بدأت علاقتي برواية "الأمير الصغير" للكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت أكسوبيري عندما عثرت على الكتاب بطريق المصادفة في مكتبة في شارع بورقيبة بتونس. وقعت عيناي على جملة في الصفحة الأولى، وتعلقت بها. وهي "أظن أنه استفاد من هجرة الطيور البرية بأن يفرّ".
منذ ذلك الحين أصبحت نسخة الرواية التي صدرت طبعتها الأولى في إبريل/ نيسان 1943، تميمة حظي لا تفارقني كصديق حميم. أعتقد أن هذه الرواية غيرت رؤيتي للحب والصداقة، فأثارت تساؤلات خاصة مثل لماذا يكون الحب العاطفي محور حياتنا وليس الصداقة أو لماذا نضع الحب في مرتبة أعلى من الصداقة. تقول الرواية: "من المهم أن يكون للمرء صديق، حتى ولو كان مشرفاً على الهلاك".
عالم "الأمير الصغير"، أشبه بعالم سحري، له ملايين المحبين حول العالم، وصل بهم الحب إلى حالة الهوس، يجمعون أيقوناته وشخصيات الرواية ليحتفظوا بها. ولهم شيفرة مستمدة من الرواية، يميّزون بين "القبعة" و"الثعبان الذي يهضم فيلاً"، ويعرفون جيداً شجر "الباوباب"
تعرفت بعدها على عالم "الأمير الصغير"، الذي اتضح لي أنه أشبه بعالم سحري، له ملايين المحبين حول العالم، وقد وصل بهم الحب إلى حالة الهوس، يجمعون أيقوناته وشخصيات الرواية: الثعلب، والوردة، والأمير ليحتفظوا بها. لهم شيفرة مستمدة من الرواية، يميّزون بين "القبعة" و"الثعبان الذي يهضم فيلاً"، ويعرفون جيداً شجر "الباوباب".
ولشدة شهرتها وتفردها تُرجمت رواية "الأمير الصغير" إلى 535 لغة ولهجة حتى الآن وتحولت إلى عروض مسرحية مئات المرات، منها مرة في مصر شارك في بطولتها الفنان الراحل سمير غانم وإخراج الراحل السيد راضي وافتتح بها مسرح الأطفال في التلفزيون المصري، واستوحيت منها وعنها مئات المعارض حول العالم.
كان أكسوبيري يقول في الرواية التي يمر على صدورها هذا العام ثمانون سنة: "أيها "الأمير الصغير"، لم أدرك ما أنت فيه من كآبة إلا شيئاً فشيئاً، فقد مر عليك وقت لم يكن لك فيه سلوى سوى النظر إلى غروب الشمس"، لكن "الأمير الصغير" الآن أصبح له ملايين الأصدقاء.
تساءلت الشاعرة أمل هارون مرة لماذا أحببنا "الأمير الصغير" لهذا الحد، حد الهوس. هذا الكتاب التي تقرأه أمل بقلبها تقول لرصيف22، إن جزءاً من جمال "الأمير الصغير" هو حالة الغموض والبساطة والشاعرية التي تتجدد كل مرة أثناء القراءة. لا تبحث أمل عن تحليل معمق للكتاب، بل تقاوم ذلك طوال الوقت، فهي تخوض رحلة القراءة وتترك نفسها للمتعة والصدق والشجن الطفولي. وترى أن هناك أشياء يجب عدم تحليلها كثيراً لأنها تفقد سحرها. ونحن في هذا العالم نحتاج لبعض السحر.
*"تأوه "الأمير الصغير" وأحس طعم الأسى والحزن في قلبه، ألم تقل له وردته أنها الوحيدة في الكون من نوعها! وهو يرى الآن في حديقة واحدة خمسة آلاف من الورود كلها شبيهة بها".
ترى أمل أن الكتاب يحتوي على مجازات دالة خلال رحلة الأمير بين الكواكب والعوالم المتعددة. حتى رحيله الغامض غير المحسوم يتماهى مع حقيقتنا جميعاً، فلحظة قدومنا لهذا العالم ووعينا به هي لحظة هزيمة، فهو وجود يقود حتماً للموت. في الرواية أيضاً، والكلام على لسان أمل، لحظات أخرى من الإدراك بسخافة الــ "الإيغو" ونرجسية الآخرين، والإدراك بهشاشتنا وهشاشة عالمنا الخاص، وعبء الوحدة والحاجة للحب، رغم عطب قدرتنا على التواصل، وإدراك مسيرتنا الحتمية نحو الهزيمة الأعم: الفناء أو الموت أو الانتقال لبعد آخر مع كل الغموض الذي يحمله هذا الانتقال. كل هذه اللحظات صوّرتها الرواية ببساطة وشاعرية. ترى أمل أن رسومات الرواية شكّلت جزءاً كبيراً من جمالها وشاعريتها، تلك الرسومات التي صوّرت الصبي الأشقر الصغير الحزين، الذي يرتدي الوشاح الطويل الذي تموّجه الرياح. والثعلب ضحية صورته الخاصة يبحث عن الصديق، والصحراء، والكواكب، والوردة، والنجوم.
"لا يرى المرء رؤية صحيحة إلا بقلبه، فإن العيون لا تدرك جوهر الأشياء"
المترجمة والكاتبة ياسمين أكرم تروي لرصيف22 أنها لم تتعرف على "الأمير الصغير" خلال سنوات دراستها، فقد تلقت تعليماً حكومياً لم يعن بتطوير الذائقة الأدبية كما تقول، وذلك في كلتا اللغتين العربية والإنجليزية، باستثناء بعض القصائد العربية القليلة. تعرف ياسمين على "الأمير الصغير" جاء عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي.
تقول: "أثناء عامي الجامعيّ الثالث، كنت في العشرين من عمري مثل الطيار التي تحطمت طائرته في الصحراء، تائهة، فالكبار يُشكّلون عالمهم على هواهم. صادَفت اقتباساً عذباً نشرته صديقة لي على فيسبوك يقول: «أنتن جميلات غير أنكن فارغات، لا يُمكن التضحية بالحياة في سبيلكن». واستوقفني الاقتباس ورحت أفتش عن الكتاب الذي يضم الاقتباس، واقتنيت نسخة باللغة الإنجليزية. حينها انفصلت عن كلِ ما حولي طوال الجلسة الواحدة التي التهمت فيها صفحاته"، رغم أنها لا تتذكر عدد المرات التي تمنت أن تتوقف فيها أثناء القراءة لتدوين اقتباس أعجبها.
هذا الكتاب شديد الحساسية. لذا تعتقد ياسمين أنه يُمكن الاعتماد عليه في الحُكم على الناس. إذ لا تعتقد أن شخصاً سيئاً يُمكن أن يُحب كتاباً بمثل هذه العذوبة ورهافة الحس. تقول ياسمين: "هو كتابٌ يُرشِّح لك أشخاصاً كي تعرفهم وليس العكس كالمُعتاد"
كان ظهور "الأمير الصغير" في حياتها بمثابة رابطٍ أُعيد تشكيله بينها وبين صوتها الداخليّ، وهُدنة أعادت خلالها تقييم الكثير من الأمور الجوهرية في حياتها: نظرتها للحب، كانت تظن أنه شعور فوري يتكون تجاه آخر دون قدرة لنا على التحكم فيه، ولكن تغيَّرت نظرتها إليه بعدما التصقت بوجدانها حكمة "الأمير الصغير" عند حديثه عن وردته: "إن الوقت الذي تُكرسه للعناية بوردتك هو ما يجعلها مُميزة". تغيرت أيضاً نظرتها للصداقة والعلاقات والحزن والخيال والعملية الإبداعية. وهي تُرجع السبب الأول لكثرة عدد ترجمات "الأمير الصغير" إلى شيء غريب كما تقول، لأنه أحد أكثر الكتب التي يمكن الاقتباس منها، نظراً لثرائه، وعذوبة لغته واقترابها في إثارتها للدهشة من لغة الأطفال العفوية البريئة الأصيلة. فترى أن الناس يحبون أخذ الاقتباسات ومُشاركتها وإلصاق حالة شعورية ذاتية بها، فيُوفِر ذلك على كثيرٍ منهم عناء التعبير عن فكرة مُلِحة، ويمنحهم شعوراً فورياً بالرضا عن القالب الذي خرجت فيه هذه الفكرة للنور. والسبب الآخر، هو سهولة قراءة هذا الكتاب وسلاسة أسلوبه، أياً كانت اللغة التي يُقرأ بها.
"لكنني اتخذته صديقاً، فصار فريداً في الكون"
هذا الكتاب شديد الحساسية. لذا تعتقد ياسمين أنه يُمكن الاعتماد عليه في الحُكم على الناس. فلا تعتقد أن شخصاً سيئاً يُمكن أن يُحب كتاباً بمثل هذه العذوبة ورهافة الحس. تقول ياسمين "إذن، هو كتابٌ يُرشِّح لك أشخاصاً كي تعرفهم وليس العكس كالمُعتاد".
لم يكن المترجم هكتور فهمي يعلم أن الرواية التي درسها في مدرسته الفرنسية، ستصاحبه طوال حياته، فدفعه "الأمير الصغير" للدخول إلى عالم الترجمة، وقام بترجمة الكتاب إلى اللهجة العامية المصرية، لتكون نسخته فريدة إلى جوار ترجمات عربية أخرى للكتاب، أحدثها ما قدمه الكاتب المخضرم محمد سلماوي.
يتذكر هكتور في حديثه مع رصيف22 مدرِّسته مدام كاترين راتب، التي درّسته الرواية في مدرسة الجيزويت. عرف هكتور من هذه الرواية معنى المجاز، عندما أخبرتهم المدرّسة عن رمزية الوردة، الجانب الأنثوي في حياة الأمير. بعد الرواية أصبح يرى العالم بشكل مختلف، وتخيل في صغره أنه سيرجع إلى كوكبه الخاص، فكيف صوّر الكاتب المشاعر، والشخصيات، والمواقف بشكل شاعري، وكيف صور الطبيعة الإنسانية وتفاعل أنماط البشر المختلفة بشكل بسيط ومثير ومشوق. ويرى أن سبب كثرة ترجمات الرواية نتيجة السحر الذي تحويه. في كل مرة يقرأ هذه الرواية يرجع للبحث بداخله عن شباك الخيال والحب الطفولي غير المرتبط بسن معيّنة. يشعر فهمي كأن مصيره مرتبط ب"الأمير الصغير" لأن الحال انتهي به للعيش في مدينة ليون، وهي مدينة الكاتب أنطوان دو سانت إكسوبيري التي تمتلئ بتماثيل للكاتب وللأمير الصغير.
أما المترجم محمود راضي، فلا يتذكر بالضبط متى تعرف على "الأمير الصغير"، لكنه يتذكر تأثير الرواية المستمر عليه منذ سنوات، ومع تكرار قراءته للكتاب اكتشف أن فيه جانباً يلمسه شخصياً. فالكتاب – كما يحكي لنا- جعله يتذكر كم تعرض في طفولته للسخرية والاستهزاء بسبب أسئلته البريئة، فوجد "الأمير الصغير" يربت على كتفه ويقول له أنا أفهمك، ومع كل قراءة تنفجر أسئلة جديدة، ويزداد تشوقه للخروج في رحلة مثل الأمير، ويعتقد أنه عندما يصير مسناً سيظل يقرأه بدهشة طفل ذي سبع سنوات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون