفان يريدان مصلحة "الشعب العاق"، والطرفان يطالب كل منهما الآخر باحترام إرادة "الشعب المسكين"، والطرفان يبحثان عن حلفاء في الخارج. البرهان يستميل مصر، وحميدتي يستميل الإمارات. لكن البلد الوحيد، في المنطقة، الذي يعرف كيف يدير صراع الجيران هو إسرائيل، فوزير خارجيتها يلتقي مع البرهان، ورئيس موسادها يفاوض حميدتي. كل ذلك من أجل حقن دماء الشعب السوداني الضحية، والذي ابتلي بزعماء حرب وتجار إبل وذهب.
لكن المزحة ثقيلة الدم، والمضحكة أكثر من كل ما سبق، هي أن كل الحلفاء، ولكلا الطرفين المتنازعين، أجلوا رعاياهم وبعثاتهم الدبلوماسية من السودان فور نشوب القتال. بلد وحيد وهامشي لم يفعل ذلك... إنه كينيا. لقد صرّح رئيس حكومتها بأن البعثة الدبلوماسية الكينية ستظل في الخرطوم، رغم مخاطر الحرب والقتل، وذلك للمساعدة في إدارة المفاوضات بين الطرفين المتقاتلين. شكراً كينيا، نتمنى كما يتمنى الشعب السوداني، أن تنجح مساعيك حيث فشل العرب، أو أرادوا ذلك.
بقي أن أختم بتوقّع، فهذه وظيفة الكاتب في كل الأحوال، وهي أن يتوقع، أظن أن القادم هو انفصال دارفور بقيادة تاجر الذهب. أرجو أن أكون مخطئاً.
إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard