شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
لسنا الوحيدين الذين نزحنا... من يوميات الحرب في سوريا

لسنا الوحيدين الذين نزحنا... من يوميات الحرب في سوريا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الخميس 30 مارس 202303:29 م

كانت الثالثة عصراً وكنت ممدداً على بلاط الغرفة مع أولادي وزوجتي مبتغين بعض البرودة في ذلك الجو الحارق، وفي ظل انقطاع التيار الكهربائي لثلاثة أيام عن الحي.

فجأةً ومن دون سابق إنذار، سمعنا صوت الرصاص، ولم يكن بعيداً كما هي العادة، بل أقرب ما يكون إلينا. هرعت مسرعاً إلى الشرفة ورأيت ما توقعت: مجموعة من العناصر المسلحة برشاشات خفيفة، واشتباكات تدور أسفل منزلنا مع القوات الحكومية.

أغلقت النوافذ و"الأباجورات"، وأدخلت تانيا والأولاد إلى المطبخ الأكثر أماناً نظراً لكونه بعيداً عن الشبابيك المطلة على الشارع. استمرت الاشتباكات ثلاث ساعات تقريباً لينسحبوا بعدها، لكن دخولهم دق ناقوس الخطر بعودتهم مرة أخرى، ما يعني تعرضنا لخطر القصف بالمروحية أو الرصاص الطائش. كان لا بد من قرار سريع لحماية عائلتي، وفعلاً، قررنا المغادرة إلى السلَمية مع أهل زوجتي الذين يقطنون الحي نفسه، ولفترة مؤقتة لا تتجاوز الأسبوع (بحسب اعتقادنا حينها)، إلى حين تهدأ الأوضاع ونعود بعدها، قبل أن تتحول هذه الفترة إلى نزوح دام سبع سنوات خارج حلب، وأحد عشر عاماً خارج منزلنا في حي "بستان الباشا".

الخروج من الحي

كان الغبار يلف الشارع وحرارة الجو فوق المعتاد في وقت لم يبلغ الظهيرة بعد؛ إنه آب/أغسطس بشمسه الحارقة، وغباره الذي يملأ الهواء. بعض سكان الحي حملوا حقائبهم وخرجوا يبحثون عن حيز أمان ولو مؤقت، كما نحن. والبعض الآخر بقي في الحي كي لا يترك منزله للمجهول، ومنهم من كان سعيداً لدخول "الجيش الحر" إليه، وأثناء اشتباكه مع قوات الحكومة قاموا بتقديم الشاي لعناصره رغم أننا كنا في منتصف رمضان تقريباً.

الانقسام الذي يؤدي إلى تفرق الأصدقاء وخلاف الإخوة ليس انقساماً صحياً، والانقسام الذي يسيل فيه الدم ليس صحياً، والانقسام الذي يجعل المثقف، قبل الجاهل، يتقوقع حول طائفته أو إثنيته أو عشيرته، ويعود بنا إلى عصر الجاهلية، ليس انقساماً صحياً

كان هذا الأمر "طبيعياً"، برأيي، في بلد شهد انقساماً شاقولياً جراء الأحداث التي رافقت المظاهرات وما تلاها، انقسام لم يكن صحياً أبداً، لأنه لم يكن "خلاف رأي لا يفسد للود قضية". فالانقسام الذي يؤدي إلى تفرق الأصدقاء وخلاف الأخوة ليس انقساماً صحياً، والانقسام الذي يسيل فيه الدم ليس صحياً، والانقسام الذي يجعل المثقف، قبل الجاهل، يتقوقع حول طائفته أو إثنيته أو عشيرته، ويعود بنا إلى عصر الجاهلية، ليس انقساماً صحياً.

رتبنا حقيبة سفر واحدة وضعنا فيها بعض الثياب والأوراق المهمة، ثم توجهنا مع "بيت عمي" إلى السلَمية بحثاً عن الأمان المنشود. اتصلت بأخي الكبير وأخبرته أننا قادمون، واتصلت بأختي لتذهب إلى القرية وتساعد أمي العجوز -التي تقطن وحدها في منزل العائلة بالقرية– في تجهيز ما يلزم لاستقبال أهل زوجتي، حيث كانت المرة الثانية التي يزورون فيها القرية، فالمرة الأولى كانت عندما كنا مخطوبين، تانيا وأنا.

