في كتاب "الاستشراق"، برهن إدوارد سعيد أن القوى الاستعمارية هي التي رسمت للشرق صورته عن نفسه. لكن هذه الأطروحة لا تقتصر على العلاقة مع الشرق وحدها، بل هي تشمل كل هيمنة ثقافية تمارسها الحضارات على بعضها البعض بما فيها هيمنة ثقافة العرق الأبيض على غيره من الأعراق.
في مسرحية بعنوان "الزنوج" يكشف الكاتب الفرنسي جان جينيه، كيف يرسم الأبيض للأسود صورته عن نفسه، هويته الثقافية ونمطيته الفكرية والنفسية، وكيف يسعى الأسود لتحقيق هذه الصورة النمطية وتلبّسها.
المحكمة البيضاء، والجريمة السوداء
يضع الكاتب على المسرح مجموعة من الممثلين السود وهم يتدربون على مشهد محاكمة تُعقد أمام الجمهور، لأجل جريمة قتل ارتكبها أسود بحق امرأة بيضاء. فينقسم الممثلون إلى فريقين: فريق المحكمة، يتألف من الملكة والقسّ المبشّر والقاضي والمحافظ والعسكري، كناية عن العالم الكولونيالي، وهم يرتدون أقنعة بيضاء، وفريق السود الذين يسردون أطوار الجريمة التي اقترفوها أمام محكمة البيض، لكي تقاضيهم وتصدر حكمها ضدّهم.
تقسيم هرمي للمهن واللون، القضاء أبيض بينما المجرم هو الأسود الغريزي القاتل، فأمام نعش أبيض لجثة وهمية، يشرف مدير المسرح، أرشبالد، على قيادة الممثلين السود في تمثيل مشهد اغتصاب البيضاء ماريا وقتلها. هو من يطلق المسرحية قائلاً للجمهور الأبيض: "سنمثل هذا المساء من أجلكم. لكن من أجل أن تكونوا في غاية الراحة وأنتم في آرائكم أمام المأساة التي بدأت تجري هنا، وحتى تتأكدوا من أن مثل هذه المأساة لا يمكن أن تتسرب إلى حياتكم الغالية، ستكون لنا اللياقة، التي تعلمناها في كنفكم، لجعل التواصل مستحيلاً".
"أبيض وأسود أصفر وأسمر"، كلها ألوان تملك أحكام قيمة، والأدق لغوياً وحسب الدراسات الثقافية، هي المفردات العائدة إلى البيئة والجغرافية: "أي أوروبي، أفريقي، آسيوي ولاتيني"
"أدِّ دور الزنجي بلباقة"
لا هوية للأسود هنا إلا ما رسمه له الأبيض، إنهم الجريمة والمأساة، لكنهم يتحلّون باللباقة التي علمهم إياها البيض، اللباقة التي تبقيهم وحدهم في المأساة، السود أنفسهم سيمنعون وصول المأساة إلى حياة البيض، يقول أرشبالد في المسرحية: "ستكون المأساة باللون الأسود". إن السود هنا يمثلون الصورة النمطية التي يتصورها عنهم البيض، فهم همجيون، وحشيون، مغتصبون وقتلة: "هذا المساء سنتوقف عن كوننا ممثلين، لكوننا زنوجاً. نحن على الخشبة نشبه مجرمين في السجن".
حين يتردد الممثل الذي يقوم بدور المغتصب القاتل، إزاء تجسيد وحشية الحدث وشناعته، يذكره مدير المسرح بكيفية تلبسه كأسود لدور المغتصب القاتل: "تنفس وقل إن السيدة ماريا كانت تعلم بأننا نتنون. أدِّ دور المجرم بلباقة. أظهر مشاعر الكراهية الحقيقة. احرص على أن تظهر بمظهر المتوحش الكبير لكي تحصل على تقديرهم. الآن لنبدأ، إنك إذن قتلتها، سنبدأ". إن مدير المسرح يعلم الممثل الأسود كيف يكون زنوجياً، كيف يتلبس الصورة المرسومة له من ثقافة الأبيض المهيمنة.
