تتأجج النار في "تَشْکوه"، في مدينة رامِز أو رامهرمز الإيرانية (في محافظة خوزستان، جنوب غربي البلاد) منذ 3 آلاف سنة، غير متأثرة بهبوب الرياح أو هطول الأمطار أو تساقط الثلوج، فمن بعيد يمكنك رؤية الشعلة وهي ترقص بلا هوادة، على امتداد التل البالغ ارتفاعه عشرة أمتار.
تمنح النيران المتأججة على سفح الجبل في ظلام الليل، المنطقة منظراً جميلاً وخلاباً، ومصدرها انبعاثات الغاز الطبيعي ووفرة وجود مادة الكبريت فيه منذ قرون، حسب علماء الجيولوجيا.
ويتضمن مصطلح "تَشْكوه"، من مفردتين؛ الأولى "تَشْ" وهي "آتَشْ"، أي النار باللغة الفارسية، و"كوه" أي الجبل، فبسبب انتشار ألهبة النيران الصغيرة والكبيرة هناك، يسمى "تشكوه"، أي جبل النار.
كثيرة هي الأساطير القديمة عن جبل النار وكلها من نسج الخيال المثير والمليء بالمغامرة، فالنيران تشتعل في هذه التلال الجبلية الملتهبة منذ آلاف السنين علی الدوام
اعتقد الإيرانيون في ماضي الزمان، أن تفسير هذه الظاهرة هو أن نيران الجبل نيران مقدسة، حسب الديانة الزرادشتية التي ظهرت في البلاد في الألفية الأولى قبل الميلاد، وتعد هذه الديانة النار حلقة الوصل بين البشر والعالم الخارق، وهي وسيلة يمكن من خلالها اكتساب البصيرة الروحية، والحكمة. وتُعدّ بمثابة تطهير للحياة واستمراراً لها بالإضافة إلى كونها جزءاً حيوياً من العبادة.
كثيرة هي الأساطير القديمة عن جبل النار وكلها من نسج الخيال المثير والمليء بالمغامرة، فالنيران تشتعل في هذه التلال الجبلية الملتهبة منذ آلاف السنين علی الدوام.
يبعد جبل النار عن مدينة الأهواز جنوب غرب إيران، 130 كلم بالاتجاه شرقاً نحو طريق أبو الفارس نحو مدينة رامز أو رامهرمز. طريق وعرة من دون لوحات إرشادية، ونظراً إلى عدم وجود مرافق عامة، يجب إحضار الماء أو مأكولات أخرى للتسلية.
"الشيء الذي دفعني للمجيء إلى هنا كسائح، مشاهدة هذا المنظر الخلاب في أثناء الليل، وأنا حالياً أنتظر غروب الشمس"؛ هكذا يقول أحد الإيرانيين الذي جاء مع رفاقه. ويفضل الكثير من الزوار زيارته عند الساعات المنتهية من النهار، ليتمتعوا بالأجواء قبل الغروب وبعده، لا سيما أثناء الليل الذي يخلق جواً رائعاً حينما يطلق ألسنة اللهب.
يتسلى بعض السياح بتجربة بسيطة، حيث يقومون بنبش حفرة صغيرة في زاوية من الجبل، ثم يشهدون خروج الغاز الطبيعي فوراً واشتعالها بعد ذلك.
لا نار أمام جبل النار
"نحن قمنا بحفر التلال، ورأينا اشتعالها. إنها تجربة جيدة مع مراعاة نقاط التحذير"؛ هذا هو الشيء الوحيد الذي يمكن لهذه الزائرة وغيرها أن يفعلوه هنا لإشعال النار، فكمية الغازات المنبعثة حول هذا الجبل كثيرة إلى درجة أنها تزعج تكوين الهواء المحيط. ولأن قوة الأوكسجين المتاحة لا تصل إلى هذا الغاز، لذلك لا يمكن إشعال نار أخرى من غير الجبل.
تُعدّ منطقة الأهواز، وضواحيها في جنوب غرب إيران، من المصادر الرئيسية لاحتياطيات النفط والغاز الطبيعي. سرّ هذا الجبل الغازي أنه يشهد حرائق تلقائيةً منذ قرون، وكان قادراً على أن يفتن سياح إيران عبر السنين، حتى اعتُرف به رسمياً سنة 2011، وانضم إلى قائمة الآثار الطبيعية.
تطلق دائرة التراث والسياحة في المدينة على الجبل المحترق، بالأثر الجيو-سياحي نظراً إلى شكله ولونه وآثار الهيدروكربونات المنتشرة على سطحه، وهو يستقطب هواة الطبيعة والجيولوجيين معاً.
ونوّه أستاذ الجيولوجيا علي حبيب نجاد، بأن "تشكوه" من الغرائب الموجودة في منطقة لوران النفطية، وهي التي كانت من أولى المناطق التي درسها البريطانيون بغية التنقيب عن النفط، وكانت قد اكتشفت شركة النفط الأنجلو-إيرانية، حقول النفط الأولى في مدينة مسجد سليمان، على مسافة 100 كلم من جبل النار.
"يتشكل النفط حول كتل الحجر الجيري. يجب أن يكون هناك غطاء صخري للاحتفاظ بهذه المادة، وفي منطقة لوران توجد تكوينات أو أغطية صخرية طباشيرية تتشقق وتنكسر حتى تخلق ظاهرة الاحتراق، حيث تشتعل غازات الكبريت التي تخرج من سطح الأرض"؛ هكذا وصف لنا الخبير حبيب نجاد، أسباب حدوث جبل النار التي تتسبب رائحة الغازات الكريهة فيه بالغثيان والصداع إذا ما أطال الزائر المكوث هناك.
وبعد التطور واكتشاف حقول الغاز والبترول الواقعة من حوله، تبيّن سبب اشتعاله المستمر والدائم، فتخلى السكان المحليون عن الحكايات والأساطير التي تتناقل جيلاً بعد جيل عن الجبل.
الجبل المحترق
وعند الاتجاه شرقاً نحو مدينة العميدية أو أميدية، هناك جبلٌ آخر بالقرب من المنطقة النفطية المجاورة، يطلق عليه السكان المحليون "كوه سوخته"، أي الجبل المحترق، إذ تنبعث من بين صخوره وترابه ألهبة النيران والدخان الأسود الذي يتصاعد إلى السماء ما يجعل الجوّ أسود.
هو أصغر من جبل النار، ولونه الأسود يميزه عن الجبال المحيطة به، وفي قمته هناك شرخ عميق سببته الانهيارات الأرضية، حيث يُعدّ الفتحة الرئيسية التي ينطلق منها الغاز وتنبثق شعل النار من داخلها.
تطلق دائرة التراث والسياحة في المدينة على الجبل المحترق، بالأثر الجيو-سياحي نظراً إلى شكله ولونه وآثار الهيدروكربونات المنتشرة على سطحه، وهو يستقطب هواة الطبيعة والجيولوجيين معاً.
ینابیع القار
قبل الوصول إلى جبل النار أو الجبل المحترق، بإمكانكم/ن أن تتمتعوا/ن بمشاهدة ظاهرة طبيعية أخرى، يمتد عمرها إلى 4 آلاف عام وأكثر. فإلى جانب نهر محلي صغير في قرية ماماتين،، هناك 10 ينابيع تخرج القار أو البيتومين على مدار الساعة.
يقال إنها ظاهرة فريدة حول العالم، إذ تكون العيون على هيئة أفران المخبز، تقلّ على جانبي نهر صغير يُسمى "زَرْد" أي الأصفر.
واستخدم القدماء مادة البيتومين في صناعة المباني والأواني، حيث عثر علماء الآثار على أوانٍ من هذا النوع في تلال زقورة دور إنتاش، في مدينة سوسا التاريخية أو الشوش كما يُطلَق عليها رسمياً، وهي في جهة شمال غرب الأهواز.
كان يعتقد الأهالي، أن القار هو الدم الأسود للتنين الذي قتله إسفنديار، البطل الإيراني في ملحمة "شاهنامه"، من إبداع الشاعر الفارسي أبي القاسم الفردوسي
كما تدلّ الدراسات الأثرية على الألواح التي عُثر عليها في تخت جمشيد أو برسبوليس، وهو عبارة عن مجموعة المدينة الفارسية الأثرية التي تعود إلى ما قبل الميلاد، على أن الإيرانيين كانوا يصنعون مستلزماتهم وأوعيتهم من القار.
وكان يعتقد الأهالي، أن القار هو الدم الأسود للتنين الذي قتله إسفنديار، البطل الإيراني في ملحمة "شاهنامه"، من إبداع الشاعر الفارسي أبي القاسم الفردوسي.
وتم استخدام البيتومين من هذه الينابيع في أثناء العقود الماضية في الصناعات العسكرية ومجالات الإضاءة. أما الآن فما زال يستخدم الأهالي، خاصةً في قرية قالند في مدينة بهبهان، القار لعلاج الكسور وتشنجات العضلات، وفي بعض الآوني المحلية التقليدية.
ما تم ذكره من آثار طبيعية في شرق الأهواز، لا يحظى باهتمام ملحوظ من قبل السلطات المحلية، كي تزيد من زوارها المحليين والأجانب، فالقطاع السياحي البيئي في إيران عرضة للإهمال، ويحتاج إلى استثمار كبير كي يكون فرصةً ويتمتع به هواة الطبيعة ويستفيد من عوائده الأهالي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ اسبوعينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...