وصلنا القرية عصراً قبل موعد إفطار رمضان وكانت والدة زوجتي صائمة، وبعد الإفطار جلسنا مع أخوتي، وكان الحديث يدور حول ما يحدث في حلب وحول ما استجد في حيّنا ودخولهم المفاجئ إلى الحي. لم يتبادر إلى أذهاننا أبداً أن خروجنا هو نزوح، وكنا مقتنعين تماماً أنها فترة مؤقتة ونعود، ولا أدري لمَ تلك القناعة التي كانت بعيدة عن الواقع. ربما لأن عقلنا الباطن كان يرفض فكرة النزوح أو لأننا لم نعِ حجم الكارثة التي حلّت بعد.

بقي أهل زوجتي في القرية أسبوعاً قبل أن يقرروا الذهاب إلى حماه، حيث تسكن أخت تانيا. كانوا أربعة أفراد: والد ووالدة تانيا وأختها وأخوها، شيرين ونبال. يُكنّى عمي بـ"أبي وسام" نسبة إلى ولده الكبير الذي توفي عندما كان في عمر الثالثة عشرة، إثر صدمة كهربائيةٍ تلقاها خطأً في معمل النسيج حيث كان يعمل عمي، وهو ما سبب صدمة كبيرة له ولعائلته استمرت لسنوات طويلة.

يتعاملون معنا كزائرين طبيعيين، لا كنازحين عانوا ما عانوا من مرارة الحياة وجبروتها.

كان أبو وسام، الرجل الستيني، مثقفاً ومناضلاً عتيقاً، وجد نفسه في موقع المسؤوليّة عن أخوته الصغار في سن مبكرة من حياته بعد وفاة والدَيه، ما جعله صلباً وقوياً وصبوراً على مرارة الحياة وقسوتها. بدأ وعيه السياسي يتشكل في تلك المرحلة المبكرة من عمره، فتأثر بعبد الناصر وبالفكر القومي العربي، وكان من مؤسسي "حركة القوميين العرب" مع جورج حبش، والتي تطورت لاحقاً لتنتقل من الفكر القومي العربي إلى الفكر الماركسي، وتكون نواة لما يسمى بـ "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" بقيادة الحكيم جورج حبش وقتها، وهو ساهم في نشاطات الجبهة ونضالاتها في لبنان ضد إسرائيل. تعرض عمي للاعتقال أكثر من مرة، ولكن خطه الواضح في تلك الفترة والمتمثل في النضال ضد إسرائيل وعدم مشاركته في أي نشاط ضد نظام الحكم في سوريا، كان شافعاً له ليكون اعتقاله مؤقتاً، لا يستمر لأكثر من شهر أو شهرين في حده الأقصى.

بقينا في القرية لمدة شهرين تقريباً، ثم انتقلنا للسكن في السلَمية في بيت لابنة عمي، وكان المنزل لولدها الذي يعمل في السعودية، فتحه لمن نزح عن بيته إثر الأحداث التي بدأت تصبح دامية في غالبية الرقعة الجغرافية السورية.

عمي.. ومحاولة العودة والتأقلم

عاد أهل زوجتي للسكن معنا في السلَمية وبدأت أبحث عن بيت للإيجار. استدنت بعض النقود واستأجرت بيتاً سكنا فيه سوية، وقدم لنا أخي بعض أدوات المطبخ والإسفنجات للنوم، وأخي الثاني تلفزيوناً و"ستلايت"، وليكون هذا أثاث منزلنا لعدة سنوات لاحقة.

بعد بقائهم معنا في السلمية لشهرين تقريباً، قرر أهل زوجتي العودة إلى حلب ومنزلهم في محاولة للتأقلم مع الأمر الواقع المفروض. كان عمي يملك سيارة أجرة يعمل عليها قدر استطاعته ويتلقط رزقه منها، وتركها عند أحد أصدقائه قبل خروجنا من حلب. عند الباب وقبل خروجهم قالت والدة تانيا لها: عودوا معنا، لكن تانيا أخبرتها بأنها لا تستطيع لأجل الأولاد.

عادوا إلى منزلهم في حيّنا الذي بات تحت سيطرة الفصائل المسلحة، إلا أن حجم القصف والاشتباكات الدائمة كان أكبر من أن يتحملوه، فانتقلوا إلى حيّ آخر عند عم تانيا، ولم يتغير الوضع أيضاً، لأن أسباب الحياة في حلب الشرقية كانت معدومةً في ظل الحصار والقصف والاشتباكات الدائرة على مدار الساعة، ما زاد من رعب أم وسام، أضف إليه عدم قدرة عمي على العمل على سيارته في ظروف الحرب السيئة هذه، ولم يكن بمقدورهم الاستمرار على هذا الوضع.

كان التواصل معهم صعباً في ظل انقطاع الاتصالات عن حلب الشرقية، وكان عليهم الذهاب والوقوف في أماكن محددة ليلتقطوا إشارة ويتصلوا بنا. في آخر اتصال لعمي بتانيا، أخبرها بأنه لم يعد يستطيع التحمل، واستنفذ قدرته وطاقته على تدبر أموره وعائلته، وهو يشعر بأنه سيموت. هنا التقطت التلفون منها وقلت له دون تردد: اتركوا حلب وعودوا إلى السلمية.

كان الوضع في البلد يزداد سوءاً، وأصبحت الحياة أقرب ما تكون إلى العصر الحجري، وأسبابها قليلة جداً: لا كهرباء ولا ماء ولا غاز ولا وقود للتدفئة، حتى صرنا نستخدم "بابور" الكاز للطبخ. كان راتبي لا يصلني إلا مرة كل عدة شهور، وصار الوضع المادي سيئاً جداً لدرجة أننا كنا نعيش على المعونة التي تصلنا كل شهرين، تقريباً، من "مؤسسة الآغا خان"، ووصلت في كثير من الأحيان إلى مرحلة الإفلاس التام.

وفي موقف لا أحسد عليه ولن أنساه طيلة حياتي، كنت أصطحب ريان وشام لنشتري بعض الخضار للطبخ، ولمَحَا الموز في المحل ثم قالا لي بحسرة: "أبي اشتري لنا موزاً". وقفت برهة وبركان الدمع على شفا الانفجار، إذ كان كل ما في جيبي لا يكفي لشراء كيلو واحد منه، وما كان مني إلا أن طلبت من البائع أن يزن لي قرنين من الموز والفرحة تغمر الولدين، وتكرر الموقف نفسه ذات مرة مع فطيرتي لحمة.

فقدٌ في دمشق

استيقظنا ذات صباح على وقع خبر تفجير "وزارة الداخلية" في حي المرجة بدمشق، ومر الخبر "طبيعياً" في بلد أصبح فيه الموت من يومياته الرتيبة، وباتت أخبار المجازر وتفاصيل الحرب القذرة بأبشع صورها عبر التاريخ البشري سرداً مُملاً يمر أمامنا كما نشرة الأخبار المسائية قبل عصر "الستلايت".

لكن الصادم في الخبر كان فقد ابن عمتي، عبد الكريم، في التفجير، وهو الضابط في الوزارة حينها. كان رجلاً طيباً ولطيفاً في الخمسينيات من عمره وأباً لأولاد بعمر الزهور، تركتهم الحرب يتلقفون مصيرهم يتامى من دون أبٍ يستمدون منه قوتهم في مواجهة الحياة وقسوتها. عند المساء، اتصلت بأخي في دمشق مستفسراً عن الساعة التي سيحضرون فيها جثمان ابن عمتي وسألته: شو صار معكم؟ فقال لي: أنا في المشفى الآن وقد مات أسامة. هنا صرخت: من أسامة؟ ولينزل الخبر كالصاعقة على رأسي: إنه زوج أختك ربا.

