لم تكن تلك الأعوام بين الثمانينيات والتسعينيات تُنبئ باحتمال ميلاد سيدات في المجال العام المصري بعد ركود على أصعدة عدّة، باستثناء القليل من النشاط الروتيني الذي يُظهر بعضهن كسيدات مجتمع مهتمات بعمل خيري أو ناشطات نسويات ترسّخت أسماؤهن منذ سنوات وربما عقود.
من إحدى المحافظات البعيدة عن العاصمة، خرجت إيمان مرسال إلى المجال العام مدافعة عن قضايا مختلفة بحسّ إنساني في نصوص أدبية متميزة، فترسخ اسمها واحدة من أهم شاعرات مصر، إذ تحظى بتقدير دولي توجه إعلان اسمها أمس، الأربعاء 19 إبريل/ نيسان، ضمن القائمة القصيرة للمرشحين للفوز بجائزة غريفن للشعر لعام 2023، والمقرر إعلانها في احتفال في مدينة تورنتو بكندا في يونيو/ حزيران المقبل.
"بنت الأرض" المصرية
قبل أيام معدودة من هذا الإعلان عن الجائزة التي ترشحت لها إيمان عن قصائدها المترجمة إلى الإنجليزية في ديوان The Threshold "العتبة" الصادر عام 2022 عن دار ماكميليان، كانت وزميلها مترجم القصائد روبن كريسويل يتواصلان مع الجمهور من خلال قراءة أجزاء من الديوان في فيديو قصير منشور عبر حسابها الرسمي على فيسبوك، وقد اختارت هي أن تلقي قصائدها بالعربية.
ربما هذا لأنها، وإن عبرت "العتبة" من مصر إلى العالمية، وفيّة لهويتها الأصلية. فهي المولودة في إحدى قرى مدينة المنصورة بمحافظة الدقهلية، والتي قضت غالبية أعوام عمرها منذ 30 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 1966 في مصر، قبل أن ترتحل إلى عدّة دول أجنبية، بعدما صارت أكاديمية متخصصة.
"بعد فترة ، عليك أن تتخلى عن الوصاية على قصائدك مما يسمح لها بالهجرة إلى لغات ومنازل جديدة"
هذا التخصص بدأته إيمان طالبة في جامعة القاهرة تدرس العربية، لتواصل رحلتها مع اللغة وآدابها بالحصول على الماجستير برسالة تحمل عنوان "التناص الصوفي في شعر أدونيس"، ثم أصبحت أستاذة مساعدة للأدب العربي ودراسات الشرق الأوسط في جامعة ألبيرتا، ثم أقامت في برلين كأستاذة متفرّغة للعام 2012 - 2013 لإنهاء كتابها عن "أمريكا في كتابة الرحلة العربية"، وهو تطوير لأطروحتها للدكتوراة التي حصلت عليها في العام 2009.
إلى العمل الأكاديمي، كان لمرسال أنشطة أخرى تعكس ولاءها للهوية، فحين بلغت العشرين من عمرها شاركت بين العام 1986 و1992 في تحرير مجلة "بنت الأرض"، لسان حال مجموعة من الناشطات المدافعات عن حقوق الإنسان وحقوق النساء في محافظة الدقهلية، مسقط رأسها، تحت مظلة حزب التجمع ذي الإيديولوجية اليسارية. وذلك خلال فترة كانت فيها الحياة السياسية في مصر تقاوم المحاولات الشرسة للتجفيف.
وباعتبارها ابنة هذه المحافظة، وذات أفكار مُتسّقة مع اللجنة، شاركت في تجربة المجلة التي كانت محلّ إشادة حتى بعد حوالى عقدين من احتجابها، بسبب الأثر الذي تركته حسبما وثّق أحد الذين عايشوها، فتظل حيّة في الأذهان. بل تعود بعد الثورة، تحديداً عام 2012، في صورة جمعية تحمل الاسم نفسه، تساند حقوق المرأة على مختلف الأصعدة، لا سيما الاقتصادية والاجتماعية.
