مثل كثير من المصريين في الخارج، يحمل صديقي معه شاي "العروسة" من مصر لشمال أوروبا، فبعد بحث وتجريب في سلاسل السوبر ماركت في السويد وأسواق الجاليات العربية والشرقية لمختلف أنواع الشاي القادمة من أنحاء العالم، لم يتمكن من الوصول لطعم الشاي النوبي الذي كان يشربه في مصر.
في التسعينيات كان يمكن ربط شاي العروسة بمحدودي الدخل في السوق المصري، مع علامات تجارية مثل "لورد" و"العصاري" و"البراد الأزرق" و"الشيخ الشريب" و"الجوهرة" و"القويري"، لكن كان شاي "ليبتون" وارتباطه بثقافة الشاي الإنكليزي هو ما يليق بالطبقة الوسطى وما فوقها. أتذكر أيضاً السخرية من شاي العروسة بقول إنه مخلوط بنشارة الخشب وغير معلوم مدى جودته، وهو نفس ما كان يقال عن شاي "التموين". كانت السخرية من المنتجات المحلية بشكل عام والاحتفاء المبالغ بجودة الماركات المستوردة أمراً شائعاً جداً، وهو ما أطلق عليه المصريون عبر الزمن "عقدة الخواجة".
مع استمرار "العروسة" في المنافسة برغم خروج العلامات التجارية المشابهة له في النصف الثاني من التسعينيات، بدأت تظهر على استحياء آراء تؤكد أن "مزاج" شاي العروسة أفضل، باعتباره "شاي شاي" حسب التعبير ويقصد به القادر على "وزن الدماغ"
في خط موازٍ في التسعينيات كانت النظرة مشابهةً إلى المغنّين الشعبيين في ذلك الوقت، حسن الأسمر ومجدي طلعت وعبد الباسط حمودة وعادل الخضري وشعبان عبد الرحيم ورمضان البرنس وعربي الصغير وروح الفؤاد وآخرين أقل شهرةً في سوق الكاسيت الشعبي، لكن أكثر جماهيريةً في أقاليم مختلفة، مثل عبده الإسكندراني وشفيقة ويوسف شتا القليوبي. هؤلاء أخذوا حظهم من الشهرة في بعض المحافظات وأسواق الكاسيت فيها. لكن بشكل أوسع، كانت مؤسسات الإذاعة والتلفزيون تمنعهم أو تسمح بظهور محدود لهم في نطاق ضيق جداً في القنوات المحلية.
"أنا بحب العروسة ده شاي له نكهة مخصوصة"
المفارقة أن الوجود الإعلامي الأبرز للمغنين الشعبيين كان في الإعلانات التلفزيونية؛ عدوية في في إعلان خضر العطار، حمدي باتشان مع مسحوق غسيل شعبي بتعديل كلمات أغنية "أنا واد خلاصة ومية مية"، حسن الأسمر بتعديل كلمات اغنيته "أعمل لك إيه حيرتني لشاي العروسة"، فالمعادلة هي أن المغني الشعبي للمنتج الشعبي، والإعلان هو الشكل المتاح لظهور المغني الشعبي في الإذاعة والتليفزيون، لأسباب اقتصادية في المقام الأول، فلن يستعين صاحب المنتج الشعبي بأغنية رومانسية أو مغن من طراز هاني شاكر أو عفاف راضي لترويج منتجه، وماله وهو حر فيه.
مع استمرار العروسة في المنافسة برغم خروج العلامات التجارية المشابهة له في النصف الثاني من التسعينيات، بدأت تظهر على استحياء آراء تؤكد أن "مزاج" شاي العروسة أفضل، باعتباره "شاي شاي" حسب التعبير ويقصد به القادر على "وزن الدماغ".
يمكن الربط بين حالتي الشاي والأغنية الشعبية بإعادة اكتشاف هويتنا بين التقليل من شأنها والتصالح معها والاحتفاء بها، لكن الجدير بالوقوف عنده والتفكير فيه هو كيف تشكلت تلك التحولات الغنائية عبر تاريخنا؟
نحو أوبرا مصرية
"وبشكل عام نظروا إلى الموسيقى التقليدية الغربية وآلاتها باعتبارها التطور الأرفع في فن الموسيقى. ونتيجة لذلك نظروا إلى الموسيقى العربية باعتبارها في طور النمو.
هكذا كانت نظرة الخبراء المصريين في مؤتمر الموسيقى الشرقية عام 1932. يمكن أن نبدأ من تلك اللحظة كدلالة على ما يمكن أن نسميه التبعية الثقافية الموسيقية، وما تبعها من محاولات صناعة أوبرا وسيمفونيات مصرية للوصول للرفعة الكامنة في الموسيقى الغربية الكلاسيكية (لم تحقق نجاحاً يذكر).
كان من الطبيعي أن نعتبر الموسيقى الأوروبية هي أملنا في تطور الموسيقى الشرقية عام 1923، ونحن واقعون تحت الاحتلال البريطاني، باحثين عن معنى لشيء جديد يُسمى "الهوية المصرية"، ولدينا من يطالب ببقاء الإنكليز لأننا لم نصل لمرحلة التطور الكافية لنحكم أنفسنا. لذلك ظلت هناك نظرة استعلائية للفنون والسير الشعبية، ولم يتم الاعتراف بها بشكل رسمي إلا في عهد نظام ناصر، من خلال إنشاء فرق الفنون الشعبية التابعة للدولة، وإذاعة الشعب التي تخصصت في توصيل الفن الشعبي للجماهير العريضة، اختار النظام أن يضعها في إطار أفكار الوطنية والعروبة والاشتراكية والمساواة، ضمن أدوات ضبط شكلها وتصنيفها في الرقابة ولجان الاستماع في الراديو والتلفزيون، وهو ما تواكب مع النهضة الصناعية في مصر والاحتفاء بمصانع تنتج من الإبرة للصاروخ والاكتفاء الذاتي.
يمكن الربط بين حالتي الشاي والأغنية الشعبية بإعادة اكتشاف هويتنا بين التقليل من شأنها والتصالح معها والاحتفاء بها.
أما في السبعينيات ومع الانفتاح الاقتصادي في عصر السادات، كانت ذروة التبعية الاقتصادية لنموذج الاستهلاك الأمريكي والخليجي، واللهاث وراء المنتجات الحديثة التي حُرم منها المجتمع في العهد الناصري.
وفي الخط الموازي في الموسيقى، كان عدوية مثلاً على انفتاح موسيقي يصنع نجم العرض والطلب، بأموال قادمة من الكاسيت والسينما والملاهي الليلية والأفراح، بعيداً عن سيطرة الدولة، وهي الأجواء التي ساعدت في ظهور نجوم جدد مثل محمد منير وعمرو دياب غير المدينين لأجهزة الدولة في نجاحهم.
ثم بدأت موجات استشراقية أوروبية جديدة في الثمانينيات والتسعينيات، بحثاً عن ما هو جديد ومثير في الفنون المصرية؛ مثلاً تسجيل لحفلة روح الفواد في حفلة في لندن، حفلات ياسين التهامي في فرنسا، الاحتفاء بموجة من المغنين الصوفيين على رأسهم أحمد التوني وأحمد برين وياسين التهامي وعبده الإسكندراني وعلى حسن كوبانا، وتبنته الشركة الألمانية "بيرانا" وله شرائطه، بينما لا يعرفه إلا القليل من أبناء النوبة، والعازف رومان بونكا الذي تعلم العود وخاض مشواراً فنياً مع محمد منير.
وبرغم ذلك استمرت محاولات السيطرة المركزية الفنية الموروثة من الناصرية للثمانينيات والتسعينيات، وكان التمرد عليها صعباً جداً، كما نشاهد في فيديوهات يتحول فيها مفيد فوزي ومنى الحسيني لقضاة محاكم تفتيش عن الفن الأصيل، يحاكمان فيها عمرو دياب وحميد الشاعري وجيل "الأغنية الشبابية"، وهو الدور الذي استمر حلمي بكر في تأديته حتى الآن باعتباره "كاهن الغناء العربي".
تبع ذلك ظهور مجتمع الإنترنت في أواخر التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، وتطور تكنولوجيا تبادل الملفات على الإنترنت وانتشار المنتديات. بدأ ذلك المجتمع بإعادة استيراد المنتج المصري بعدما تم تعليبه في أوروبا، ووضع أختام الجودة الأوروبية عليه، والاحتفاء بنجومية حمزة علاء الدين وعلي حسن كوبان وأحمد التوني وأحمد برين وغيرهم، بينما لم يعرف أغلب المصريين تلك الأسماء، وهو نفسه ما حدث في التعرف إلى نجوم الراي الجزائري عن طريق شهرتهم في فرنسا بدءاً من التسعينيات.
استخدم الجيل الجديد من أبناء الطبقة الوسطى تلك الاكتشافات كمنتج ثقافي بديل يعبّر عن اختياراتهم المختلفة عن الثقافة السائدة في المجتمع المصري وقتها، مثل صراع محمد فؤاد وعمرو دياب مثلاً، وبدأت بعدها موجة جديدة من الفرق الغنائية التي انتشرت في السبعينيات وخفتت بعد ذلك، وما نسميه "موسيقى الأندر غراوند"، التي تنوعت وتفرعت إلى أنماط أصبحت هي الأكثر انتشاراً اليوم.
وأدى مرور الزمن وتطور وسائل الاتصال والتعبير في السنوات الأخيرة إلى إعادة الاعتبار للأغنية الشعبية وإنشاء إذاعة شبه رسمية خاصة بها، أصبحت مملوكةً للشركة المتحدة "شعبي أف أم"، ومنح التقدير لمغنّين شعبيين منهم من رحل مثل حسن الأسمر، ومن عاش ليشاهد مكانته الجديدة مثل عبد الباسط حمودة الذي يقيم حفلات في مركز "ساقية الصاوي" الثقافي، وتتم استضافته في الفضائيات كونه "حكمدار الأغنية الشعبية".
بفضل شبكة الإنترنت أصبحت الأذواق متعددةً وأصبح متاحاً لشاكوش وويجز وعنبة أن ينافسوا عمرو وتامر وأنغام، ويتفوقوا عليهم في عدد مرات الاستماع والمشاهدة، ويصبح لهم جمهور يتحمس لهم ويفتخر بهم، من دون انتظار اعتراف محلي رسمي أو غربي مستشرق
وهو التغيّر نفسه الذي وصل إلى الشاي في دراسة تسويقية مؤخراً، تشير إلى تفوّق العلامة التجارية لشاي العروسة، على جميع المشروبات المعلبة في مصر، وعلى رأسها "بيبسي"" وكوكا كولا" في السوق المصري لعامي 2020 و2021، في انتصار لمنتج محلي على عمالقة المشروبات في العالم.
برغم كل محاولات دولة حزيران/يونيو 2013 في إعادة فكرة المركزية للفن عموماً، وللموسيقى خاصةً، والتي تجلّت في استخدام نقابة الموسيقيين كأداة بوليسية لتأديب وتهذيب وإصلاح من يغنّي المهرجانات والراب والتراب، عن طريق "النقيبَين" هاني شاكر ومصطفى كامل، إلا أن طبيعة العصر تقاوم المركزية التاريخية، وبفضل شبكة الإنترنت أصبحت الأذواق متعددةً وأصبح متاحاً لشاكوش وويجز وعنبة أن ينافسوا عمرو وتامر وأنغام، ويتفوقوا عليهم في عدد مرات الاستماع والمشاهدة، ويصبح لهم جمهور يتحمس لهم ويفتخر بهم، من دون انتظار اعتراف محلي رسمي أو غربي مستشرق، كما يمكن للملايين أن يعلنوا أنهم يفضّلون شاي العروسة على "ليبتون"، من دون الوقوع في الإحساس بعقدة نقص أمام بيبسي عمرو دياب، أو ليبتون كريم عبد العزيز.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...