شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
يوميات الحرب السودانية... الورد في ساحة المعركة

يوميات الحرب السودانية... الورد في ساحة المعركة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 19 أبريل 202302:51 م

عايشنا في الخرطوم، ما يضاهي 20 انقلاباً، أربعة منها انتهت بوصول العسكريين إلى السلطة، ومحاولات عديدة لغزو الخرطوم بحثاً عن تغيير الحكم على أيدي المعارضة المسلحة، آخرها في 2008، وعنفاً مستنداً إلى الهوية كما جرى في 2005، وقمعاً لا نهائياً لتطلعاتنا إلى الدولة المدنية الديموقراطية أودى في آخر سلاسله بحياة 126 محتجاً مناهضين لحكم الجنرال عبد الفتاح البرهان، وثلاث ثورات شعبية خالدة للإطاحة بالديكتاتوريات، اثنتان منها قبل أن يُصكّ مصطلح الربيع العربي، وثالثة أطاحت بالجنرال عمر البشير في 2019، ثم ها نحن اليوم نضيف إلى ذلك السجل كله، حرباً يُستخدم فيها الطيران الحربي والمدفعية الثقيلة لقصف أهداف وسط الأحياء المأهولة بالسكان.

لا يوجد حصر دقيق للإصابات، ولكن من المؤكد أنها بالمئات، وغالبيتها لم تحظَ بالرعاية الطبية اللازمة جرّاء خروج عشرات المشافي من الخدمة بشكل نهائي

إنه سجل طويل من الرعب تختزنه ذاكرتنا عن الخرطوم، بيد أن ما يجري هذه الأيام يتفوق على كل ما شهدناه، ولكن إن نجونا -بألطاف الله- يمكننا بعدها القول إزاء كل كارثة تالية: "نحن القادمين للتو من الجحيم، فهل يخيفنا لهب شمعة؟".

في صراعهما المحتدم على السلطة، أصدر الجيش السوداني قبيل ساعات من حرب 15 نيسان/ أبريل، بياناً حذّر فيه من إمكانية انزلاق البلاد إلى مربع الحرب، جرّاء تحركات قوات الدعم السريع، وطموحات قائدها الجنرال محمد حمدان (حميدتي).

ما لم نفطن إليه في ذلك البيان الكارثي، أنّ الجيش لوّح بحرب تقضي على الأخضر واليابس، لنكتشف بعد أيام زيف شعورنا بأن الجنرالَين لن يجرؤ أحدهما أو كلاهما على خوض صراع السلطة على جماجم المدنيين، لنعرف يقينا أننا المقصودون بعبارة الأخضر واليابس، ولن يتوانى العسكر عن تهشيمنا بأحذيتهم العسكرية الثقيلة في معاركهم العبثية.

للأسف، بذاكرتنا السميكة، نسينا أخلاق قوات الدعم السريع من ميليشيا الجنجويد سيئة السمعة التي روّعت دارفور لسنين، ونسينا أن تحالف البرهان وحميدتي، انقلب ضدنا مرتين: مرةً حين فرّقوا اعتصام القيادة العامة بالقوة المميتة، وأخرى حين أطاحوا بالحكومة المدنية، وفي كلتا المرتين كانت الفاتورة المئات من خيرة شبابنا.

وبعيداً عن النسيان، وما يعتقده الطرفان انتصارات عسكريةً، نحن هنا لنحصي ونثبت جزءاً من هزائمنا خلال 5 أيام، في ذاكرتنا المحتشدة بالهزائم.

الهدنة التي تم الإعلان عنها، استجابةً للأوضاع الإنسانية، لمدة 24 ساعةً، هشة جداً، وما تزال أحياء كثيرة -خاصة في محيط القيادة العامة- معزولةً تماماً، ولم تتوقف الاشتباكات في داخلها إطلاقاً.

أدّت الاشتباكات العنيفة إلى فرار الكثير من الأهالي من مساكنهم إلى المجهول، إذ لا تعني النجاة من القصف، حالياً، النجاة مما يجري في الشارع، فهناك ألف وسيلة للموت في الخرطوم، أقلّها أن تعلق بين المتقاتلين. إنه حرفياً الفرار من قدر الله إلى قدر الله.

سقط ما يزيد عن 200 مدني خلال عمليات الاشتباك بين الجيش والدعم السريع، حتى الآن، بعضهم ماتوا ببطء شديد جرّاء العجز عن إجلائهم إلى المشافي لتلقّي العلاج، وهناك طفلة ماتت من الخوف (حرفياً)، إذ توقّف قلبها عن النبض.

هناك صعوبات جمة في الوصول إلى المقابر لدفن الجثامين، لذا بعض الجثث ما تزال ملقاةً على قارعة الطريق، وبعضها تتحلل وسط البيوت، واضطر بعض الطلاب العالقين في إحدى الداخليات التابعة لجامعة الخرطوم من دفن أحد زملائهم في ميدان كرة قدم يتبع للجامعة.

لا يوجد حصر دقيق للإصابات، ولكن من المؤكد أنها بالمئات، وغالبيتها لم تحظَ بالرعاية الطبية اللازمة جرّاء خروج عشرات المشافي من الخدمة بشكل نهائي، إما نتيجة الاستهداف المباشر وغير المباشر، وإما لتحوّلها إلى أهداف جرّاء تحصّن العسكريين في داخلها، أو لنقص الكادر والمعدات، أو لانعدام التيار الكهربائي، ما يعني في نهاية المطاف المزيد من الضحايا.

"الانقلابات، العنف القبلي، والغزو، ثم أخيراً الحرب"؛ هل امتلأت ذاكرة الخرطوم المرعبة، أم تراها تقول: هل من مزيد؟ 

هناك عالقون في بؤرة الاشتباكات، منذ الرصاصة الأولى، وإن أفلحت الاستغاثات في إجلاء 450 طفلاً من تلاميذ مدارس كمبوني، في محيط القصر الرئاسي الذي يشهد قتالاً ضارياً، فإن مصير مرضى غسيل الكلى في مركز سلمى الواقع على بعد كيلومترات من القيادة العامة، لا يزال مجهولاً، والأمر نفسه ينطبق على الأطفال المنوّمين في مستشفى جعفر بن عوف، وغيرهم من الموظفين والعمال المتحصنين بعمائر في منطقة السوق العربي، في مركز العاصمة، ومركز العنف.

برغم تزامن الحرب مع شهر الصيام والحر، الكثير من الأحياء، تعيش من دون كهرباء، وحتى تلك التي تنعم بالتيار هناك مخاوف جدية فيها من إمكانية دخولها إلى دائرة الظلام جرّاء الأضرار التي لحقت بمحطات توليد الطاقة وخطوط الإمداد، أو لعجز الفنيين عن الوصول إلى مواضع الأعطال، زيادةً على أن التناقص في الوقود سيقود في نهاية المطاف إلى توقف المحطات الحرارية، إن لم يكن اليوم، فغداً لناظره قريب.

الأمر ذاته ينطبق على مرافق المياه التي تعاني من تبعات الحرب، ومن مشكلات الكهرباء كذلك، وعلى سبيل المثال فقد خرجت محطة مياه بحري، إحدى كبريات محطات المياه في العاصمة، عن الخدمة. وأدى انعدام المياه بالأهالي -بمن في ذلك القابعين تحت القصف- إلى الخروج بحثاً عما يروون به ظمأهم، بعدما دخلوا في معادلة: الموت بالرصاص أم الموت عطشاً.

تعاني الخرطوم في الأساس من ضعف كبير في البنى التحتية، فكيف سيكون حالها بعد انجلاء غبار المعركة؟

هناك نقص حاد في مخزون الغذاء لدى السودانيين الذين تقول الأمم المتحدة -حتى قبل الحرب- إن ثلثهم يحتاج إلى المساعدات، وتالياً قد نشهد في حال استمرار الحرب لوقت أطول، حالة انفلات أمني ونهب للأسواق والمحال التجارية والأحياء من قبل من ضاقت بهم السبل بحثاً عما يسدّون به رمقهم.

كالعادة، ظهر تجّار الحرب بسفور بعد ساعات فقط من إطلاق أول رصاصة، إذ تضاعفت أسعار الغذاء والوقود بشكل جنوني، أما أسعار النقل للراغبين في الخروج من الخرطوم فتتزايد ساعةً فساعة، ما سيضطر كثيرين إلى البقاء في العاصمة مع فرص نجاة أقل.

لمعرفة جنون الحرب، رُصدت عمليات استهداف للبعثات الدبلوماسية، من ضمنها اقتحام مسلحين لمقر رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي لأغراض النهب، وإطلاق النار على رتل من السيارات الدبلوماسية المتحركة في الخرطوم.

تعاني الخرطوم في الأساس من ضعف كبير في البنى التحتية، فكيف سيكون حالها بعد انجلاء غبار المعركة؟ خذ على سبيل المثال فقدانك مطارك الرئيس، وتضرر طرقك المهترئة أصلاً، وتضرر شبكات إمداد الكهرباء والمياه والاتصالات، وقد نجد أنفسنا بعد تلك المعاناة كلها، في القرن الثامن عشر.

"الانقلابات، العنف القبلي، والغزو، ثم أخيراً الحرب"؛ هل امتلأت ذاكرة الخرطوم المرعبة، أم تراها تقول: هل من مزيد؟ 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard