"قلبتِ عليّ المواجع والذكريات"، كانت منى حجازي (30 عاماً) الغزاوية المغتربة منذ أربع سنوات في تركيا تعلم علم اليقين أن رحلتها في الغربة ستطول، ولكنها قست على قلبها وغادرت إلى حيث زوجها الذي اغترب قبلها بعام ليكونا معاً ويتقاسما الحنين إلى غزة وإلى طقوس رمضان فيها.
كانت أمنيتها أن تقضي رمضان في غزة، لكن عواقب هكذا قرار بالسفر خلال الشهر قد يكون ثمنه خسارة إقامتها التركية، تقول لرصيف22: "رمضان يفتح جراح المغتربين، فوتيرة الاشتياق تزداد للعائلة وللأكلات الفلسطينية الأصيلة، لكن أكثر ما اشتاق له هو الفتة الغزاوية بالفلفل الحار والسماقية والكشك".
طنجرة الكهرباء من غزة إلى تركيا
وتكمل: "أول عامين في رمضان كنت أشعر أنا وزوجي بالحنين لاجتماعات العائلة، وللولائم الكبيرة، لكن بعد أن تأقلمنا حاولت أن أهيّىء أجواء خاصة بنا من تزيين البيت والتسوق لرمضان برفقة صغاري لأعوّدهم على أجواء العائلة الرمضانية، أخبرهم دوماً عن مكاني حول طاولة الإفطار في بيت أهلي في غزة، وكأس الخروب الذي لم أذق بلذّته في تركيا، وسماقية جدتهم التي كانت تطبخها في عيد الفطر".
منى: "رمضان يفتح جراح المغتربين، فوتيرة الاشتياق تزداد للعائلة، لكن أكثر ما أشتاق له هو الفتة الغزّاوية بالفلفل الحار والسماقية والكشك"
يُعرف عن أهل غزة في تركيا أنهم أكثر من "يوصّي" على أشياء للقادمين من الوطن، لكن أغرب ما يطلبونه هو "طنجرة الكهربا للخبز"، فهذا ما طلبته مُنى من أحد الأصدقاء القادمين من غزة، وبحسبها لم يستغرب الصديق طلبها كثيراً لعلمه بحب الفلسطيني لخبز البلاد. وصلت "الطنجرة" وها هي تعجن وتخبز في بيتها الخبز الغزاوي.
لم تنفك مُنى تتذكر جلسات السمر مع شقيقاتها بعد صلاة التراويح، للمشاكسات اليومية حول من عليها مهمة تنظيف المطبخ بعد الإفطار، ولمناقرات الأطفال تحت نافذة غرفتها حول من سيشعل مفرقعات الليلة.
تتمنى مُنى أن تقضي رمضان القادم في الوطن ولكن يبقى خوفها من أي تصعيد إسرائيلي محتمل خلال فترة وجودها في غزة مؤرقاً لها، فبحسب تعبيرها سيكون من الصعب على طفليها كريم ويارا استيعاب أصوات الطائرات الحربية والغارات، وعلى الرغم من شرحها لهما عن الاحتلال والقصف فإن المعايشة أصعب بكثير من الشرح.
تتمنى منى أن تقضي رمضان في غزة، لكن سيكون من الصعب على طفليها استيعاب أصوات الطائرات الحربية والغارات في حال حدث تصعيد إسرائيلي
"أنا شيف لكن أشتاق لطعام الحجة"
لم يختلف مالك قريقع (31 عاماً) عن مُنى، كلاهما اتفقا على أن قرار العودة صعب، مالك الذي يعمل كشيف سافر مع شقيقه الأصغر لإقامة معارض فنية في عدة دول حتى انتهى بهما المطاف في بلجيكا.بدأت رحلته مع الاغتراب في العام 2017، وكل عام ينمو الحنين لغزة أكثر، في بداية رحيله عن الوطن أقام في قطر وقضى أول رمضان هناك، لكن لم يكن هو الشهر الأصعب لكونه في مجتمع عربي شبيه بغزة، رمضان الأصعب كان في بلجيكا بسبب اختلاف الثقافات وعدم وجود أجواء رمضانية كما تعود.
يقول لرصيف22: "بعد زواجي بدأ الشهر يتغير، أصبح أكثر أُنساً ودفئاً، صرنا نعدّ أنا وزوجتي أجواءنا الرمضانية الخاصة برفقة أخي الأصغر الذي يفطر معنا في أول يوم ليضيف بهجة للمائدة، ونحاول قدر المستطاع تعويض ما فقدناه طوال السنوات الماضية بالتجمعات الدائمة مع الجالية الفلسطينية هنا والتنسيق لجلسات إفطار مشتركة".
يكمل: "في كل رمضان أقول ربما يكون رمضاني القادم في غزة، لكن ظروف غزة لا تخفى على أحد، وما زلت أردد في كل وقت سيأتي اليوم الذي أُعيد جميع ذكرياتي وأعيشها بكل تفاصيلها الحقيقية ليس كتلك التي أصنعها هنا".
وهل عمله كشيف يخفف من اشتياقه لطعام غزة؟ يجيب: "إطلاقاً، كل ما أطبخه أشتاق أن أكله في غزة من يدي والدتي، أنا مؤمن أن الطعام المرتبط بالذاكرة ليس مجرد وصفة يمكن نقلها وإعدادها في أي مكان وربما بمكونات أعلى جودة، لكن الذي يميزه هو الأرض التي يؤكل عليها ويطبخ بها، والأهم مع من".
يفتقد مالك مهمته في الوقوف بالقرب من النافذة لسماع أذان المغرب ليبلغ الجميع فور قول "الله أكبر" ويقول: "يلا يلا أذن". ويشتاق لليالي السمر الرمضانية في "قهوة رابعة" في مخيم جباليا برفقة الأصدقاء. أما أكثر ما يشتاقه فهو الاجتماع حول موقد النار "الكانون" وتحميص بعض أرغفة الخبز.
يوصي مالك الذي يعمل كشيف في بلجيكا كل من يأتي من غزة على النكهات التي لا تكتمل سفرة غزاوية بدونها، مثل القهوة الغزاوية، وبهار الشاروما، وحلوى القامبن، والشتوي، وزبدية الفخار
وبمَ يوصي أصدقاءه الذين يذهبون لغزة في زيارة قصيرة؟ يجيب: "القهوة الغزاوية وبهار الشاروما وحلوى القامبن والشتوي، وزبدية الفخار".
"جواز السفر الألماني أعادني إلى غزة"
تقيم إيمان علي (29 عاماَ) في ألمانيا منذ العام 2016، وقد غادرت غزة بصعوبة بالغة إذ قامت بتجديد الفيزا للسفر للدراسة في ألمانيا ثلاث مرات بسبب عدم تمكنها من السفر نتيجة إغلاق معبر رفح البري الدائم في ذلك الوقت. وقد تمكنت في النهاية بعد عناء من التحليق نحو الحرية.إيمان سريعة التأقلم مع كل شيء، وليست عاطفية جدًا، تتحكم في حنينها الدائم لغزة وللأحبة. في رمضان الأول كان أبسط أمنية لها أن تسمع صوت المسحراتي من جديد، وصوت الأذان، وقد سيطر عليها شعور الوحدة القاتلة في البداية، لكن طموحها كان أقوى من أن تلملم حقيبة سفرها للعودة لقضاء رمضان في الوطن.
مر عامان والثالث وتراكمت السنوات وبدأت إيمان تكوّن صداقات مع أشخاص من مختلف الجنسيات العربية والأجنبية، وهذا أخرجها من شعورها بالاغتراب قليلاً، بدأت تندمج مع تجمعات الجالية العربية، تتناول إفطارها في بعض الأيام في المسجد برفقة المعارف والجيران المسلمين.
تقول لرصيف22: "بمجرد سؤالي عن رمضان في البلاد يعود إلى ذاكرتي فوراً براد كاظم في ليالي رمضان الأنيسة، وفلافل السوسي، وحبات الشتوي، وشارع الرمال وازدحامه الشديد في المساء، واعتراضات أشقائي قبل الإفطار بدقائق على بعض الأكلات التي تطهوها أمي، كل هذا يجعلني في حالة حنين دائم لكل تفصيل".
أرادت إيمان في مرات عدة أن تعود لرؤية العائلة وقضاء أيام ولو قليلة برفقتها لكن خوفها من أن تفقد الإقامة في ألمانيا منعها، فأن يسيطر عليها الحنين يعني أن تفقد ما أنشأته في سنوات، ولكن بعد حصولها على الجنسية الألمانية صار بالإمكان التحرك بحرية، فقررت أن تفاجئ عائلتها وتعود لغزة، وفور وصولها القاهرة أُغلق معبر رفح وبقيت عالقة هناك خمسة أيام. تقول: "عند وصولي بعد رحلة طويلة طلبت من أمي في نفس اليوم أن تطبخ لي المفتول، خمس سنوات وأنا أشتهيه ولا أبالغ إن قلت إن أمي تطهوه بشكل خرافي لم أذق مثله في حياتي، طعام غزة وخبزنا الغزاوي الألذ في كل العالم". ولدى عودتها إلى ألمانيا من غزة حملت إيمان حقيبة بها ثمانية كيلوغرامات من البهارات.
بعد حصولها على الجواز الألماني تمكنت إيمان من زيارة غزة، ولدى مغادرتها حملت حقيبة بها 8 كغم من البهارات الغزاوية
تجتمع إيمان مع أصدقائها العرب في رمضان إذا سنحت الوقت، فتبدع في طهو الأكلات التراثية الفلسطينية كالمقلوبة وأرز القدرة، مستخدمة البهارات التي جلبتها من غزة. لكن حياتها في ألمانيا عبارة عن مطحنة كما تصفها، فلا وقت لديها لإعداد أطعمة فلسطينية أصيلة بشكل يومي لنفسها، فتكتفي بالأطعمة السريعة، وتقضي أغلب أيامها الرمضانية وحدها. فلكل أمرىء شؤونه الخاصة.
تأمل إيمان أن تكون في رمضان القادم في غزة لتأكل المفتول الغزاوي الأصيل، ولتركض نحو البحر، وفور حزم حقائب السفر من جديد ستأخذ كميات من بزر البطيخ الغزاوي، التي لا تتوقف عن طلبه من القادمين من غزة نحو ألمانيا، ولم تنس في ختام حديثها أن تخبرنا بشوقها للذهاب لمطعم "مهران" لتناول الدجاج مع الأرز في أمسية رمضانية هادئة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...