لم تعد النسوية تعني إفساح المجال للنساء كي يقمن بما يقوم به الرجال، وإنما إعادة تعريف المجال، معناه، نطاقاته وأنظمته. وقد حسبت أنني عرفت شيئاً معقولاً عن النسوية، حتى بدأت أبحث في علوم إنسانية واجتماعية أخرى، وفي كلّ مرة تقريباً أجد ما يسمى بالمقاربة النسوية لها وأبتسم.
كانت إحدى أكثر المقاربات النسوية إثارة للاهتمام، هي المقاربة النسوية النقدية للعلاقات الدولية. تقول عرّاباتها – وأنقل المعنى بشيء من التبسيط- إن الدول الوطنية الحديثة هي بالأساس صنيع جمع صغير من الرجال البِيض، جمعتهم طاولة وخارطة ورقية وقلم رسموا به الحدود، تقاسموها ثم وقعوا به اتفاقاً على ما تقاسموه، وربما التقطوا صورة جماعيّة "تاريخية"، فأصبح الأمر واقعاً. أصبحت رسوماتهم حدود، وأصبح الناس بين الحدود شعوباً، ووقف بين الشعوب والشعوب جنود. جنود يحمون الدولة. الدولة التي رسمها جمع صغير من الرجال البِيض حول طاولة عليها خارطة وقلم.
حالة تستستيرونية خالصة، تقوم على بسط النفوذ على أبعد ما يمكن لأحدهم حمايته، وبدل من التبوّل على حدود تلك المساحة لتبقى الرائحة إشارة ملكيّة مرسلة للكائنات الأخرى، فإن القلم والتوقيع، ثم الصور التاريخية تقوم مقام اليورين بشكل "حضاري"، لكنها في جوهرها، محاكاة للغريزة نفسها، وتجليات هذه الغريزة في البنية السياسية والاقتصادية المعاصرة أصبحت تتجاوز الدولة إلى ما هو أبعد، كهوس تمدد الشركات العابرة للحدود، والاحتكار، ثم هوس التسليح وسباق أكبر صاروخ وأطول برج وهكذا...
إن المنظومة نفسها تعرّف العمل كما يفهمه ويمارسه الرجل، بالتالي ما عداه ليس عملاً مهما كان شاقاً وعسيراً وليس له بديل. لعبة المساواة equality يجب أن يتم تجاوزها سريعاً إلى العدالة equity
لم تكن النساء جزءاً من بناء هذه اللعبة ووضع قواعدها إذن، وحتى وقت قريب جداً من تاريخنا الحديث، كان من النادر أن تحظى امرأة بفرصة اللعب إلى جانب الرجال على مستوى قياديّ. عندما انطلقت النسوية بنداءاتها، بدأ الأمر، في معظم الأوقات، بدعوات أو مطالبات بالسماح للنساء بالمشاركة. كانت النسوية تعني أن تُمنح النساء الحق في أن تفعل ما يفعل الرجال. أن تلعب اللعبة التي، إلى حد بعيد، صنعها ووضع قواعدها الرجل. أياً كانت هذه اللعبة، ابتداءً من كرة القدم، مروراً بقيادة السيارة، والمشاركة في الانتخاب ثم الترشّح، ووصولاً إلى قيادة المؤسسات والدول. كانت الغاية بالأساس السماح للنساء بالمشاركة، وكان تحقيق قدر من المشاركة يعد ويشار إليه باعتباره مساواة، حتى إن البعض صار يتساءل متململاً عن جدوى استمرار حراك النسوية في البلاد التي حققت إلى حد بعيد هذه "المساواة".
وليس بمفاجئ ما انتهت إليه لعبة "المساواة" هذه من نتائج، لطالما تم الالتفاف على تفسيرها، أو ربما إحالتها إلى حداثة عهد المرأة بالمشاركة. انتهت إلى ما يشبه المسكوت عنه: تفوّق الرجل. وكلا، ليس الأمر حداثة عهد وتجربة، وإنما قواعد اللعبة من أساسها. إن قواعد اللعبة موضوعة من قبل نوع واحد، والتفوّق معرّف بناء على معيار واحد، والمعيار مبنيّ على قدرات وتطلّعات نوع واحد، لذلك فمشاركة المرأة، وإن تحت شعار المساواة، لا تعني أبدا تحقيق العدالة، إن لم تتم بالأساس مراجعة الهيكل البنائي للمنظومة كلها. المنظومة هذه تشمل الاقتصادي، السياسي، الاجتماعي والديني أيضاً. أعرف أن أحدهم يقرأ ويبتسم ثم ينعتني بالحالمة. نعم، ولا بأس.
وحتى أجعل حديثي من دم ولحم، أعود إلى حيث بدأت. العلاقات الدولية والمقاربة النسوية للعلاقات الدولية؛ باعتبار الأولى "العلم"، وهو الذي في غالب الأمر وضع من قبل منظومة تقليدية ذكورية، والمقاربة النسوية له باعتبارها مقاربة إضافية للأصل/ للعلم، إضافة أو رفاهية، أو أنظر معكم إلى الأدب الذي صار يجيء متبوعاً أو ملحقاً بتصنيف تزييني، اسمه الأدب النسوي. هذه التقسيمات لم تأتِ مصادفة، ولكنها نتاج تراكم منح شرعية مطلقة لأدب ما، وسمح لأدب من نوع آخر بالوجود في حدود معنية، وتحت مسميات أميل لاعتبارها "لئيمة". وهكذا مثلاً كانت المنظومة الأدبية تنحاز لمعايير نقدية ذكورية، فتنحاز للنص "الفحل" في أسلوبه وموضوعاته وبنائه ولغته، وترى في "الأدب النسائي" شيئاً لطيفاً يحدث إلى جوار ما هو أدب بالفعل. شيء ما تقوم به المرأة، لكن الشيء هو ما قام به ووضع أساسه، في غالب الأمر، الرجل.
إن الدول الوطنية الحديثة هي بالأساس صنيع جمع صغير من الرجال البِيض، جمعتهم طاولة وخارطة ورقية وقلم رسموا به الحدود، تقاسموها ثم وقعوا به اتفاقاً على ما تقاسموه، وربما التقطوا صورة جماعيّة "تاريخية"، فأصبح الأمر واقعاً
هذا المعنى لا يحدث فقط في أروقة خواص العلوم والثقافة، إنه في علاقة تبادلية مع الهابيتوس، يخرج من قلب نسيجنا الثقافي والاجتماعي وينعكس على حياتنا اليومية. لتقريب المعنى، فإن في تقسيم العمل الاجتماعي مثال فاقع. حتى وقت ليس ببعيد، كان الرجل وحده يعمل في الخارج، ويجني المال، فيما المرأة تعمل في المنزل ولا تجني شيئاً. وقد ظن البعض أن النسوية تعني فقط خروج المرأة للعمل وجني المال، فيما تحافظ أيضاً على عملها "المجّاني" داخل المنزل، وتبقى عملية الـ social reproduction تحصيل حاصل. ذلك أن المنظومة نفسها تعرّف العمل كما يفهمه ويمارسه الرجل، بالتالي ما عداه ليس عملاً مهما كان شاقاً وعسيراً وليس له بديل. وهنا تأتي أهمية إعادة تعريف المفاهيم وترتيب أوراق المنظومة بما ينصف الجميع. لعبة المساواة equality يجب أن يتم تجاوزها سريعاً إلى العدالة equity، وهذا طريق شاق وطويل. أعرف أن أحدهم، أيضاً، يقرأ ويبتسم ثم ينعتني بالحالمة. نعم، ولا بأس.
تفصيلة هامشية: إن هذا المقال إذ يشتبك مع ما تعنيه النسوية وما يفترض أن تعنيه، فهماً وممارسة، فإنه يحترم أيضاً الأفكار التي تراجع التعريف الجندري للأدوار الاجتماعية، بما يسمح بتوسيع فهمنا لها وليس بالضرورة القفز فوقها كلياً. ويقرّ أيضاً بحق غير الـ non binary ليس فقط بالوجود والاحترام، وإنما في المساهمة في توسيع فهمنا للاحتمالات والإمكانات المتنوعة التي يقدمها تمايز النسيج البشري الإنساني بتنويعاته وتعقيداته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون