شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
كيف يرسم ضحايا الكمأة والألغام مناطق النفوذ في البادية السورية؟

كيف يرسم ضحايا الكمأة والألغام مناطق النفوذ في البادية السورية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الخميس 20 أبريل 202306:09 م

لم تتوقف عمليات القتل الممنهج في البادية السورية، أو ما يُعرف بالثقب الأسود. فبين انفجار الألغام وذخائر مخلّفات الحرب من جهة، والإعدام الميداني من قبل القوى المتصارعة، تبتلع هذه المنطقة المترامية الأطراف، بشكل يومي، روّادها من رعاة الأغنام وجامعي فطر الكمأة، الباحثين عن مصدر رزق لهم في هذا الوقت من السنة.

تشير حصيلة "المرصد السوري لحقوق الإنسان"، إلى مقتل أكثر من 244 شخصاً، بينهم نساء وأطفال وعسكريون، خلال 70 يوماً، أي منذ 6 شباط/ فبراير الماضي وحتى 16 نيسان/ أبريل الجاري، في البادية السورية، ما بين انفجار الألغام المزروعة أو الإعدامات الميدانية، وتتراوح مسؤولية قتلهم بين قوات النظام أو الميليشيات الإيرانية أو المجموعات التي تنتمي إلى تنظيم داعش.

وكان أبرز هذه المجازر مجزرة بادية الضبيات جنوب شرق مدينة السخنة في ريف حمص الشرقي، في 17 شباط/ فبراير الفائت، إذ تم تسجيل مقتل 68 شخصاً بينهم 7 عسكريين يتبعون لقوات النظام، على يد تنظيم "داعش"، كما يذكر المرصد، فيما تقول بعض الروايات إن ميليشيا "فاطميون" مسؤولة عن الهجوم.

وأكدت صحيفة الوطن المقربة من النظام، مقتل 32 مدنياً في بادية السلمية شرق حماه، منتصف آذار/ مارس الماضي، على يد مسلحي تنظيم داعش الذين قاموا بمهاجمتهم وإطلاق النار عليهم بشكل مباشر، برغم أن التنظيم لم يتبنَّ عبر معرفاته الرسمية عملية القتل هذه، كما هي عادته بعد أي عملية يقوم بها.

تم تسجيل مقتل 68 شخصاً بينهم 7 عسكريين يتبعون لقوات النظام، في أكبر حصيلة قتلى، في يوم واحد، منذ بدء موسم الكمأة 

ويُلاحَظ أنه برغم دموية عمليات القتل المتنوعة وبشاعتها، الكثير من الرعاة وجامعي الكماة ما زالوا يغامرون في الدخول إلى البادية السورية، الموطن الرئيسي لنمو النبتة الثمينة، لجمع ما يستطيعون، خاصةً مع تسجيلها أسعاراً باهظةً للكيلوغرام الواحد، والذي يبلغ 25 دولاراً، مقارنةً بانعدام تكاليف استخراجها، ما يعني دخلاً مادياً لجامعيها يواجهون به الأوضاع الاقتصادية المتردية التي تعصف بالبلاد.

الكمأة تشعل الخلاف

تتصارع 3 أطراف رئيسية على البادية السورية؛ روسيا، والولايات المتحدة الأمريكية، وإيران، مدعومةً بوكلاء محليين، بالإضافة إلى خلايا داعش التي تعمل بأسلوب الذئاب المنفردة، وتتخذ من البادية عقدة ربط مع بادية العراق، بعد أن أصبحت مركزاً أساسياً لها عقب انتهاء نفوذ التنظيم في الباغوز في ريف دير الزور (2019). وتقع البادية السورية الغنية بمناجم الفوسفات وآبار النفط والغاز جنوب شرق سوريا وشمال شرق الأردن وغرب العراق، وتُقدَّر مساحتها بنحو 60 ألف كيلومتر مربع.

ويُسمّى القسم الجنوبي الأوسط منها الحماد، أما شمالاً فتحدّها منطقة تُسمّى الهلال الخصيب، فيما يجتازها جنوباً خط الأنابيب السعودي أرامكو، لإيصال النفط من رأس التنورة في السعودية عبر الأراضي السورية إلى ميناء صيدا على ساحل المتوسط، وترتبط البادية السورية بشرق سوريا وشمالها الشرقي (دير الزور والرقة)، مع وسطها (حمص وحماه)، وجنوبها الغربي (القلمون الشرقي والسويداء).

وعليه، فإن السيطرة عليها، هي مفتاح الاستحواذ الجغرافي على مساحات غنية بالموارد وخطوط الإمداد والتوزيع، والتواصل مع العراق والأردن وتركيا عبر جبهة شمال دير الزور، وانطلاقاً من نقاط التواصل هذه انطلقت معادلات الضغط والمكاسرة العسكرية في تلك المنطقة.

وتستهدف الهجمات منذ سنوات، قوافل وأرتالاً عسكريةً معظمها يتبع لقوات النظام، حتى تطور الأمر إلى استهداف المدنيين في تعمّد واضح لقوى النفوذ، في منع أي تحركات أو توغل من أي طرف كان لا سيما أبناء المنطقة من رعاة الأغنام وجامعي الكمأة الذين يحفظون جغرافيا البادية بالشبر، متحدّين مخاطر هذه الهجمات والألغام التي ترسم مناطق النفوذ الخاصة بكل طرف.

وكانت قيادة ميليشيا جيش الدفاع الوطني في دير الزور، قد أصدرت تعميماً في آذار/ مارس الفائت، تمنع بموجبه أهالي ريف دير الزور الغربي وسكانه، من الخروج لجمع فطر الكمأة والرعي في بادية المنطقة، فضلاً عن قيامها بزراعة مئات الألغام والعبوات الناسفة وعدم وضع أي لافتة تحذيرية، بهدف قطع الطريق تماماً عن أي محاولة لدخول البادية، ونشر حواجز عدة على أطراف بوادي ريف دير الزور الغربي.

تجبر الفرقة الرابعة جامعي الكمأة على إحضار هذه القوات من أجل حمايتهم، كما تقدّم لهم معلومات حول أماكن زرع الألغام مقابل الحصول على جزء كبير من الأرباح، ومن يرفض ذلك يواجه خطر الموت بالألغام

وتدرّ الكمأة أرباحاً طائلةً، إذا ما علمنا أن البادية السورية والمحميات الطبيعية القريبة منها تُعدّ موطناً رئيسياً لها، ما أشعل التنافس بين الأهالي والميليشيات وخلايا داعش على المنطقة هناك، وما دفع الأهالي إلى تقديم رشاوى إلى عناصر الميليشيات الإيرانية أو العناصر المحلية المسؤولة، للسماح لهم بدخول البادية وتقاسم ما يجمعونه معهم، بعد أن وجد هؤلاء العناصر والضباط موسم الكمأة أحد الموارد المهمة لهم، حيث بنوا شبكةً اقتصاديةً مع تجار الكمأة الذين يتوغلون بشاحناتهم المحملة بالمياومين.

وكانت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، قد تحدثت في تقرير لها، عن ابتزاز قوات النظام السوري ومجموعات تابعة لها، عمال جامعي الكمأة عبر مرافقتهم ومقاسمتهم الأرباح، وذكرت الصحيفة أن قوات الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد، شقيق بشار الأسد، وقوات الدفاع الوطني (الرديفة لقوات النظام)، تجبر جامعي الكمأة على إحضار هذه القوات من أجل حمايتهم، كما تقدّم لهم معلومات حول أماكن زرع الألغام مقابل الحصول على جزء كبير من الأرباح، ومن يرفض ذلك يواجه خطر الموت بالألغام أو الخطف أو بهجوم المسلحين المجهولين.

وكشفت الصحيفة أن بعض هذه الهجمات تنفذها القوات نفسها التي توفر الحماية، من أجل ردع الناس عن الذهاب بمفردهم إلى أماكن جمع الكمأة، وتركهم خارج الموسم الذي يدرّ أرباحاً كثيرةً.

ونشرت شبكة "دير الزور 24" (المختصة بنقل أخبار محافظة دير الزور)، في 18 نيسان/ أبريل الجاري، خبراً حول مصادرة الفرقة الرابعة لقرابة 600 كغ من فطر الكمأة في بادية دير الزور الغربية، تعود ملكيتها لمدنيين، وذلك بسبب عدم دفع الإتاوات.

ويقول الخبير العسكري العقيد مالك الكردي، في حديثه إلى رصيف22، إن "الفرقة الرابعة كانت وما زالت هي اليد الضاربة للنظام، وهي الفرقة المدللة لديه، وبسبب الظروف الاقتصادية التي أنهكت الدولة والمواطن على السواء، فإن منابع التغذية لتلك الفرقة باتت محدودةً، إلا أن ضباطها لم يستنفدوا فرصتهم في السرقة، من التعفيش وسرقة المنازل وأُثثها، إلى المخدرات وصولاً إلى الكمأة".

ويضيف: "هذه القوى المتصارعة (الميليشيات الإيرانية، تنظيم داعش، قوات النظام من فرقة رابعة وميليشيات الدفاع الوطني)، قد جعلت هؤلاء العمال الذين يعملون من دون تنسيق معهم أهدافاً مباشرةً، وكذلك فإن داعش التي تعادي الاثنين ترى في هؤلاء العمال مطايا لأعدائها وأدلاء على تحركات عناصر التنظيم".

صادرت الفرقة الرابعة قرابة 600 كغ من الكمأة في بادية دير الزور الغربية، سبب عدم دفع الإتاوات

اتساع البادية السورية وكثرة الكهوف والمسالك فيها، جعلتها منطقةً مثاليةً لحروب العصابات، كما أن محاذاتها لمحافظات سورية عدة، ودولتين جارتين، واحتواءها على الكثير من الكنوز الطبيعية والتاريخية، جعلاها منطقةً تحظى بأهمية عالية من قبل جميع أطراف الصراع، فالميليشيات الإيرانية تستفيد منها كممر برّي من إيران إلى العراق وسوريا ولبنان، وخلايا داعش تراها الملاذ الأخير لها.