"من المستحيل تحديد كيف سيصل صوتك إلى الجانب الآخر... المترجم الذي يختار قصيدتي ويجلس هناك يكافح من أجل وضعها بلغته، له الحق في إعادة كتابتها- ما دام صوتي المحفور بقي على قيد الحياة في رحلته إلى الوجهة المرتجاة"
صاحبة التجارب
ربما "بنت الأرض" ليست مجلة معروفة لكثيرين، لكنها واحدة من تجارب صحافية مرّت بها إيمان مثل "الجراد" - وهي من أهم المجلات الأدبية المعبرة عن جماعة شعراء التسعينيات- و"أدب ونقد" و"الكتابة الأخرى". والأخيرة أيضاً مثلت صوت الحداثة في المشهد الأدبي والنقدي المصري خلال التسعينيات، وتُعرّف بأنها "إصدار غير دوري مستقل"، صدرت بمجهود من مبدعي الثمانينيات، وأحدهم محررها العام هشام قشطة الذي اعتبرها "أحد إرهاصات ثورة 25 يناير"، إذ كانت "منذ البداية، تدافع عن الصوت المهمش في الثقافة المصرية"، قبل أن توقفها الدواعي المادية.
لذا، كانت عودتها بعد الثورة- في صورة كتاب- محلّ احتفاء دولي ظهر في إذاعة "مونت كارلو"، ومجلة "نزوى" العُمانية- التي نشرت أيضاً لمرسال- واعتبرت "الكتابة الأخرى" مجلة لـ"مثقفين يستعصون على الترويض"، ورأى الكاتب المصري سيد محمود أن توجهات تلك المجلة "رسّخت حضور قصيدة النثر وشعرائها"، وهو ما بدا في نصوص إيمان المنشورة في أعداد مختلفة منها.
صوت المشاعر
"شاعرة مصرية وأستاذة مُساعدة في الأدب العربي ودراسات الشرق الأوسط بجامعة ألبرتا، كندا. من كُتبها جغرافيا بديلة 2006، وحتى أتخلى عن فكرة البيوت 2013"، هذا تعريف بإيمان مرسال يطالعه القارئ على الغلاف الخلفي لكتابها "كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها".
أتى التعريف في سطرين، رُبما بحكم المساحة أو باعتباره ختاماً لتعريف أكبر وأوسع قدّمه للقارئ النصُ في ذلك الكتاب، الذي ترجمت فيه إيمان وقائع وأحلام مرّت بها بعد تجربة الأمومة، فكانت به صوتاً يُترجم خواطر عشرات الأمهات.
فمع "الأمومة وأشباحها"، استعرضت اختلافات بين عالمين، الأول الذي تعيش فيه منذ أواخر التسعينيات، والثاني حيث وُلدت وفقدت أمها وهي بعد طفلة، كما تنقّلت بين الخوف من التجربة والتزاماتها التي قد تصل حد طمس الهوية لصالح الصغير، إلى ما فيها من متعة وحميمية، كتبتها بمشاعر بدت فيها أمومتها التي يشعر بها القارئ في نصّ آخر كتبته عام 2016 بمجلة "الإنساني" في رثاء الصغير آلان كُردي وغيره من ضحايا الصراعات.
من الأمور الجلية مع مرسال ونصوصها، هو الحميمية تجاه قرائها، فهي الحريصة على تبادل المشاعر والأفكار معهم، مثلما يظهر في لقاءات، أحدها كان بمثابة تفكير جماعي ونقاش مفتوح بعد كتاب "الأمومة" ومصاعبها وما تلجأ إليه الأم من حيل لشحن طاقتها. ولقاء آخر قدّمت فيه رؤية اللكتاب وكيف أنه محاولة لفهم الأمومة وآثارها على المستوى المهني والمجتمعي والنفسي.
اكتشفت إيمان الكثير وقدّمته للقارئ عن الكاتبة صاحبة الرواية الوحيدة التي لم يُكتب لها الخروج للنور إلّا بعد سنوات من انتحار كاتبتها عنايات، التي قُتِلَت عبر قتل طموحها في إصدار عملها الأدبي الذي أهملته دور النشر في الستينيات
مُتقصّية الأثر
الأحاديث عن المشاعر والنفسية حاضرة في نصوص إيمان، ليس فقط على غرار "الأمومة"، بل أيضاً في عمل يعد من أبرز ما أنتجت وهو "في أثر عنايات الزيات"، فحين كانت تزور سور الأزبكية لشراء كتاب عن الأولياء، لفت نظرها اسم السيدة مكتوباً على غلاف رواية بعنوان "الحب والصمت"، فدخلت إلى عالم عنايات الزيات لتتقصى أثرها.
في الرحلة اكتشفت إيمان الكثير وقدّمته للقارئ عن الكاتبة صاحبة الرواية الوحيدة التي لم يُكتب لها الخروج للنور إلّا بعد سنوات من انتحار كاتبتها عنايات، وهي بعد شابة لم تبلغ الثلاثين من عمرها، وكانت قد قُتِلَت عبر قتل طموحها في إصدار عملها الأدبي الذي أهملته دور النشر في الستينيات، رُبما لصالح أمور كانت مُهيمنة آنذاك من قبيل الاشتراكية والعروبة وغيرهما.
رسمت مرسال- ليس في كتابها فقط بل أيضاً في ما أُجري معها من لقاءات بعده ولدى نيلها الجائزة التي حصلت عليها عنه- صورة للمشهد الثقافي في عصر "الحب والصمت"، وكيف كان الاحتفاء بالبعض وتجاهل الآخر، فظهر اهتمامها بكفاح كاتبة للحصول على حق بسيط، لم يكن الحصول عليه بالصعب في حال تطبيق المساواة والعدالة، اللتين لم يكن للزيات نصيب منهما تحت حكم كان يتم الترويج له باعتباره بداية عصر جديد.
لكن، ربما كان هذا هو السر، فالرواية لم تكن مهمة لذلك "العصر الجديد" ورجاله، عدا أن كاتبتها من الطبقة الأرستقراطية غير المُقربة- إن لم تكن منبوذة- لهم، ثم تحولت إلى فيلم سينمائي في السبعينيات، وأعادت لها إيمان الحياة من جديد بما بذلته من مجهود استقصائي وبحثي وأدبي لرسم حياة كاتبتها، والإجابة عن تساؤلاتها الشخصية التي أُثيرت منذ رأت الاسم والرواية، والرغبة في معرفة أسباب انتحارها.
فوائد الرحلة
عدا الرحلة الأدبية التي تقصت بها إيمان أثر عنايات الزيات، كان لها رحلات أخرى واقعية، منها ما هو على المستوى الأكاديمي منذ رحلت عن مصر إلى الولايات المتحدة، ومنها إلى كندا حيث تعمل أستاذة مساعدة للأدب العربي ودراسات الشرق الأوسط في جامعة ألبيرتا، كما أقامت في مرسيليا بفرنسا حيث عملت في جامعة مرسيليا.
لهذه الرحلات جميعها فوائد، إحداها أنها صارت الاسم الذي يُثري بحضوره أي فعالية ثقافية يحرص منظموها على مشاركتها فيها، كما أن أعمالها تلقى اهتماماً لدى أجانب حرصوا على ضرورة ترجمة أشعارها لحضور هذه الفعاليات، مثلما تحرص العديد من الإصدارات الأدبية على ضم نصوصها إليها، بل أرشفتها أيضاً.
كل هذه الأمور ثمرة مجهود إيمان، الذي لا يقتصر على "الأمومة وأشباحها" أو "أثر عنايات الزيات"، فلها العديد من الأعمال مثل "ممرّ معتم يصلح لتعلّم الرقص" الصادر منتصف التسعينيات ويُعد "واحداً من أهم الكتب الشعرية الصادرة عن جيل التسعينيات في الشعر العربي"، وغيره من أعمال تمت ترجمتها إلى أكثر من 20 لغة. كما تنتظرها مناطق مختلفة للاحتفاء بأعمالها، مثلما حصل مؤخراً مع عملها "العتبة".
ومع هذه الترجمات لأعمالها، تخطت الأديبة "العتبة" بمنتهى الاحتراف، ليس فقط لأنها وصلت إلى العالمية، بل لأنها آمنت بأهمية "تخلي الشاعر عن الوصاية على قصائده مما يسمح لها بالهجرة إلى لغات ومنازل جديدة".
لهذا، لم يكن ترشيحها للجائزة اليوم، أو فوزها بأخرى في الأمس القريب، أمراً غريباً، وهي الاسم الذي صنعته تجارب إنسانية واجتماعية وجندرية، صاغتها مع ما فيها من سعادة ومأسوية بحرفية وموهبة، جعل اسمها إيمان مقترناً بالمشاعر الصادقة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...