كما أن الاستشراق هو تبني ثقافة الشرق، والعروبة هي الانتماء إلى الثقافة العربية، فإن الزنوجة هو الوصف الذي يطلق على الثقافة الإفريقية، وبذلك تكشف لنا لعبة هذا النص المسرحي كيف يتوجب على الأفريقي أن يتلبس الهوية الثقافية للزنوجة، فهي ليست كل ما يصدر من أفعاله وسلوكياته وأفكاره، بل هي هوية تشبه القناع، عليه أن يرتديها ليكونها، عليه أن يتماهى مع ما فرض عليه عبر قوة الهيمنة الثقافية. تظهر هذه الفكرة بوضوح في التعليمات التي يعطيها مدير المسرح أرشبالد للممثلين والممثلات السود: "آمركم بأن تكونوا سوداً إلى حد شرايينكم التي يجري فيها دم أسود، وأن تجري فيها إفريقيا. على الزنوج أن يتزنجوا، وأن يتشبثوا إلى درجة الحمق بكل ما يتهمون به: في سوادهم، في رائحتهم، في عيونهم الصفراء، في أذواقهم لأكل لحم الإنسان، وألا يكتفوا بأكل البيض، بل أن يطبخ بعضهم بعضاً".
تنتهي المسرحية حين يقف القاضي ويتلو قرار المحكمة: "المادة 1: بما أن الله ميت، فإن اللون الأسود سيتوقف عن كونه ذنباً: سيصبح جريمة". السواد الذي يتحول هنا من الذنب إلى كونه جريمة، يحيل إلى واحدة من أكثر الحكايات الشعبية الإفريقية رواجاً، وهي تقول بأن الإنسان ولد أبيض، لكنه حين أدرك جهله وعجزه أسودّ لونه من الذنب، فظهر الإنسان الأسود. وبينما هذه الحكاية التراثية الإفريقية تحاول تبرير وجود العرق الأسود، فإنها تطلق عليه بشكل مضمر أحكام قيمة. صحيح، أنها تربط اللون الأسود بتشكل وعي الإنسان بجهله وعجزه، لكن الشعور بالذنب هو الذي ولّد اللون الأسود. وهكذا فإن إسوداد اللون هو رمز للشعور بالذنب والعار. هذه الحكاية التراثية التي تحاول أن ترفع من شأن اللون الأسود تضمر بداخلها أيضاً هيمنة ثقافية بيضاء في تصوير الأسود.
في كتابه "الدراما الحديثة"، يعتبر المؤلف ج. ل. ستيان، أن "الزنوج" هي أفضل المسرحيات التي كتبها جان جينيه، وكتب عنها: "تقدم المسرحية للجمهور ازدواجية البيض والسود. يظل الجمهور مدركاً أن البيض الذين يشاهدهم هم مجرد نماذج عن البيض كما يراهم السود، وأن السود الذين يراهم على الخشبة ليسوا سوى نماذج من السود كما هم في نظر البيض".
الزنوجية والأرواحية
"الزنوجية أو الزنوجة" هو مصطلح ابتكره الأفارقة الناطقون بالفرنسية "النارنسيين" للدلالة على الثقافة الإفريقية، وحال انتشاره في المؤلفات انقسمت تجاهه الآراء. لقد رفضه مثلاً أحد أبرز الأدباء الأفارقة وهو وول سوينكا، الذي اعتبره فرض هوية فرنسية على إفريقيا عبر الهيمنة الثقافية، وكتب في الرد عليه: "إن النمر لا يتبختر متنمراً هنا وهناك ومتبجحاً بنموريته tigritude، فليس هناك بالتالي من سبب يدعو الزنجي إلى إعلان زنوجيته"، ورفض المصطلح أيضاً الأفارقة الناطقين بالإنكليزية، ومنهم الباحث صموئيل والن.
أما التيار الآخر، فلقد رأى بالزنوجية هوية فخر بالثقافة الإفريقية وما يميزها، وعلى رأسهم كان الأديب ورئيس الجمهورية السنغالي، ل.س. سنغور، الذي دافع عن مفهوم "الزنوجية" في محاضرة شهيرة في العاصمة كينشاسا عام 1968. إن قراءة المحاضرة تبين لنا كيف أن القبول بالزنوجة والدفاع عنها يعني تقبل الصورة النمطية عن الحضارة الإفريقية، فبينما العنوان العريض هو التفاخر بالتراث، فإذا به يعني التغني بالصورة النمطية، مثلاً يكتب سنغور بالتغني بالخواص الزنوجية: "إن حواس الزنجي متفتحة على كل اتصال وتماس، الزنجي يشعر قبل أن يرى، وتكون ردة فعله قوية حين يمس الشيء، بل حين يمس الموجات التي يبثها الشيء من الغيب اللامنظور".
لقد كان الدفاع عن الزنوجية يعني التغني بالأرواحية كمييز للثقافة الإفريقية، والأرواحية كما فسرها الشاعر سنغور نفسه هي: "كل شيء يعيش ولكل شيء نفس وروح". يعرفنا الكاتب موريس جلال، بدقة عن الأرواحية حين يكتب: "ترتكز الأرواحية على الإيمان بأن الأرواح بعد تحررها من أجسادها تستمر في الوجود عبر العالم والكون، فالإنسان لا يموت بموت الجسد بل تستمر روحه على قيد الوجود في حيّ من الأحياء أو أي شيء من الأشياء. فالأرواحيون يؤمنون بحياة عقب الموت، وبالارتباط الوثيق بين عالمنا وعالم الراقدين. وإن نسمات أرواح الموتى سلطة تتسم عموماً بإلحاق الأذية في الأحياء، ولذلك لابد من استعطافها لتجنب شرها".
تداخل الهوية بين الأبيض والأسود
إن تداخل الهوية بين الأبيض والأسود التي رأيناها في مسرح جان جينيه، تظهر بتنويعات أخرى بأفلام المخرج الأمريكي سبايك لي، الذي تعتبر أفلامه من أميز أنواع السينما المستقلة التي تناولت موضوعات ثقافة الأفارقة الأمريكيين. في فيلمه "افعل الشيء الصحيح، 1989"، يصر صاحب محل البيتزا الإيطالي على استمرارية مطعمه لتقديم الطعام إلى الأفارقة الأمريكيين الذين يشغلون مساحة الحي بالكامل. يختلف أهالي الحي السود وصاحب المطعم الإيطالي على صور الشخصيات التي يجب أن تعلق في جدار الشرف في المطعم، وبينما يتمسك هو بشخصيات من التاريخ الإيطالي، يطلب السود إضافة صورة مارتن لوثر كينغ وغيره من شخصيات الأفارقة الأمريكيين. ينتهي الفيلم بأحداث عنف، يهجم فيها السود على الأقليات الأخرى من الإيطاليين والصينيين. إنه الصراع بين المهمّشين. الفيلم يدين العنف تماماً، وينتهي باقتباسات من كتابات مارتن لوثر كينغ تدين النضال العنفي.
في فيلمه الآخر "بامبوزيلا، 2000"، نتابع حكاية ماندري، ممثل كوميدي أبيض يقرر أن يقدم برنامجاً يسخر فيه من الصورة النمطية المتخيلة عن الإفريقي الأميركي، فيطلي وجهه بالأسود ويقدم أداء ساخراً، لا يعرف الجمهور بأصله الأبيض وبدلاً من تلقي البرنامج كنقد للصورة النمطية للسود، يحب الجمهور الأبيض هذه الصورة ويعتبرونها مضحكة، ويستمرون بطلب ظهورها في البرنامج بين الحلقة والأخرى. يستمر ماندري في تقديم الشخصية، إنه يتماهى مع الصورة النمطية للأسود في نظر الجمهور، لكنه في النهاية يتمرد، يخرج دون طلاء الوجه الأسود معلناً للجمهور بأنه أبيض. وهكذا يشعر الأفارقة الأمريكيون بالعار من سخريته المستمرة طيلة حلقات البرنامج، ويُقتل من قبل مجموعة من المتطرفين السود بعد أن كشف عن وجهه الحقيقي. إنها مأساة الهوية في تقلباتها بين أبيض وأسود، والصورة النمطية المفروضة تتجلى بروعة في حكاية هذا الفيلم.
في فيلمه الذي لفت الانتباه مؤخراً "بلاك كلينسمان، 2018"، نقع على سيرة ذاتية لبلاك كلينسمان، وهو رجل شرطة أسود استطاع التسسلل إلى أكثر عصابات الولايات المتحدة تطرفاً تجاه السود، وهي منظمة كلو كلوكس كلان، كان رجالها يرتدون الأقنعة ويقومون بطقوس حرق الأفارقة الأمريكيين، وحين يُدعى الشرطي الأسود إلى الاجتماعات الداخلية للمنظمة، كان يرسل بدلاً عنه زميله الشرطي الأبيض المتعاطف مع مهمته. إنه تداخل مجدداً بين هوية الأبيض وهوية الأسود. هي في النهاية لعبة مرايا الهوية.
"أبيض وأسود أصفر وأسمر"، كلها ألوان تملك أحكام قيمة، والأدق لغوياً وحسب الدراسات الثقافية، هي المفردات العائدة إلى البيئة والجغرافية: "أي أوروبي، افريقي، آسيوي ولاتيني".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...