ويرى الكردي، أنه من الصعب على أي قوة حالية رسم حدود سيطرة في البادية، لأنها تحتاج إلى الكثير من القطعات والوحدات، وأي انفراج بينها يعني قطع خطوط السيطرة، وتبقى حدود معسكرات التمركز ومدى أسلحة المشاة وزراعة الألغام التي تحيط بالمعسكرات وأماكن بحث عمال الكمأة، هي من ترسم خطوط سيطرتها.

البادية والأذرع الولائية

يشير الباحث في الحركات الجهادية حسن أبو هنية، إلى أن "المجازر المرتكبة ضد جامعي الكمأة ورعاة الأغنام لغز غير واضح مع الاتهامات المتبادلة بين جميع الأطراف وتكرار الدخول إلى البادية برغم المعرفة المسبقة بأن الدخول إليها محفوف بالمخاطر، إلا أنه يمكن القول إن داعش يرتاب من أي شخص يدخل البادية التي يراها ملاذه الأخير، إذ يعدّه جاسوساً للميليشيات الإيرانية أو النظام".

وينبّه في حديثه لرصيف22، إلى أن هجمات التنظيم ضد جامعي الكمأة ورعاة الأغنام قد تكون مرتبطةً "بالإتاوة والضريبة اللتين يفرضهما داخل مناطق نفوذه، فمن لا يدفع مصيره القتل أو الاختطاف".

بعد فشل حملات التمشيط الواسعة لقوات النظام والميليشيات الإيرانية، فضلاً عن تعرض مجموعات من الميليشيات للاختطاف على يد خلايا تنظيم داعش، واستهداف الخلايا بالكمائن القوافل العسكرية العابرة على الطرق البرية، لجأت الميليشيات الإيرانية إلى إستراتيجية جديدة لمواجهة أسلوب الذئاب المنفردة الذي يتّبعه داعش، وذلك بتقسيم البادية إلى قطاعات بينها وبين قوات النظام، وزراعة الألغام في محيط مواقعها العسكرية ومناطق قد تبعد عنها بضعة كيلومترات، بطريقة عشوائية تغيب فيها الإشارات الدالة على وجود ألغام، من دون مراعاة أمن المدنيين من رعاة الأغنام والباحثين عن فطر الكمأة.

الرؤية التوسعية في البادية السورية لكل الأطراف، هي استمرار المجازر وعمليات القتل، ما يساعد في تفريغ البادية وتأمين الطريق الدولي القادم من العراق باتجاه سوريا ولبنان

يرى الباحث في الشؤون الإيرانية مصطفى النعيمي، أن "عملية استهداف المدنيين السوريين العُزّل تأتي لقطع أي موطئ قدم لدخول البادية من جهة، وفي سياق إستراتيجية النظام السوري وأذرعه من الميليشيات الولائية متعددة الجنسيات الرامية إلى ممارسة أقصى درجات الضغط والإجرام على السوريين القاطنين في مناطق نفوذ الأسد، وتالياً تجهيز الأرضية الخصبة لانتشار ميليشيات الأسد في المناطق المستهدفة وسحب أبناء البادية السورية إلى الخدمة الإلزامية".

ويعتقد، في حديثه إلى رصيف22، أن إيران والنظام يستثمران في حالة الفوضى القائمة بين جناحي التطرف "الميليشيات الولائية وداعش"، لرسم الحدود الخاصة بهما، وتحقيق أعلى المكتسبات في التموضع في البادية السورية، واستغلال واستخدام التموضع للضغط على الولايات المتحدة وذلك من خلال توجيه ضربات صاروخية تجاه المناطق التي تتواجد فيها القوات الأمريكية على ضفة الفرات الشرقية، وقاعدة التنف الأمريكية على المثلث الحدودي.

ويرى النعيمي أن "الرؤية التوسعية في البادية السورية لكل الأطراف، هي استمرار المجازر وعمليات القتل، ما يساعد في تفريغ البادية وتأمين الطريق الدولي القادم من العراق باتجاه سوريا ولبنان، ومنه إلى مياه المتوسط، أو تأمين ما يُعرف بـ"درب السبايا" من كربلاء العراقية مروراً بالبادية إلى دمشق واستثماره اقتصادياً".

في المحصلة، تبقى الفئة الفقيرة من جامعي الكمأة والرعاة وغيرهم، هي من يدفع الضريبة الأكبر من حياتها أمام صراع النفوذ بين الأطراف التي تحاول بأي طريقة كانت، رسم مناطق نفوذها بالدم والأشلاء والجثث. فإن لم يكن الموت بالرصاص أو ذبحاً، فالموت فقراً وجوعاً أمام الضائقة الشديدة التي تعصف بالسوريين. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image