شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
أثارت استغراب العرب عند دخولهم شرق إيران... الطواحين الهوائية

أثارت استغراب العرب عند دخولهم شرق إيران... الطواحين الهوائية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الثلاثاء 18 أبريل 202302:54 م

تبلغ المسافة من العاصمة طهران إلى أقدم معالم الطواحين الهوائية على الحدود الإيرانية الأفغانية، ألف كيلومتر. كنّا 40 شاباً وشابةً من مدينتَي طهران ومشهد، متجهين نحو شرق البلاد، التي كانت تزهو مدنها بـ200 مجموعة من الطواحين الهوائية لطحن الغلال.

قضينا أمسيتنا في مدينة خواف (خاف)، وبالتحديد في نزل بيئي ريفي في منطقة نَشْتِيفان (NASHTIFAN)، وتعني الكلمة باللغة الفارسية "لدغة العاصفة". يقع النزل أمام مجموعة من الطواحين التي تعلو 20 متراً عن سطح المنطقة، وقد سهرنا على أنغام الموسيقى الخراسانية المرتكزة على آلة الوترين.

اصطحبنا هبوب الرياح الباردة والجو الربيعي الجميل في المدينة الصحراوية الجافة، مع خلفية "آسبادها"، أي طاحونة الحبوب الهوائية باللغة الفارسية، التي تتزين بلون القمر والإضاءة الصفراء. أطربنا أشهر قامات الموسيقى المحلية حتى ساعات متأخرة من الليل، وهما: غلام رسول صوفي، وحسن سمندري، وكانا قد شاركا في أكثر من مهرجان عالمي حول العالم.

لم تكن خواف قد بُنيت على حدود الأنهار وليست خضراء كباقي مدن البلاد، لكن تحويلها هبوب الرياح إلى مصدر رزق، والارتقاء بموقعها الاقتصادي بين المدن المجاورة، جعلاها فريدةً في التاريخ برغم أن مدناً أخرى سبقتها بفكرة الطواحين

كانت رحلتنا تمزج الموسيقى المحلية مع المعالم الأثرية، فأينما حللنا حلت معنا آلة "دوتار" الوترين، والمقامات الغنائية الإيرانية والأفغانية.

تفاصيل الطواحين

اتجهنا صباحاً نحو مجموعة نشتيفان للطواحين الهوائية، وهي جدار طوله 65 قدماً، يحجب الرياح العاصفة الشديدة، وفوق ذلك الجدار توجد نحو 20 طاحونة هواء عموديةً، كما أخبرنا الخبير في التراث المحلي هُومَن بَزم آرا.

يتكون المبنى من أبسط المواد مثل: الطوب الخام والطين والخشب، ويتضمن طابقين رئيسيين: الطابق الأرضي خلف ذلك الجدار، عبارة عن غرف للمطحنة وتخزين حبوب القمح والدقيق.

أما الطابق العلوي، فهو عبارة عن شفرات خفيفة من خشب وقصب، للمطحنة التي تحرّك الحجر الكبير في الطابق السفلي، وبُنيت على اتجاه حركة الرياح، بحيث عندما لا تهب سريعاً، لا تواجه الطاحونة مشكلات في استمرار نشاطها.

وأكمل الخبير هومن، عن التقنيات الهندسية المستخدمة هنا، حيث لتنظيم تشغيل الشفرات الخشبية خلف كل طاحونة، وضع صانعوها جداراً خلفها واحتفظوا بفتحة تعادل ثلث خلفية الشفرات، وهذا ما يساعد في الحد من کسرها، واستدارتها مع دخول الرياح وفق الاتجاه الصحيح. هيكل الطواحين له بنية خاصة ولا يشبه طواحين الهواء الأخرى التي تتحرك مع العجلة.

طقوس الرحى

يجلب أصحاب الطواحين، الخشب من شجرة الصنوبر، والحجر من جبل سينو المحلي، وبعد أن يُجهَّز حجر الرحى الأسطوانية (900 كيلوغرام)، يفزع الأهالي برعاية كبير القرية لجلبها إلى مدخل الطاحونة، وكانوا يرفعونها بشكل عمودي ويضعون في ثقبها عموداً خشبياً، ويربطون الحبال من جهتي العمود، ثم بالبقر أو الحمير لجرّها.

ثم بعد ذلك يشيّعون الرحى، بالأغاني والأشعار والموسيقى والرقص، وبعد قطع مسافة الجبل إلى محل الطاحونة، يذبحون الذبيحة ويمرون بالرحى على دم الخروف، ثم يتناولون نذورات صاحب الطاحونة وتنتهي المراسم.

تستقبل منطقة شرق إيران، ومدينة خواف ونواحيها بالتحديد، الرياح الشديدة من جميع الجهات الجغرافية، فمن الشمال رياح مدينة نيسابور التاريخية، ومن الشرق من هرات الأفغانية ويسمونها "رياح فرح"، ومن الجنوب من جبال سيستان ويطلقون عليها "رياح سياه كوه"، إذ تبدأ بالهبوب من منتصف موسم الربيع وتنتهي عند نهاية الصيف، على مدار 120 يوماً كل عام.


وهذا ما جعلها موقعاً إستراتيجياً للاستفادة من الطاقة الهوائية، وقد تم تحويلها إلى منطقة مهمة في تأمين دقيق جزء من إيران وأفغانستان، مع وجود 200 طاحونة في قرى مختلفة، فتأتي القوافل محملةً بأكيال القمح، ومن ليس له قمح يبادل الدقيق بمواد أخرى كان قد جلبها معه من دياره.

كثرت الخانات والحمامات وعيون قناة المياه والمساجد في مدينة خواف، لكن ما تبقّى من تلك الطواحين على مر الزمان، مجموعة نشتيفان المكونة من 20 طاحونةً، وعمرها يعود إلى 6 قرون مضت، وكانت تعمل حتى سنة 1990.

هذا ما أثار استغراب العرب

سرد لنا الخبير هومن، في تفاصيل جولتنا داخل غرف الطواحين، أن عمر الطواحين الهوائية يعود إلى ما قبل الإسلام، ولكن أقدم كتاب سجلها كان في العهد التيموري (911-1506).

يحدّثنا التاريخ أن سكان مدينة خواف، وهم على المذهب الحنفي اليوم، كانوا قد قاوموا دخول الإسلام إلى مدينتهم، لكثرة التزامهم بالديانة الزرادشتية، وقد حافظوا عليها حتى بعد أن فرض المسلمون دينهم على البلاد. وهاجر بعضهم إلى الهند وقطنوا في مدينة كجرات شمال غرب البلاد، كما سُمّيت تيمّناً بهم باسم "سنجان"، وهي واحدة من المراكز المهمة للزرادشتيين، والهنود من أصول فارسية.

وما زالت في مدينة خواف، معالم زرادشتية ولو قليلة ومبعثرة، إذ يحرص بعض أتباع تلك الديانة، على زيارتها والتعرف عليها سنوياً.

وذكر الرحالة العرب، ومنهم ابن بطوطة، الطواحين الهوائية، ويذكر الكاتب الإيراني محمدي خمك، أن الشيء الوحيد الذي أثار استغراب العرب عند دخولهم شرق إيران، هو وجود الطواحين الهوائية.

وأشار المسعودي في كتابه "مروج الذهب"، إلى أنه لا توجد مدينة في العالم قد استفادت من الرياح بهذا المستوى في إقليم سيستان شرق إيران.

وانتشرت في إيران القديم نحو 500 طاحونة هوائية، وكتبت الموسوعة البريطانية "بريتانيكا"، أن فكرة الطواحين قد انتشرت بعد هجوم المغول على إيران، إلى الأراضي الشرقية المجاورة للبلاد عبر الأسرى الإيرانيين.

تراث مشترك مع أفغانستان

جولتنا حول طواحين نشتيفان، كانت جولةً إلى أعماق تاريخ سكان المدينة، خاصةً في متحف القمح الذي يروي سيرة الأهالي الزراعية. لم تكن خواف قد بُنيت على حدود الأنهار وليست خضراء كباقي مدن البلاد، لكن تحويلها هبوب الرياح إلى مصدر رزق، والارتقاء بموقعها الاقتصادي بين المدن المجاورة، جعلاها فريدةً في التاريخ برغم أن مدناً أخرى سبقتها بفكرة الطواحين.

باتت للطواحين رمزية كبيرة، إذ إنها جزء لا يتجزأ من تاريخ شرق إيران، ومرتبطة تماماً بذكريات جميلة مع سكان مدينة خواف ونواحيها، وتشكل معالمها المتمثلة في الشفرات الخشبية، جزءاً من الحياة ومجداً عظيماً في هذه المدينة الصحراوية الجافة

اعترفت إيران بالطواحين الهوائية، كموقع أثري جدير بالاهتمام سنة 2002، وتحرص على تخصيص ميزانية سنوية لإعادة بنائها والاهتمام بها، كما قدّمت ملفها إلى منظمة اليونسكو بغية تسجيلها عالمياً، وهذا ما تسبب في إنعاش حركة السياحة من حولها، إذ تستقطب الرحلات والحملات السياحية الداخلية والأجنبية.

وبعد انتشار فكرة الطواحين بجوار إيران، أصبح لأفغانستان تاريخ طويل من امتلاكها الطواحين الهوائية، وهذا ما جعل طهران تفكر في رفع الملف بمعية كابول، للمصادقة عليه من قبل اليونسكو كتراث مشترك.

باتت للطواحين رمزية كبيرة، إذ إنها جزء لا يتجزأ من تاريخ شرق إيران، ومرتبطة تماماً بذكريات جميلة مع سكان مدينة خواف ونواحيها، وتشكل معالمها المتمثلة في الشفرات الخشبية، جزءاً من الحياة ومجداً عظيماً في هذه المدينة الصحراوية الجافة.


إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard