حين انتهت المدارج والإضاءة، ووصلت إلى عمق 50 متراً تحت الأرض، لم يكن أمامي سوى الظلام الدامس. تقدمت قليلاً حتى وصلت قدماي إلى الماء البارد؛ إنها آخر نقطة يمكن للسياح أن يزوروها بالقرب من "قناة قصبة" المائية في مدينة كُناباد الواقعة جنوب محافظة خراسان رضوي في شمال شرق إيران.
تُعدّ قناة قصبة للري، أعمق وأقدم قناة حفرها الإنسان، إذ يعود تاريخها إلى نحو 2250 سنةً، إبان عهد الدولة الإخمينية، والقناة مكونة من رافدين رئيسيين وستة فروع. يبلغ عدد الآبار فيها نحو 472 بئراً، وتقع بئرها الرئيسية عند عمق 320 متراً، أي أطول من برج إيفيل بعشرين متراً.
امتد إنشاء القناة نحو 400 عام، وقدّر المهندسون الإيرانيون أنه تم استخراج 73 مليون متر مكعب من التراب في محصلة عملية الحفر، وهو ما يعادل 10 ملايين شاحنة من التراب، وكل ذلك بأدوات بسيطة وعزم بشري، ولهذا تُعدّ القناة من روائع النظام المائي حول العالم، والأكثر إثارةً للإعجاب.
يصل طول القناة إلى 33 كيلومتراً في أرض ملتوية، لكن الآبار تتصل ببعضها البعض مع أقل خطأ في المسار أو التدرج، وعُدّت هذه القناة في مدينة كناباد شرق البلاد، تحفةً من الإبداع البشري في مجال هندسة قنوات المياه، لدقتها التي قلّ نظيرها.
يؤكد أحد الباحثيين المحليين، أن إحدى الأساطير لدى سكان المدينة القدماء، تشير إلى أن إنشاء القناة يعود إلى أمر الملك بَهْمَن، وذلك كفارةً عن ذنب كبير ارتكبه، وبهمن شخصية أسطورية جاء ذكرها في كتاب الشاعر فردوسي "شاه نامه"
يطلق السكان على من يقوم بحفر القناة، "مقني"، وقد توارث سكان كُناباد هذه المهنة، حتى أنهم استمروا في تجريف آبار القناة بأدوات تقليدية حتى العقود المنصرمة، أما اليوم فلم يبقَ "مقني" حياً، وقد اندثرت المهنة بشكلها التقليدي.
أساطير وقصص غريبة
استبعدت الحكايات المتناقلة شفهياً عن الأجداد، حفر القناة على يد الإنسان، كون عمقها كبيراً جداً، وليس هناك شك في أن قوى خارقةً غير بشرية هي من قامت بحفر ذلك العمل الدؤوب.
ومن زاوية أخرى، هناك من يكرر قول إن مفردة "گُنَابَاد" (Gonabad)، وهي اسم المدينة، كانت في البداية "جن آباد"، ثم تحولت إلى "جناباد"، ووصل بها الحال إلى "گناباد". في حين أن بعضاً من أصحاب مهنة "مقني"، يروجون لحكاية مفادها أن شخصاً اسمه "طاهر" كان في قديم الزمان يملك قدرات هائلةً وقد أمر الأجنّة بحفر بئر عميقة جداً.
كما يؤكد أحد الباحثيين المحليين، أن إحدى الأساطير لدى سكان المدينة القدماء، تشير إلى أن إنشاء القناة يعود إلى أمر الملك بَهْمَن، وذلك كفارةً عن ذنب كبير ارتكبه، وبهمن شخصية أسطورية جاء ذكرها في كتاب الشاعر فردوسي "شاه نامه".
أما الباحث الفرنسي هنري جوبيلوي، الذي زار قناة قصبة كناباد سنة 1940، فيعتقد في كتابه المسمى "القناة فن للحصول على الماء"، بأن هذه القناة التي تُعدّ الأكثر معياريةً وأصولاً بين قنوات مياه العالم، تمت على يد أشخاص لديهم قوة خارقة، وأنها هيكل غريب مع هندسة دقيقة، تأتي في قمة الإبداع.
يذكر المؤرخون وعلماء الآثار أن هذه المدينة تضرب جذورها في العهد الإخميني، ويؤكدون على أنّها قد انتعشت إبان العهدين السلجوقي والخوارزم شاهي، أي منذ القرن الخامس حتى السابع الهجري، لكنها في العهد الصفوي أصبحت ساحةً لحروب دامية، أي منذ القرن العاشر حتى الثاني عشر الهجري، حيث كانت مسرح صراع بين الصفويين والأوزبك، ومع ذلك فقد شهدت ازدهاراً حضارياً في هذه الفترة من تاريخها الحافل بالأحداث.
عملية تقسيم مياه القناة
يتم تقسيم المياه ودورة الري على أصحاب الأرضي الزراعية والبساتين، وفقاً لقانون الفنجان أو الساعة المائية، وكل فنجان مائي يعادل 8 دقائق من فتح ماء القناة، فحصة المزارعين تأتي حسب فناجين الماء التي يملكها كل واحد منهم.
يُطلَق على من يقوم بتقسيم مياه القناة، "المؤلف" أو "الميراب"، ويتم اليوم تقسيم المياه على أساس 4،104 فناجين ماء على بساتين المدينة.
تشير الوثائق إلى أن معدل تدفق المياه في قناة قصبة كان 600 ليتر في الثانية، ويتم ري عشرات الكيلومترات من الأراضي الزراعية منها في محيط المدينة، وقد وصل تدفق المياه اليوم إلى نحو 150 ليتراً في الثانية، عبر 40 في المئة من الآبار فقط، لأن الـ60 في المئة المتبقية منها اندثرت بسبب عدم التجريف.
تؤكد المصادر البحثية أن قناة قصبة تنبع بماء صحي وبارد من دون أي توقف على مدار الساعة والفصول الأربعة حتى اليوم، لكن الأحداث التي طرأت عليها في السنوات الأخيرة باتت مصدر قلق لتوقف عملية تدفق المياه
بعد وفاة الجيل الذي كان يرعى القناة بشكل تقليدي، يخشى كثيرون دخول القناة في أعماقها الطويلة تحت الأرض، كما لم يتقن أحد عملية فتح الآبار عبر التجريف بالشكل الصحيح، وفي ظل عدم اكتراث المعنيين بالقناة حسب الأساليب العلمية الحديثة، تتسارع وتيرة اندثار بقية الآبار.
كما أن العامل الرئيسي الآخر في هذا الصدد، هو حفر آبار عميقة وشبه عميقة في حدود القناة، تخالف نظامها المائي، مما أثر سلباً على ضغط مياه القناة وأدّى إلى جفافها.
تؤكد المصادر البحثية أن قناة قصبة تنبع بماء صحي وبارد من دون أي توقف على مدار الساعة والفصول الأربعة حتى اليوم، لكن الأحداث التي طرأت عليها في السنوات الأخيرة باتت مصدر قلق لتوقف عملية تدفق المياه.
مظهر القناة
يصل ماء القناة إلى سطح الأرض، ويطفو فوق مساحة تشبه نهراً جارياً من الماء العذب، يطلق عليه الأهالي اسم "مظهر القناة"، وهو موقع عام للغسيل والتنظيف في المدينة. وما زال مظهر القناة يجري في شوارع المدينة حتى اليوم.
كما أن هناك بنايةً أخرى تسمى "باياب"، وهي بمثابة بناية تحت الأرض تشبه داراً مربعة الشكل لتسهيل استخدام مياه القناة الممتدة على طول المدينة، ويتم الوصول إلى هذه الدار عبر سلالم بإمكان الإنسان أنت ينزل عليها نحو 20 متراً لا أكثر. وهذه الهياكل منتشرة في الشوارع وفي البساتين.
وبعد تأهيل نحو 500 متر مربع منها، وفقاً لمعايير منظمة اليونسكو، يتمكن السياح من التمتع بمشاهدة واحدة من أدق الهياكل الهندسية والظواهر البشرية المذهلة التي هي بمثابة رمز للانسجام البشري مع البيئة والطبيعة.
عند وصولنا إلى الماء على عمق 50 متراً من دون مرافقة مرشد سياحي، ومن دون وجود أي زائر آخر، تغلّبت على صديقي فوبيا المكان أو الكلوستروفوبيا، وحينما أخبرني بذلك وتراجع عن المكوث هناك، سرعان ما انتقل إليّ ذلك الشعور. وبعد التقاط الصور من ماء القناة، أسرعنا في العودة ونسينا أن نشرب من ذلك الماء العذب، لتبقى الحسرة تراودنا دوماً، عسى نعود يوماً ونتذوق ذلك الطعم الفريد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...