على أحد منشوراتي بفيسبوك، ردّ شاب أعرفه بشكل سطحي منذ سنوات: "هل أنتِ نسوية؟"، لينتهي الجدال بيننا، متوقعاً أني سأنفي عن نفسي هذه التهمة المشينة، فأجيبه: "نعم نسوية"، وتنقطع علاقتنا عند هذه النقطة.
مرة أخرى، وخلال نقاش عشوائي مع جماعة من الزملاء والأصدقاء، صرّحت صديقتي: "أنا لست نسوية ولكن أتفق معهن في كذا وكذا"، لأفكر: لماذا تنفين عن نفسك النسوية كما لو أنها وصمة مهينة وقد استفدت من كل مكتسبات الحركة النسوية، فها أنتِ تعملين في وظيفة ممتازة تكسبين بها عيشك، تسافرين وحدك لمدينة أخرى فقط لتحظين بوقت مرح، وتسهرين مع أصدقائك للواحدة صباحاً، في عصور سابقة وبدون النسوية كانت تلك الأفعال من المستحيلات، أو يؤدي القيام بها لحبسك في المنزل على أقل تقدير؟
نسوية، ساحرة وعدوّة الرأسمالية
"لا تتعلق أجندة المرأة النسوية بالحقوق المتساوية للمرأة، بل تتعلق بحركة اشتراكية سياسية معادية للأسرة، تشجّع النساء على هجر أزواجهن وقتل أطفالهن وممارسة السحر وتدمير الرأسمالية، وأن يصبحن سحاقيات". الموقر بات روبرتسون، في خطاب يهاجم فيه النسويات عام 1992.
في إحدى الأمسيات، وخلال مشاهدة فيلم مع زوجي عن العصور الوسطى، أتى ذكر حرق الساحرات اللواتي تم وصفهن بأنهن سيدات يشجعن على القراءة والمعرفة والمساواة مع الرجال، قويات الشخصية ومعالجات، من ضمن صفات أخرى كثيرة، ضحكت ساخرة والتفت لزوجي قائلة: "دول بيحرقوا الفيمنست".
في الحقيقة لو عشت في ذاك العصر لاعتبروني بالتأكيد ساحرة. تذكرت رواية "ثلاثية غرناطة" وسليمة، المرأة الشابة محبة القراءة، والتي صنعت لنفسها نظارة لتداوم على هوايتها وكتابة المخطوطات، وأدى ذلك لدمار زواجها، وفي النهاية إلى حرقها باعتبارها ساحرة.
كانت شخصيتي المفضلة في الرواية العملاقة، توحّدت بالتأكيد مع سليمة.
نعم أنا نسوية، ولكن زوجة وأم، وببشرة ملساء، وأرتدي الوردي والفساتين، وأرفض الظلم وأرغب في المساواة والعدالة الاجتماعية ومستقبل أفضل لابنتي، لا تحدّد مكانتها في العالم تبعاً لأعضائها التناسلية بل لصفاتها الشخصية واجتهادها
الاقتباس بالأعلى من خطبة للموقر بات روبرتسون لا يبدو سوى رجع صدى لاتهامات الساحرات في العصور الوسطى، والتي تم تخليدها في كتاب "مطرقة الساحرات" الشهير، وأدى لحرق وقتل آلاف النساء، ولكنه مصاغ بشكل مختلف وفي زمن مختلف. يبدو مثيراً للسخرية ولكن بتذكر سؤال الصديق الفيسبوكي الشاب وغيره أجد أن هذه هي النظرة الرائجة بالفعل عن النسويات.
من وجهة نظر البعض أنا امرأة اشتراكية ومعادية للأسرة، وأرغب في أن أصبح سحاقية وأمارس السحر -قد يكون الاتهام الأخير حقيقياً، فخلال وجودي في المطبخ تتفجر دوماً الأشياء كما في الوصفات السحرية بالضبط- وأشجّع النساء على هجر الأزواج وأدمر الرأسمالية.
أتذكر أني وصديقاتي اللواتي نعتبر أنفسنا نسويات، باحثات عن حقوق متساوية مع الرجال، ونرغب في بعض من العدالة الاجتماعية، ليس لنا فقط بل للجميع، نتناقش القضايا المهمة مثل قوانين الأحوال المدنية بالتوازي مع آخر مشاكلنا مع طفلاتنا اللواتي يدلفن مرحلة المراهقة، أو أفضل كريم للعناية بالبشرة أو وصفة طعام ناجحة.
نضحك ونحن نتخيل الصورة غير الحقيقية الرائجة عنا، عن تصورات تبدو طفولية للغاية، ولكن كل الحقائق التاريخية علمتنا أن أكثر الأفكار سذاجة وسطحية قد تصبح سلاحاً قاتلاً لو انتشرت بين الأغلبية، وفي النهاية نحن أقلية في مجتمع ليس فقط أغلبه يعادينا، بل الأعراف الاجتماعية والقوانين وبعض التفسيرات الرائجة للدين تقف في الصف الآخر.
من وجهة نظر البعض النسوية امرأة اشتراكية ومعادية للأسرة، وترغب في أن تصبح سحاقية، وتمارس السحر وتشجّع النساء على هجر الأزواج وتدمر الرأسمالية.
مؤخراً، أصبحت هذه التهديدات للنسويات حقيقية، بجروبات على مواقع التواصل الاجتماعي يديرها مجموعة من الشباب الذين يجمعون البيانات الشخصية عن النسويات والفتيات الشابات صاحبات الآراء الجريئة، ثم ينشرونها لتعريض حياة هؤلاء النساء لخطر حقيقي، قد يصل للقتل في بعض الأحيان.
بشكل شخصي تعرّضت، بعد بوست رائج لي على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، لهجوم من جروبات مماثلة، وجحافل من المراهقين والشباب سبوني وعائلتي وصديقاتي بألفاظ بذيئة، ما اضطرني لغلق التعليقات إلا للأصدقاء، وحذف بعض من صور ابنتي الشخصية. تلك حياة النسويات الآن، نواجه الأفكار الساذجة بالضحك والكثير من القلق.
افتراضات مسبقة مضحكة ولكن خطرة
"أيا كان طريقة تأطيرنا للأمر، فقد حصلت النسوية على سمعة سيئة في العقل الثقافي، فمن خرافة حارقي حمالات الصدر، إلى الأمهات المهملات، إلى العانس مشغولة الذهن بالمسار الوظيفي، إلى عدوة الرجل، فإن مجرد ذكر كلمة (امرأة نسوية) ينتج ردود فعل قوية وسلبية". كتاب "النسوية وحقوق المرأة حول العالم".
تُثار حول شخصية النسوية العديد من الافتراضات المسبقة، فهي عانس، أو مطلقة عذّبها زوجها حتى كفرت بكل الرجال، لذلك تسعى للانتقام منهم. أم سيئة مهملة لأولادها، يكبرون وهم يكرهونها، ناجحة في عملها لأنها لا تجد رجلاً يحبها. ليست جميلة، فلا تجد فتى الأحلام. لا تقوم بالتخلص من الشعر الزائد في جسمها، وتشتري كل يوم حمالة صدر جديدة لتحرقها قرباناً على مذبح النسوية.
تعرّضت لبعض هذه الافتراضات، سواء بسوء نية أو حسنها، أكثر من مرة، وبعد حديث مطول مع صديقة جديدة تخبرني: "كنت أظن أنك غير متزوجة". أسأل: "كيف ولديّ ابنة أتحدث عنها طوال الوقت؟". أخبرتني إحداهن أنها ظنتني مطلقة، وأخرى في نقاش آخر أيّدت ذات الرأي، وعندما سألتها عن سبب هذا الاستنتاج، جاءت إجابتها: "تبدين سعيدة ومنطلقة وحرة ومتحققة في عملك، لم أر امرأة متزوجة مثلك".
في بعض الأحيان أرغب في أن أكتب على صدري نسوية، فخراً بما أومن به، والأهم أن أصبح سفيرة له
لم أغضب من رد الصديقة، في الحقيقة هذا التصور المسبق لم يكن منمّطاً لي قدر ما كان للسمعة السيئة التي اكتسبتها مؤسسة الزواج، نتيجة لكثرة الزيجات الفاشلة وقهر الأزواج لنسائهن ليفقدن حيويتهن وطموحهن وشعلة الحياة بالتدريج.
لقد كنت أنا النسوية، عدوة الرجل "المفترضة"، زوجة في علاقة متزنة ومتوازنة، بينما العلاقات التي تحكمها الذكورية وتقاليد الأبوية تعني بالتبعية امرأة تعيسة، من وجهة نظر هؤلاء السيدات.
لم تكن هذه الصورة النمطية الوحيدة التي اصطدمت بها، فحين أتحدث عن العدل في المواريث، والاستناد إلى قوانين ميراث مدنية بدلاً من الدينية، أجدني متهمة بكراهية أخي وأرغب في أن أنازعه ميراثه! أقوم بالتمرينات الرياضية لتحسين صحتي بشكل عام والحفاظ على جسم قوي، يسخرون من رغبتي في ضرب الرجال وأولهم زوجي!
يُصدمون عندما يسمعوني أتحدث عن مزايا مؤسسة الزواج في حالة التوازن بين طرفيها والابتعاد عن الأدوار التقليدية، عن حبي الكبير لابنتي ووضعها كأولوية في حياتي مثل مسيرتي المهنية بالضبط. عندما أزيل شعر شاربي، أو أرتدي الفساتين والكعب العالي، يستغربون كما لو أني كائن خرافي خارج من أحد الأساطير، ولا يرون أني لست فريدة نوعي بل هم الذين يصمّمون على تصديق صورة نمطية حد السذاجة.
تنميط النسويات وتشويههن وتصدير صورة كاريكاتورية عنهن ليس سوى سلاح فعال في حرب ترغب في إعادة المرأة للنقطة صفر. حدث ذلك من قبل، وأخشى حدوثه في المستقبل.
تنميط النسويات وتشويههن وتصدير صورة كاريكاتورية عنهن ليس سوى سلاح فعال في حرب ترغب في إعادة المرأة للنقطة صفر. حدث ذلك من قبل، وأخشى حدوثه في المستقبل
بعد الموجات النسوية الأولى والثانية، ظهرت تيارات اجتماعية قامت بنفس الشيء، صوّرت النسويات كنماذج يجب الحذر من الوقوع في فخها، أفرزت نساء الموجة النسوية الثالثة بالتسعينيات، نساء مثل صديقتي التي ذكرتها في المقدمة، يستمتعن بمزايا النسوية ولكن يتنصّلن من المصطلح لأنه شائن وخلفه تأتي الكثير من الصفات التي تنفر منها.
في بعض الأحيان أرغب في أن أكتب على صدري نسوية، فخراً بما أومن به، والأهم أن أصبح سفيرة له.
نعم أنا نسوية، ولكن زوجة وأم، وببشرة ملساء، وأرتدي الوردي والفساتين، وأرفض الظلم وأرغب في المساواة والعدالة الاجتماعية ومستقبل أفضل لابنتي، لا تحدد مكانتها في العالم تبعاً لأعضائها التناسلية بل لصفاتها الشخصية واجتهادها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...