أطلقت مسبّة إلهية وجلست أرضاً ورجلاي لم تعودا تحملانني، وأنا أبكي كالطفل الصغير، فأسامة وقبل أن يكون زوجاً لأختي، كان صديقي ورفيقي الذي جاورني لثلاث سنوات أثناء عملنا، كلّ على كمبيوتره، في "دار علاء الدين للنشر"، وكنا نتقاسم يومياتنا بكل تفاصيلها الجميلة والمرهقة في العمل. كانت تدور بيننا نقاشات لساعات حول كتاب أو فقرة في كتاب أثناء العمل عليه، وكم اكتشفنا الأخطاء سويةً وكم رتبنا أفكاراً وحررناها من جديد، وكم ضحكنا على أعمال مثيرة للسخرية، وكم لمّنا شغف لإنهاء كتاب أعجبنا. وأسامة هو والد رام، طفله الوحيد الذي أنجبه من أختي ولم يتجاوز عمره، آنئذٍ، السنتين ونصف، وهو أيضاً الفلسطيني المعتز بقضيته والمدافع عنها حتى في أسوأ حال وصلَت إليه.

كانت القذائف تنهال على حي "مخيم اليرموك" عندما قرر أسامة أن يستقل تاكسي أجرة ويذهب لإحضار أختي من وظيفتها، خوفاً عليها من ذلك اليوم الأسود الذي أمطرت فيه السماء قذائفَ استهدفت المخيم من قبل الفصائل المسلحة التي تستوطن الأحياء المجاورة. قذيفة كانت قريبة من السيارة جعلته يرمي بجسده فوق أختي، حب حياته، ليحميها من الشظايا ومن دون أن يفكر بحماية نفسه، فاخترقت شظيةٌ رأسَه ولم يكمل يومه على أثرها، وفقد الحياة.

لسنا الوحيدين الذين نزحنا، ومأساتنا هي جزء من سلسلة المآسي التي عانى منها غالبية الشعب السوري، ممن ذاقوا مرارة الفقد، فقد البشر والحجر، ولكلٍّ مأساتُه التي لا يرى غيرها

في اليوم التالي ذهبت مع إخوتي وأمي لمواساة أختي بمصابها وللقيام بواجب العزاء، وعدنا في مساء اليوم نفسه إلى السلمية، حيث كان ينتظرنا عزاء ابن عمتي، في حين بقيت أمي وأختي وزوجة أخي عند ربا، وليزداد الوضع سوءاً ويخرجوا في اليوم التالي تحت القصف وعلى وقع دخول الفصائل المسلحة إلى المخيم، ولتغدو أختي نازحة في بيت أخي بدمشق لعدة سنوات، قبل أن تؤمن لنفسها بيتاً جديداً مع ولدها رام.

نهاية البداية

اليوم وبعد كل ما مررنا به، لا زلت أسأل نفسي: هل كان قراري أنا وعمي بالخروج من حلب صائباً؟ فهذا القرار غيّر مسار حياتنا بالكامل، ولا زالت تداعياته النفسية مستمرة حتى الآن.

لسنا الوحيدين الذين نزحنا، ومأساتنا هي جزء من سلسلة المآسي التي عانى منها غالبية الشعب السوري، ممن ذاقوا مرارة الفقد، فقد البشر والحجر، ولكل مأساته التي لا يرى غيرها، وربما كان هذا واحداً من الأسباب التي جعلت الناس تفقد الإحساس بالآخر، وجعلت الكثيرين يمرون على مأساتنا مرور الكرام، ويتعاملون معنا كزائرين طبيعيين، لا كنازحين عانوا ما عانوا من مرارة الحياة وجبروتها، ومرارة الفقد المضني وتبعاته النفسية والمادية لاحقاً.

بعد آخر اتصال لعمي معنا ودعوتي له للعودة إلى السلمية، قرروا العودة وخرجوا من حلب بسيارة الأجرة خاصتهم، محضرين بعض الثياب التي تخصهم وتخصنا، وبعض الحرامات وبعض ألعاب ريان وشام، غير مدركين لما ينتظرهم على الطريق والقدر المحتوم الذي وقعوا به، وليدوم سفرهم ثلاثة أيام مرت كالكابوس علينا في ظل انقطاع الاتصال بهم، قبل أن يرن الهاتف أخيراً وترميه تانيا أرضاً على وقع خبر استشهاد أمها، ولتقول لي: "ماتت ماما يا إسماعيل"...

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard