شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
التصدّع الأمومي المحتفى به... شاعرات في فخّ الأمومة

التصدّع الأمومي المحتفى به... شاعرات في فخّ الأمومة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 26 فبراير 202211:43 ص

التصدّع الأمومي المحتفى به... شاعرات في فخّ الأمومة

استمع-ـي إلى المقال هنا


 المقيل العالي للمخيّلة


ما بين الإفراط في المنح، والحب والحماية، أو الغياب، الهجر والموت. تطل الأمومة بأوجهها الكثيرة: بعضها سعيد، أو متعب، أو متورط، أو مثقل بالذنب.

وانشغالنا بالأمومة وتعقيداتها، يبدأ من سني حياتنا الأولى، فجميعنا بنات لأمهات طيبات، بسيطات، مجنونات، نرجسيات، غائبات أو ميتات. وجميع الأمهات، حتى الميتات منهن، لم يفلتن من صراع أولادهن معهن، حتى لو متن دون قصد، لسنوات طوال، سيتلقين اللوم على موتهن.

لم أصبح أماً بعد، أي لم أختبر الوجه الآخر من الأمومة، لكن أظن أني كبرت بقدر كافٍ لأتعاطف مع الأمومة، أفهمها وأسامحها وأتوقف عن لومها. لكن باعتباري بنتاً لأم، لم أنج أيضاً من الإحساس بالذنب، ولم أتوقف عن التساؤل إذا ما كنت قاسية مع أمي، أو كنت طفلة صعبة ومتعبة، وإن كانت مراهقتي جارحة وقاسية. فكم مرة أبكيت أمي بسبب رغبتي في السفر والسهر والمبيت خارج المنزل؟ كم مرة ظننتها أماً شريرة لأنها لم تخضع لرغباتي، أو لأنها حاولت دون جدوى أن تجنبني الأذى، ولو بإفراط أو قسوة؟

مرايا الأمومة

أعيد الآن قراءة بعض قصائدي التي كتبتها باكراً، في السابعة عشرة مثلاً كتبت: "ليس لدينا أمهات/ بل خطايا/ حصى فوق الدروب/ وملح في الجروح القديمة". ثم ينمو الذنب مرة أخرى، يتضخم كديناصور بتعبير إيمان مرسال، وأتساءل: بماذا شعرت أمي وهي تقرأ هذه القصيدة؟ أو كيف شعرت وهي تقرأ: "لكن أمي/ جعلتني صندوقاً خشبياً/ وأخذت تكدس الأحزان/ في قلبي".

ليتراءى لي أن جميع مرايا الأمومة، التي خبرتها على الأقل، جارحة ومؤلمة، فباعتباري ابنة عاشت طويلاً مصابة بجرح الأم، أدركت مؤخراً أن أمي مصابة بجرح الأبناء أيضاً، وقد تكون جراحنا امتداداً لجرحها الأصلي المتوارث، كأم لبنات، وابنة لأم هي ابنة أيضاً لأم أخرى.

ما أعرفه أننا نختبر طوال الوقت أشكالاً متعددة من الأمومة، فنحن نهرب منها وإليها، ونحن، أمهات وبنات في الآن ذاته، لذلك صراع الأمومة داخليّ وخارجيّ، ممتد وغير متجَاوز، ولا أحد ينجو منه، لأن لا أحد، لا أحد إطلاقاً، مولود بلا أم.

جميعنا بنات لأمهات طيبات، بسيطات، مجنونات، نرجسيات، غائبات أو ميتات. وجميع الأمهات، حتى الميتات منهن، لم يفلتن من صراع أولادهن معهن، حتى لو متن دون قصد، سيتلقين اللوم على موتهن... مجاز في رصيف22

ولأن الأمومة وجراحها، شغلتني باكراً. ولأن الشِّعر كان وسيلتي في اكتشاف هذه الجراح، نبشها، مداراتها والتعبير عنها، سألت شاعرات عربيات، من مصر وسوريا والكويت، هن بنات وأمهات أيضاً، تشغلهن الأمومة والبنوة، وينبشنها بالشعر أيضاً، ليكتبن عن تجاربهن.

جسد يتأرجح بين قارتين

نسرين أكرم خوري، شاعرة سورية تقيم في إسبانيا، كتبت: في بدايات تفشّي الوباء كنت حاملاً بابنتي ولم يكفّ الأصدقاء عن إرسال الدراسات التي تفيد بأنّ الحامل ليست من الفئات المعرّضة للخطر. حين اقترب موعد الولادة راحت تصلني آخر التوصيات حول الرضاعة الآمنة وتطمينات بأن حليب الأم لا ينقل الفيروس. ثم جاء زمن اللقاحات والحثّ عليها، وانتشرت دراسات هنا وهناك عن احتمال تحصين الرضيع عن طريق الحليب. الآن تغيرت المعطيات وصارت الحامل من الفئات المهدّدة.

فعلت ما عليّ فعله وانصعت للتّعليمات التي تفرضها الحكومات كأيّ مواطن صالح أو تلميذ مجتهد، بل وبالغت إلى حدٍّ صرت معه أقلق على الصحة النفسية لعائلتي بسبب العيش وفق هذه القيود والعزلة. كلّ هذا لم يمنع الفيروس من الوصول إليّ.

لم أتخيّل أن الأمر سيكون بهذه الصعوبة، أن تمنعي نفسك عن ضمّ طفلتك إلى صدرك، لم أعِ أنني أقبّلها ألف مرة في اليوم حتّى صار ذلك ممنوعاً.

منذ عام ونصف العام لم أعد نسرين، صرت أم ألمى، قد تبدو الجملة مجحفة في حقّ المرأة، وربّما كانت كذلك فعلاً. لطالما تلقّيت تحذيرات من أنّ الولد يبتلع الأمّ ووقتها وحياتها وكيانها، عليها أن تنتبه قبل فوات الأوان وإلاّ صارت أمّاً فحسب. لكن هذا يعجبني، أن أكون أم ألمى وأن تتنحّى نسرين لبعض الوقت أو إلى الأبد.

لا أعرف ما الّذي فقدته شخصيتي في هذه الرحلة من نسرين إلى أم ألمى.

حين اشتغلت العام الماضي على مجموعتي الشعرية الجديدة، كان القسم الأكبر معنوناً باسم "قصائد ألمى"، كانت ابنتي داخل القصائد تخطو خطواتها الأولى على إسفلت العالم، بينما أنا أعود إلى بيت جدّي، الّذي يبدو أنّني لم أخرج منه، هي تمشي خطوة نحو الأمام وأنا أعود خطوة نحو الذاكرة، وكأنّ الأمومة مراوحة بين الزّمنين، تسقط منّي أمور وألتقط أخرى في الطّريق، مثل أيّ عصفور يجمع بمنقاره قشّاً لعشّه الجديد.

أنظر إلى ابنتي من بعيد أو أقترب منها بحذر، أدير لها أغنية تروقها، تبتسم لي، أؤدّي حركات هزليّة، تقهقه، أرسل قبلة من تحت الكمامة، وتتمزّق معدتي من عزم الشّوق.

قدماي تصلان شارع الأميركان في اللاذقية
أمّا رأسي فيعود إلى شارع إيطاليا في أليكانتي
أغمض عينيّ، وأترك جسدي يتأرجح بين قارّتين
بينما يطول شعر الطفلة وتظهر في فمها أسنان صغيرة
وتتعلّم كيف تقول كلمة (بيت) بثلاث لغات
وهي في حضني"

أرجّح أنني التقطت العدوى من ورشة كتابة حضرتها، كانت بعنوان "الكتابة مع القيود"، تبيّن أن القيود المقصودة تتعلّق باللغة الإسبانية. كتبت نصّاً كتمرين وكان القيد هو Palíndromo يعني أن أستخدم في نصّي عبارات أو كلمات تقرأ في الاتجاهين بالمعنى ذاته.

أقلب اسم ابنتي فيصير أملاً، أقلب معنى اسمها يصير شجرة حور، أقلب حياتي فأجد أنّ باستطاعتي قراءتها بالاتجاهين.

يتّصل والدي كي يسلّي عزلتي، أنتبه إلى أنّني منذ أكثر من سنة أحدّث عائلتي بينما عدسة الكاميرا موجّهة نحو ابنتي، أمّا الآن فها أنا أقعد لبعض الوقت في عين أبي.

"أرجوحة وحيدة في الحديقة القريبة من المنزل

أنتظر أن تفرغ من الأطفال

أضع ابنتي في حضني

وأدفع بساقيّ بقوّة نحو الخلف

مرّة

مرّتين

وهوبّااا

قدماي تصلان شارع الأميركان في اللاذقية

أمّا رأسي فيعود إلى شارع إيطاليا في أليكانتي

أغمض عينيّ

وأترك جسدي يتأرجح بين قارّتين

بينما يطول شعر الطفلة وتظهر في فمها أسنان صغيرة

وتتعلّم كيف تقول كلمة (بيت) بثلاث لغات

وهي في حضني".

التئام الرحم بالشعر

آلاء فودة، شاعرة مصرية تقيم في الرياض، صدر لها ديوان: "بحة بعواء ذئب"، كتبت عن تجربتها مع الأمومة وانحسار الذات الكاتبة في مقابل الأم:

عند نقطةٍ ما أدركت أن الكتابة توقفت وأن الحياة لابد وأن تسير للوراء؛ بجواري طفلةٌ نائمة أتتبع تنفسها وأنظم ساعات الرضاعة، أستبدل الحفاضات وأراقب نموها؛ النمو الذي أنا مصدره الوحيد.

أتتبع الحكاية كل مرةٍ أتناول فيها قياسات ابنتي لأدرك أنها تنمو بشكل طبيعي وطعامها الوحيد هو حليبي أنا، حينها تحسست جسدي للمرةٍ الأولى بعد الحمل والولادة، وشعرت أن أعضاءه تحولت لتصير أكثر تطوراً، ربما لتمارس وظيفتها الأولى منذ بدء الخليقة وهي المحافظة على النسل ككل الأنواع الحية من المخلوقات.

هكذا تحولت لآلة ميكانيكية تتابع أعمالاً يومية بدون تفكير أو عاطفة، وبدا لي أن الحياة ستسير على هذا النحو.

بالأمس كنت أدرس بالجامعة وأكتب الشعر وأقرأ وأحضر الندوات لأناقش وأبحث، اليوم أنا حبيسة البيت ورهن إشارة الطفلة الصغيرة التي تحدد مصائر كل شيء من حولي: أوقات النوم والاستيقاظ، الخروج من المنزل، السفر للخارج، حتى زياراتي للطبيب كان عليها أولاً أن توافق الوقت الذي يناسب نوم طفلتي الصغيرة.

صارت الكتابة شبحاً يطل علي كلما تحدثت مع أصدقائي عن الأزمنة الفائتة، أمراً علي تجنبه لأني لا أمارسه وربما أكون قد فقدت الإمساك به للأبد.

حاولت الكتابة مرةً أخرى وكان علي أن أمتلك شجاعة الاستمرار أياً كان جودة هذا الانتاج، ولحسن الحظ خرجت الكتابة في هذه الحقبة ممزوجةً بالألم والأرق ورائحة اللبن الصناعي وأدوية المغص والسعال.

كانت الكتابة حقيقية ولكنها أتت مضغوطةً ومكثفة، كنت أكتب مباشرة على الفيسبوك؛ بدون مراجعة للنص ولا محاولة لتهذيبه أو تصحيح خطأه، أكتب وألقي النص على الأصدقاء وأنصرف لعالمي المزدحم، وهكذا عادت الكتابة مرة أخرى ولكنها هنا اكتسبت حيثيةً أكبر من كونها مجرد ممارسة، صارت رغبة في الشفاء أو التعافي، مخدراً وقتياً يمكنك من الاطمئنان بأنك هنا في هذا العالم، تكتب وتبدع تصرخ بأعلى صوتك، تندد وتشجب وتنكفئ على نفسك لتبكي خائباً ومرتعباً وحزيناً.

تتابعت الكتابة وصارت أكثر خصوصيةً عن الأمومة وتجربتها بالتماس مع الاغتراب عن البلاد، أنجزت ديواناً شعرياً عن هذه التجربة وصدرته بعنوان "نصوص الأمومة والغربة".

ضمّدت الكتابة جراحي، التئم رحمي مع الشعر وجف ألمي كلما انتهيت من قصيدة، صرت أكتب كالمحمومة التي تهذي. نعم، لولا الكتابة لما خرجت من بئر سحيق اسمه الاكتئاب المقترن بالحمل والولادة، لما شعرت بأن الحياة تستحق أن نعافر من أجلها... مجاز في رصيف22

الأمومة بالنسبة لي كانت غربةً فوق غربة السفر، لأنك هنا تسافر بداخل نفسك لتكتشف مواطن القوة التي دائماً ما أنكرت وجودها.

ربما لو قال لي أحدهم إنني سأستمر لسنواتٍ طويلة أتخلى فيها عن لذتي في النوم وتصير ساعات نومي متقطعة، أنني سأظل في البيت لشهور طويلة دون خروج، أن أقصى أمنياتي ستصبح في أن تتناول طفلتي الطعام الذي أحضرته دون الاعتراض عليه وبصقه، لو قال لي أحدهم إن الحياة ستسير على هذا النحو لوصفته بالمخبول، أي حياةٍ تلك التي قد نرضى بها!

ضمّدت الكتابة جراحي، التئم رحمي مع الشعر وجف ألمي كلما انتهيت من قصيدة، صرت أكتب كالمحمومة التي تهذي. نعم، لولا الكتابة لما خرجت من بئر سحيق اسمه الاكتئاب المقترن بالحمل والولادة، لما شعرت بأن الحياة تستحق أن نعافر من أجلها، أعطتني الكتابة ما لم أتوقعه.

مع إنجاب طفلة أخرى صارت الحياة تعيد نفسها من البدء وكأنك أنهيت جولة وبدأت بأخرى، وكأنك تستكشف التجربة بمزيد من الخبرة والترقب والهدوء، ولكن من الآن ليس لديك وقت، حتى لو حاولت اختراع ماكينة لضخ وقت فراغ فأنت ستفشل لا محالة.

الحياة تتسارع من حولك ومجدداً تفقد طوطم الكتابة، وتسقط في دوامة الحياة لتسحقك مرة أخرى وتعيدك لنقطة الصفر، النقطة التي عندها تفقد إيمانك بالأشياء والأقدار والأحلام، وتتحول لجسد بائس يدور في فلك الروتيني واليومي.

لست من مناهضي الروتين، أفعله بحب، أو على الأقل أؤمن أنه يوفر لي حياة منظمة لا تضج بالفوضى، آه نسيت أن أقول إني مع الأمومة تحولت لشخص منظم يهوى النظافة والترتيب، ويزعجه أن تسير الأمور على نحو لم يخطط له من قبل.

أهم ما يخفف عليك وطأة الروتين وملله هو أن يقودك للشيء الذي تحبه، وفي حالتي كانت الكتابة، وإذا لم ينته اليوم بنص جديد لصارت الأيام أكثر ثقلاً ومرارةً.

لا أعلم ما الذي تخفيه لي الأيام، ربما في يوم ما أنتهي من كتابة الشعر تماماً، أنتهي من الكتابة كلياً وأنصرف لفعل أشياء أخرى، ربما حين تكبر بناتي تصير التجربة أكثر تخففاً ويتبخر معها نزق الشعر، ربما تحدث أشياء غير متوقعة، ولكن أهم ما أوثقه هنا أن الكتابة كانت اليد الحانية التي مدت لي لتبقيني على قيد الحياة.

"على الأمهات أن يمتن

بعد أن ينجزن واجباتهن المنزلية

بعد أن يفتحن النوافذ

ويهتكن أعشاش العنكبوت

بعد أن يرتبن أدراج الثلاجة

أخضر بجانب أخضر

ويابس فوق يابس.

 "على الأمهات أن يمتن
بعد أن ينجزن واجباتهن المنزلية
بعد أن يفتحن النوافذ
ويهتكن أعشاش العنكبوت
بعد أن يرتبن أدراج الثلاجة
أخضر بجانب أخضر
ويابس فوق يابس"

على الأمهات أن ينهضن قبل الموت بدقائق

ليتخلصن من كسرات الخبز العفن

وبقايا الزيت في المقلاة

وآثار الدموع على الوسائد

عليهن أيضاً أن يستبدلن الشراشف.

 

على الأمهات أن يصرن أكثر كرماً في استقبال الموت

يطبخن وجباتٍ تكفي ثلاث ليالٍ بعد موتهن

لابد أن يجد المعزون ما يضعونه في بطونهم

بعد أن يمتدحن نظافة ست البيت

وأنها، ياللحسرة، كانت تخطط للغد.

 

على الأمهات أن يصرن خفيفات

لا يتناولن عشاء الليلة السابقة 

يمتن في الصباح الباكر بعد أن يذهب أطفالهن للمدارس

يمتن في الظهيرة بعد أن يرضعن أطفالهن

يمتن في العصر بعد أن يغسلن مواعين الغذاء

يمتن في العشاء بعد أن يحممن أطفالهن

على الأمهات أن يرتبن العالم

ثم يرحلن في أي وقت.

كيف تتأرجح الأمومة في كفوفهن

وفِي نص كتبته الشاعرة الكويتية عائشة العبدالله عن تجربتها مع الأمومة:

"الأمومة مؤلمة وجارحة

جارفة مثل نهر

حادّة مثل قلبٍ مكسور

قلبٌ يربّي الخوف

ذنبٌ يكبر ويصير تنّيناً

يلاحقكِ أينما ذهبت

تركضين معه وتقفزين بلا توقف

تعلمين أنكِ في كل قفزةٍ تفقدين

شرفةً في روحك

تعلمينِ أيضاً أنك لو توقفتِ لحظةً

ابتلعتكِ نيرانه.

"الأمومة مؤلمة وجارحة
جارفة مثل نهر
حادّة مثل قلبٍ مكسور
قلبٌ يربّي الخوف
ذنبٌ يكبر ويصير تنّيناً
تركضين معه وتقفزين بلا توقف
تعلمين أنكِ في كل قفزةٍ تفقدين
شرفةً في روحك
تعلمينِ أيضاً أنك لو توقفتِ لحظةً
ابتلعتكِ نيرانه"

تعرف الأمهات كيف تتأرجح الأزمنة في كفوفهن،

كيف تكون النهارات معتمةً ومربكة

وكيف يصبح الليل مرآةً لقسوة الضمير.

وكيف يمشين على أطراف الذاكرة

يحاولن اقتلاع رؤوسهنّ من الماضي

يصفقنها في الجدار، أو يخبئنها تحت السرير

ثم تغافلهنّ فجأةً

مثل حكايات الزومبي التي ترعب أطفالهن.

يعرفن أطنان السواد تحت العيون

السواد الذي نحاول عبثاً طمسه من ملامحنا

وفي داخلنا، نألفه كما نألف وجوهنا.

 نحن نعرف لمَ الأشياء تافهةً حين تقال

ولمَ يعجز أحدٌ عن شرحِ معاناته التي لا تعني أحداً

وكيف تتسرب أرواحنا من ثقوب التفاصيل الصغيرة،

وأنّ شيئاً بداخلكِ يتدفّق باستمرار

ولا يكاد ينتهي.

أن تبحثي عن النوم مثلاً، تحاولين اصطياده

في وسادة جديدة، في إغلاق أصغر منفذٍ للضوء

في إيقاف صوتِ الساعة

في تغيير درجة حرارة الغرفة

أن يرنّ المنبه صباحاً وكلّ ما تمكنتِ منه

أن تغمضي عينيك وتتخيلي أنكِ نائمة فقط.

أن يتحوّل قلبك إلى قشّة سريعة الاحتراق

ودقّاته حبال تتدلى من سقف الغرفة.

أن تشعري بالصخر يتمشى على روحك

كلما رأيت في عيون أطفالكِ سحابة.

وأنّ صدركِ لا يحتمل كل هذا الحب

كل هذا الرّوع أيضاً.

قلت له: "لمَ لا تنام يا حبيبي؟" قال: "هناك فراشة تطير في رأسي وتمنعني من النوم." سألته إذا كانت هي نفس الفراشة التي قال بأنها تطير منذ أيام في قلبه وتجعله خائفاً، فقال: "هي فراشة أخرى، أو ربما هي نفس الفراشة ولكنها تنتقل بين رأسي وقلبي ومعدتي"... مجاز في رصيف22

نعرف أننا نبدو حزينات، ويائسات

كل شيء يحيي بداخلنا سلسلة بكاء

وحين يسأل أحدهم عيوننا عن سبب وجعها

يبدو الكلام أضيق جداً من دمعة.

فراشة يوسف وذئبي

ولا نستطيع الحديث عن الأمومة دون أن تطرق لإيمان مرسال، وكتابها عن الأمومة وأشباحها. ومن بين جميع أشباحه، تقاطعت كثيراً مع ابنها يوسف، لأني مثله، ورثت البايبولار عن أحد والدي.

الجمعة 29 سبتمبر 2006

قلت له: "لمَ لا تنام يا حبيبي؟" قال: "هناك فراشة تطير في رأسي وتمنعني من النوم." سألته إذا كانت هي نفس الفراشة التي قال بأنها تطير منذ أيام في قلبه وتجعله خائفاً، فقال: "هي فراشة أخرى، أو ربما هي نفس الفراشة ولكنها تنتقل بين رأسي وقلبي ومعدتي".

بكيت كثيراً عندما قرأت هذا المقطع من كتاب إيمان مرسال، وتوحدت مع يوسف. ثم تذكرت طفولتي، تذكرت كل ما جاهدت لأجل نسيانه، وفهمت أيضاً ما عشته. أنا أيضاً يا يوسف لم أكن أريد أن أعيش، ولم أعرف لم. في طفولتي كنت مثلك، أخاف من أشياء لا تخيف أحداً، وأجلس بمفردي، وأتسلل ليلاً والجميع نيام، لأصعد إلى سطح المنزل، أنظر للسماء وأقول: لماذا أوجدتني يارب؟

ومثلك يا يوسف، لم أكن أستطيع أن أنام، أو أن أجيب على والدي الذي لم يلبث أن يسألني كل يوم: لماذا لست مثل بقية الأطفال؟ وظللت أسأل نفسي السؤال ذاته حتى كبرت: لماذا لست مثلهم؟ أفهمك يا يوسف، أفهم غربتك، أفهم بحثك عن معنى لحياتك، أفهم حرقك لما تكتبه، فقد حرقت قصائدي مرات ومرات، وما نشرته فيما بعد، كان عن طريق الصدفة، ما احتفظ به أصدقائي عندما كبرت من قصائد كتبتها على كراتين وتركتها، من ورق كتبت عليه ثم رميته في القمامة، وبعد سنوات قالت لي صديقتي: كنت أمشي خلفك وأخرج كل الورق الذي ترمينه في القمامة وأحتفظ به.

وأظن أني عثرت على الانترنت مصادفة، أنشأت حساباً على فيسبوك وتويتر، ووقتها تخلصت من عادة إحراق القصائد، صرت أكتب هناك كأني أرميها، أو أحرقها، ولم أكن أعرف أن تلك الخطوة ستقودني لمكاني اليوم. لم أكن أيضاً أريد أن أعيش، وقد حاولت الموت عدة مرات، لكن في مرحلة ما، بعدما عدت من هناك، أدركت بأنه لا يستحق كل ما أفعله لأجله، وبقيت هنا، ليس لأني وجدت معنى لحياتي، بل لأن الموت ليس أفضل من الحياة.

وأحياناً، عندما تصبح الغيمة التي في رأسي أقل سوداً، وأستطيع الاحساس بالنهار، أشعر بالامتنان لأني على قيد الحياة. رغبتي بالموت خفتت مع التقدم في العمر يا يوسف، لكنّي ما زلت أحاول أن أرغب بالحياة. صنعت لنفسي حلماً وتوهمت أني أعيش لأجله، وتساعدني أحلامي، تنقلني من يوم لآخر. لكنّي مثلك، تعيش بفراشة في قلبك، وأنا يا يوسف، أعيش بذئب في أعماقي، كبرنا معاً، وبسببه كان والدي ينظر إلى عينيّ فيراه، فيرقيني طوال الليل بالقرآن، ويبكي للذئب: أعد إليَّ ابنتي، وأنا، أنا تركت والدي وذهبت برفقة الذئب.

لا تفعل مثلي يا يوسف، لا تتبع الذئب، أو الفراشة، أو الذئب الذي في هيئة فراشة، وابق يا يوسف مع والديك.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image