تُعدّ مشكلة الألغام من أهم معوقات التنمية البشرية، إذ تعيق الوصول الآمن إلى التعليم والرعاية الصحية والتنمية الزراعية والصناعية، إذ يمكن عدّها أقسى ابتكارات الإنسانية بعد أن تفوقت على القنبلة النووية في كونها قاتلاً صامتاً يحصد حياة من يخطو نحوها، فهي تمثل تهديداً يومياً للحياة وسبل العيش، إذ تودي بحياة الأشخاص وتؤدي إلى إصابة البعض منهم، وتعيق جهود إعادة الإعمار، وتمنع إيصال المساعدات والإغاثة الإنسانية، بالإضافة إلى كونها تمثل تقويضاً للاستقرار وسلباً للحق في الحياة من دون خوف.
الغزو الإيطالي لليبيا
برغم تقديرات الأمم المتحدة لعدد الألغام المنتشرة في ليبيا بثلاثة ملايين لغم، زُرع أغلبها من جانب إيطاليا وألمانيا وإنكلترا خلال فترة الحرب العالمية الثانية، وفترة الاحتلال الإيطالي لليبيا، إلا أن الجهود الليبية والدولية كافة -برغم كثرتها- لم تقدّم ما يشفع لحل هذه الكارثة، في ظل اتّساع رقعة الأرض وعشوائية زراعة الألغام وتهرب ألمانيا وإيطاليا من تسليم الخرائط ورفض الاعتراف بمسؤوليتهما عن إزالة الألغام، وتقول التقارير التي تعود إلى عهد القذافي، إن 6،749 شخصاً لقوا مصرعهم وأصيب 5،096 آخرون بسبب الألغام الأرضية خلال الفترة من 1940 إلى 1995.
القذافي احترف زرع الألغام
لم يكن معروفاً عن ليبيا استخدامها ألغاماً منذ انتهاء حربها مع تشاد في 1987، وفي الوقت الذي قالت ليبيا فيه إنه لم يسبق لها أن أنتجت أو صدّرت الألغام، إلا أنه طبقاً للمراجع العسكرية فقد استوردت ليبيا ألغاماً مضادةً للأفراد في الماضي من الاتحاد السوفياتي السابق ومن يوغوسلافيا السابقة. وتُعدّ ليبيا واحدةً من 37 دولةً لم تنضم بعد إلى معاهدة حظر الألغام لعام 1997، وبرّرت ليبيا رفضها التوقيع بأنها تصرّ على الحق في الدفاع عن حدودها الشاسعة بالألغام، كما قالت إنها ستتكلف كثيراً إذا طهّرت الأرض من الألغام كما تتطلب المعاهدة، وانتقدت المعاهدة لكونها لا تطالب من وضعوا الألغام في الماضي بدفع ثمن التطهير.
تشير تقديرات الأمم المتحدة الى أن عدد الألغام المنتشرة في ليبيا يتجاوز ثلاثة مليون لغم
في أثناء ثورة شباط/ فبراير 2011، وطبقاً لمنظمة "هيومن رايتس"، قامت القوات الخاضعة لمعمر القذافي باستخدام الألغام الأرضية في مناطق حيوية ومتفرقة في ليبيا، في محاولة لتأمين تواجدها ومنع تسلل عناصر المعارضة المسلحة إليها، وقد توصلت المنظمة إلى فيديو يفيد بالعثور على ألغام أفراد في الطرق الرئيسية، كما نشرت رويترز تقريرا يفيد بأن نظام القذافي نشر مئات الآلاف من الألغام حول طرابلس حتى لا تتمكن المجموعات المسلحة من دخولها، وحينها أصدر المجلس الوطني الانتقالي بيانا رسمياً وقّعه نائب رئيس المجلس عبد الحفيظ غوقة، يحمل تعهّداً بعدم استخدام الألغام في الصراع الدائر مع القوات المحسوبة على النظام الحاكم في حينه، وخلال اجتماع قيادات عسكرية معارضة مع هيئة الأمم المتحدة للألغام في نيسان/ أبريل 2011، تعهّد خليفة حفتر الذي كان يقود الحراك العسكري في شرق ليبيا بعدم استخدام الألغام.
يقول الناشط السياسي في مدينة بنغازي في الشرق الليبي، عثمان آل فضل، في تصريحات لرصيف22، إن الثوار في المدينة قد تلقّوا تحذيرات أمنيةً من جانب القوات العسكرية المنشقة عن القوات المسلحة الليبية الخاضعة لسيطرة القذافي إبان ثورة شباط/ فبراير 2011، تلك التحذيرات تفيد بأن قوات النظام قد نشرت العديد من الألغام الأرضية في محيط مخازن الأسلحة، والطرق المؤدية إليها، والطرق الرئيسية التي تربط بين مدن الشرق الليبي، وأكد عثمان أن هناك عشرات الضحايا الذين سقطوا من جانب الثوار في مختلف أرجاء المدن الليبية بسبب انفجار عدد من الألغام الأرضية بهم خلال حراكهم الرافض لبقاء القذافي في السلطة.
حفتر وفاغنر على خطى القذافي
وبرغم وعود قوات المعارضة وتعهداتها بعدم استخدام الألغام، إلا أن تقريراً نشرته BBC أفاد بنقل واستخدام قوات المعارضة للألغام من مخازن السلاح في بنغازي، عقب سيطرة قوات حفتر عليها، إلى أجدابيا، كما أوضح التقرير عشوائية زراعة الألغام من دون خرائط وعدم وضع علامات حولها مما يفاقم من خطورة الموقع ويصعّب جهود نزع الألغام بعد انتهاء القتال. ولم تتوقف عمليات زرع الألغام على معسكرَي القذافي ومعارضيه، بل هناك تقارير صحافية أفادت باستخدام تنظيم داعش، الذي انتشر عقب سقوط القذافي في شرق ليبيا، لزراعة الألغام في الأماكن التي سيطر عليها، عقب استيلائه على قرى كاملة في الشرق الليبي، وطرد أهلها منها، واستخدامه معظم منازلها كمخازن للذخائر والأسلحة، وتأمينها بتخفيف محيطها بالألغام، مما أدى إلى مقتل العشرات من المواطنين عقب عودتهم إلى منازلهم بعد دحر التنظيم.
سبق واتهمت حكومة الوفاق الوطني قوات المشير حفتر، بزراعة ألغام في كافة المواقع التي دخلتها، وطلبت مساعدةً دوليةً في عمليات نزع الألغام، ولم تصدر قوات حفتر تعليقاً رداً على الاتهامات. وأشار تقرير "البعثة المستقلة لتقصي الحقائق بشأن ليبيا" التي أنشأها مجلس حقوق الإنسان الأممي في حزيران/ يونيو 2020، والمكلف بالتحقيق في الانتهاكات التي ارتُكبت في البلاد منذ 2016 حتى تشرين الأول/ أكتوبر 2021، إلى أن القوات المسلحة الليبية وقوات فاغنر "ربما تكون قد انتهكت مبدأ التناسب في القانون الإنساني الدولي وكذلك التزامات القانون الإنساني الدولي بالتقليل من الآثار العشوائية للألغام الأرضية إلى أدنى حد، والتخلص منها بعد نهاية المعارك الفعلية"، وأوصت بإعطاء الأولوية لإزالة الألغام وضمان توفير التمويل الكافي لجميع جوانب الإجراءات الإنسانية المتعلقة بالألغام، وإلغاء قرار الحكومة الليبية المتعلق بإنهاء عمليات المسح غير التقنية، وإجراء تحقيقات شفافة في انتهاكات قوانين الحرب من جانب الجماعات المسلحة، خاصةً المقاتلين الأجانب فيها، والمسؤولة عن زرع الألغام في المناطق السكنية.
ووفق تقرير لإندبندنت البريطانية، فإن المرتزقة الروس حين فرارهم من العاصمة الليبية تركوا وراءهم منازل وساحات مفخخةً، وقال خبراء إزالة ألغام ليبيون للصحيفة إنهم وضعوا متفجرات في مقاعد مراحيض وأبواب ودمى، وإنها كانت مصممةً للانفجار عند اللمس، أما أغربها بحسب الصحيفة، فكانت عبوات المشروبات الغازية الفارغة، إذ يحب العديد من الشباب الليبيين سحق هذه العبوات للتسلية، ولذلك صمم الروس المتفجرات بحيث تنفجر العبوات عند الضغط.
من جانبه، يقول الباحث في مركز المستقبل للأبحاث والدراسات الليبية الدكتور محمود عسقلان، في تصريحات لرصيف22، إن قوات فاغنر الروسية التي دعمت قوات الجيش الوطني الليبي قد احترفت زرع الألغام في محيط القواعد العسكرية التي تسيطر عليها، سواء في الشرق أو الوسط الليبيين، كما استخدمت تلك الألغام لتأمين أماكن تمركزها في الأماكن التي انسحبت منها في أثناء سير العمليات القتالية، بالإضافة إلى اعتمادها تلك الآلية بعدما تم استدعاؤها للاشتراك في الحرب الأوكرانية، مؤكداً أنها وحدها -أي قوات فاغنر الروسية- من تملك خرائط وعلامات زراعة الألغام في الأماكن التي حطت فيها، وأكد عسقلان أن الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر لم يتردد في استخدام آلاف الألغام على طول خطوط الصراع والاشتباك لتأمين قواته، خاصةً أنه استولى على مئات الآلاف من الألغام بعد سيطرته على مخازن الذخيرة والأسلحة في المدن التي استولى عليها، ويشير الهاشمي إلى أن مخازن السلاح في ليبيا تحتوي على ملايين الألغام المتنوعة، لأن نظام القذافي العسكري كان يعتمد عليها بشكل كبير في صراعاته الإقليمية، سواء في صراعه مع مصر عام 1977، أو صراعه مع تشاد في بداية الثمانينيات.
في أثناء ثورة 2011، قام معمر القذافي بزرع الألغام الأرضية في مناطق متفرقة في ليبيا للسيطرة علي المظاهرات
جهود دولية شحيحة لتفكيك ألغام ليبيا
في 2019، ذكر مرصد الألغام الأرضية أنّ الاتحاد الأوروبي وبربطانيا وأمريكا وفرنسا والسويد واليابان وهولندا وسويسرا، قدّمت 24 مليون دولار لدعم جهود إزالة الألغام في ليبيا، وتشمل الأنشطة المموّلة إزالة الألغام، والتوعية بالمخاطر، ومساعدة الضحايا، لكن نظراً إلى مدى انتشار الألغام بات الطلب المحلي على إزالة الألغام يفوق بكثير الخدمات المتوفرة. وعلى الرغم من الجهود المضنية التي تبذلها هيئات محلية ودولية في برامج مكافحة الألغام إلا أنه وطبقاً لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا فإنه يوجد أكثر من 15 مليون متر مربع لا تزال ملوثةً بالذخائر المتفجرة في جميع أنحاء ليبيا، ففي جنوب طرابلس تعمل منظمة "حقول حرة" على نزع الألغام وتفكيكها، ويقول رئيس المنظمة إن حجم التلوّث فاق التوقعات، حيث يوجد نحو 15 حقل ألغام فقط في جنوب طرابلس، مؤكداً أن هناك مناطق مغلقةً لوجود الألغام على مساحات شاسعة منها، وتحتاج إلى آليات ثقيلة للتعامل معها. كما باشرت فرق الهندسة العسكرية إطلاق حملات لجمع وتفكيك الألغام المنتشرة في جنوب طرابلس التي شهدت حرباً لمدة عام ونصف العام، كما توسعت عمليات نزع الألغام إلى مدن أخرى أهمها سرت التي شهدت بدورها حروباً متعددةً منذ عام 2016. ويعمل المركز الليبي للأعمال المتعلقة بالألغام ومخلفات الحروب في طرابلس ومصراتة وبنغازي وسرت، وقد تم تشكيل المركز عبر تجمع من الفرق المتطوعة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، واستمر عمله التطوعي منذ ذلك الحين على الرغم من أنه لا يخلو من الانتقادات التي تشمل الادعاء باستخدام اللاجئين الأفارقة في أنشطة المركز، وتشارك مجموعات عمل مختلفة في جهود إزالة الألغام ومنها المجموعة الاستشارية للألغام (MAG) ومؤسسة سانتا باربرا ومنظمة هانديكاب إنترناشيونال ومنظمة دان تشيرش إيد والمجموعة الدنماركية لإزالة الألغام وفريق إزالة الألغام في اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
عراقيل تواجه العمل
وعن العراقيل التي تواجه سير العمل في ملف إزالة الألغام، يقول عضو قسم تقصي الحقائق والرصد والتوثيق في اللجنة الوطنية الليبية لحقوق الإنسان محمد الهاشمي، في تصريحات لرصيف22، إن أبرز المعوقات هي التوترات بين وزارات الداخلية والخارجية والدفاع حول الجهة التي تتحمل المسؤولية عن هذا العمل، بحيث يندرج المركز الليبي للأعمال المتعلقة بإزالة الألغام تحت إشراف وزارة الدفاع، في الوقت الذي تشرف فيه أفرع مختلفة لوزارات الداخلية والخارجية والتعليم على ملف التوعية بمخاطر الألغام برغم كونه جزءاً من الملف الأساسي، في الوقت الذي يحاول فيه مكتب دعم اتخاذ القرار التابع لرئيس الوزراء أن ينشئ هيكلاً وطنياً لإدارة الأسلحة والذخائر وإزالة الألغام في ليبيا، ولكن هذه العملية تسير ببطء.
وفي السياق نفسه، اشتكى رئيس اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في ليبيا، أحمد عبد الحكيم حمزة، من غياب خرائط ومعطيات ميدانية حول أماكن انتشار الألغام في ليبيا، ما يشكل تهديداً حتى للفرق العاملة على تفكيكها، بالإضافة إلى نقص المعدات اللازمة للتعامل مع الألغام في ظل تنوعها الكبير. كما اشتكت المنظمات الحقوقية الناشطة في ليبيا من ضعف الدعم الأممي والدولي لجهودها في إزالة مخلّفات الحرب، وتقول إن الفرق الساهرة على تفكيك الألغام تحتاج إلى دورات تكوينية وإلى دعم فني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع