في مثل هذه الأيام من كل عام، تشدّ كنائس التقويم الشرقي رحالها إلى التماهي مع مشاهد آخر ثلاث سنوات من حياة السيد المسيح وآلامه، التي طوى بها الفصل الأخير من فصول خدمته على الأرض خلال حياته التي استمرّت ثلاثة وثلاثين عاماً.
كنت ضمن الأقباط ممن يكثفون تواجدهم على مدار سبعة أيام (أسبوع الآلام)، في الكنيسة الأرثوذكسية التي تحتفظ بطقوس خاصة تمتد لقرون ماضية، تتجسّد فيها بالقراءات والصلوات المتتابعة، لقطات تبدأها بذكرى استقبال الجموع للمسيح في مدينة القدس بسعف النخيل وأوراق الزيتون والأقمصة المفروشة على الأرض، ثم تعلق الشارات السوداء المطبوع عليها صورة المسيح المتألم في مساء نفس اليوم، دليلاً على بدء رحلة الآلام التي انتهت بصلب المسيح ثم قيامته.
مياه كثيرة جرت في حياتي، تبدلت أفكاري ودوافعي تجاه حضور المناسبات الدينية برمتها، لكن جزءاً من حنيني إلى تلك الأيام لم يبرح من ذاكرتي ولم يتبدل حتى، وإن لم أستطع حضوره بنفس الهمة كما من قبل.
سعفة أفشل في تضفيرها
تتسع ذاكرتي لمرّات لا نهائية استيقظت فيها قبل استيقاظ الشمس في "أحد السعف" على مدار سنوات، أهُمّ بارتداء ملابس تصلح لأجواء الربيع المتقلبة التي يتزامن فيها هذا العيد القادم، إما في نيسان/ أبريل أو أيار/ مايو.
أشعر وكأنني يهوذا أو كأنه أحد أقاربي، أتعاطف معه كثيراً… أخطأ فندم، مشاعر الذنب طاردته حتى النفس الأخير. شخص تطارده ذنوبه أينما ذهب، يصل للاكتئاب وكراهية النفس حتى يقتلها
أتسمّر أمام عربة الورود والخوص الواقفة أمام الكنيسة، أنسج أحاديث ودودة مع بسطاء جاءوا من قراهم خصيصاً لبيع سعف النخيل للمحتفلين في هذا اليوم... أتأمل حركات أصابعهم التي تغزل الخوص كإبرة تحركها يدي مُسنة متمرّسة داخل بكرات خيط تريكو. هل يمكنك تحضير سعفة مجدولة لي؟ يبتسم صانعها ويؤكد سهولة صنعها. أزيد تركيزي في حركات يديه، أفشل في تجديل أوراق مماثلة، وأكتفي بصناعة إسوارة صغيرة أربطها في معصم يدي، وأحتفظ بالسعفة المجدولة من صانعها المبتسم مرفقة بوردتين بين ثناياها.
تعاطفت مع يهوذا كأحد أفراد عائلتي
في تمام الساعة السادسة صباحاً تبدأ طقوس صلوات "خميس العهد" حتى الثالثة ظهراً، يتحدث هذا اليوم عن "يهوذا الإسخريوطي" الرجل الذي وشى بنبيه بعدما قاسمه الطعام بنفس المائدة، ثم باعه بثمن بخس لم يتجاوز ثلاثين من الفضة قدمها إليه رؤساء اليهود مقابل تسليم يسوع، والمشاورة عليه بقبلة يطبعها على خده تكون كمرشد للجنود ليقبضوا عليه.
يهوذا في طقس الكنيسة حُرم من الغفران، رغم أنه حاول رد الفضة إلى رؤساء الكهنة وألقاها أمامهم كنوع من تقديم التوبة بعد شعور بالذنب تملك منه، إلا أنهم رفضوا ذلك فأقدم على الانتحار شنقاً.
يسير الشمامسة (المرنمين بالكنيسة)، في زفة تسمى "زفة يهوذا" منطلقين من اليسار إلى اليمين، عكس جميع الزفات في الكنيسة.
يردد الحاضرون مع المرنمين لحناً يقولون فيه: "يهوذا يهوذا بالفضة بعت المسيح لليهود مخالفي الناموس (الشريعة). فأما مخالفو الناموس فأخذوا المسيح وسمروه على الصليب في موضع الاقرانيون".
في هذه اللحظات أشعر وكأنني يهوذا أو كأنه أحد أقاربي، أتعاطف معه كثيراً… أخطأ فندم، مشاعر الذنب طاردته حتى النفس الأخير.
في فيلم "The Passion of the Christ" الصادر عام 2004، الذي أخرجه وساعد في إنتاجه وكتابته المخرج الأمريكي ميل غيبسون، حين أراد تناول شخصية يهوذا من زاوية قريبة بعد فعل تسليمه للمسيح، جعل صغاراً يطاردونه ويلقون عليه حجارة ويعايرونه بكلمة واحدة يكررونها مئات المرات: "كاليل.. كاليل" أي ملعون... ملعون، حاول مراراً سد أذنيه عن أصواتهما بكلتا يديه والهرب منهم من دون جدوى.
هذه الصورة هي أقرب لقلبي، شخص تطارده ذنوبه أينما ذهب، يصل للاكتئاب وكراهية النفس حتى يقتلها. مسكين.
يرجمه المصلون مرات أخرى كما الأطفال بهذا اللحن الحزين. أعينهم تشي بطمأنينة يكتسبونها من مقارنة صلاحهم مع يهوذا الخائن، وكأنهم في حاجة إلى ضحية أو منتحر لإثبات صوابهم. يرددون بصوت جهوري: يهوذا يهوذا مخالف الناموس… أبكي في صمت وأرغب أن تنشق الأرض لتبتلع كل هذه اللعنات.
أتسمّر أمام عربة الورود والخوص الواقفة أمام الكنيسة، أنسج أحاديث ودودة مع بسطاء جاءوا من قراهم خصيصاً لبيع سعف النخيل للمحتفلين في هذا اليوم... أحد السعف
زهور على قبر المسيح وفستاني
أكرر شراء الورود لكن بكميات أكبر في يوم الجمعة العظيمة. ألاحق مجدداً الساعات الأولى من الفجر، أحجز مقعداً بالكنيسة في الصفوف الأولى كي أشاهد طقوس الصلوات عن قرب من الكهنة والشمامسة، أرنّم وأتخيل نفسي ضمن الباكيين على يسوع.
يهتف الحضور بألحان في هذا اليوم تضرب بجذورها إلى النغمات المصرية القديمة التي كانت تقال للملوك أثناء تجنيزهم، وبالأخص في لحن "غولغوثا". تحمل رمزية الألحان وصلوات هذا اليوم تكريم المسيح كملك، اعترافاً بمكانته.
يقوم الكهنة بأداء "طقس الدفنة"، يلتفون حول أيقونة للصليب يشمّرون عن أكمامهم ويقومون بدهن الأيقونة بالطیب والعطور. هذه الورود من أحضرت بعضها مع العشرات غيري من الحاضرين، يلفونها بالقماش کمعايشة لتكفين جسد المسيح، استعداداً للاحتفال بعيد غلبته على الموت بالقيامة في مساء اليوم التالي.
أمتلئ بالأفكار المتناقضة... فرح وحزن وشجن تثيره داخلي ألحان الكنيسة في هذا الأسبوع. أكتفي بهذه الجرعة الروحية، لأعود إلى حياتي العادية. أبحث عن ملابس وتسريحة شعر جديدة تليق بعيد أسجل فيه حضوري مع الأصدقاء. تظل الأزهار حاضرة في ذاكرتي... الزهور التي اشتريتها مرتين على مدار أسبوع؛ والأخيرة منقوشة على فستاني الجديد.
انضم/ي إلى المناقشة
jessika valentine -
منذ أسبوعSo sad that a mom has no say in her children's lives. Your children aren't your own, they are their father's, regardless of what maltreatment he exposed then to. And this is Algeria that is supposed to be better than most Arab countries!
jessika valentine -
منذ شهرحتى قبل إنهاء المقال من الواضح أن خطة تركيا هي إقامة دولة داخل دولة لقضم الاولى. بدأوا في الإرث واللغة والثقافة ثم المؤسسات والقرار. هذا موضوع خطير جدا جدا
Samia Allam -
منذ شهرمن لا يعرف وسام لا يعرف معنى الغرابة والأشياء البسيطة جداً، الصدق، الشجاعة، فيها يكمن كل الصدق، كما كانت تقول لي دائماً: "الصدق هو لبّ الشجاعة، ضلك صادقة مع نفسك أهم شي".
العمر الطويل والحرية والسعادة لوسام الطويل وكل وسام في بلادنا
Abdulrahman Mahmoud -
منذ شهراعتقد ان اغلب الرجال والنساء على حد سواء يقولون بأنهم يبحثون عن رجل او امرة عصرية ولكن مع مرور الوقت تتكشف ما احتفظ به العقل الياطن من رواسب فكرية تمنعه من تطبيق ما كان يعتقد انه يريده, واحيانا قليلة يكون ما يقوله حقيقيا عند الارتباط. عن تجربة لم يناسبني الزواج سابقا من امرأة شرقية الطباع
محمد الراوي -
منذ شهرفلسطين قضية كُل إنسان حقيقي، فمن يمارس حياته اليومية دون ان يحمل فلسطين بداخله وينشر الوعي بقضية شعبها، بينما هنالك طفل يموت كل يوم وعائلة تشرد كل ساعة في طرف من اطراف العالم عامة وفي فلسطين خاصة، هذا ليس إنسان حقيقي..
للاسف بسبب تطبيع حكامنا و أدلجة شبيبتنا، اصبحت فلسطين قضية تستفز ضمائرنا فقط في وقت احداث القصف والاقتحام.. واصبحت للشارع العربي قضية ترف لا ضرورة له بسبب المصائب التي اثقلت بلاد العرب بشكل عام، فيقول غالبيتهم “اللهم نفسي”.. في ضل كل هذه الانتهاكات تُسلخ الشرعية من جميع حكام العرب لسكوتهم عن الدم الفلسطيني المسفوك والحرمه المستباحه للأراضي الفلسطينية، في ضل هذه الانتهاكات تسقط شرعية ميثاق الامم المتحدة، وتصبح معاهدات جنيف ارخص من ورق الحمامات، وتكون محكمة لاهاي للجنايات الدولية ترف لا ضرورة لوجوده، الخزي والعار يلطخ انسانيتنا في كل لحضة يموت فيها طفل فلسطيني..
علينا ان نحمل فلسطين كوسام إنسانية على صدورنا و ككلمة حق اخيرة على ألسنتنا، لعل هذا العالم يستعيد وعيه وإنسانيته شيءٍ فشيء، لعل كلماتنا تستفز وجودهم الإنساني!.
وأخيرا اقول، ان توقف شعب فلسطين المقاوم عن النضال و حاشاهم فتلك ليست من شيمهم، سيكون جيش الاحتلال الصهيوني ثاني يوم في عواصمنا العربية، استكمالًا لمشروعه الخسيس. شعب فلسطين يقف وحيدا في وجه عدونا جميعًا..
محمد الراوي -
منذ شهربعيدًا عن كمال خلاف الذي الذي لا استبعد اعتقاله الى جانب ١١٤ الف سجين سياسي مصري في سجون السيسي ونظامه الشمولي القمعي.. ولكن كيف يمكن ان تاخذ بعين الاعتبار رواية سائق سيارة اجرة، انهكته الحياة في الغربة فلم يبق له سوى بعض فيديوهات اليوتيوب و واقع سياسي بائس في بلده ليبني عليها الخيال، على سبيل المثال يا صديقي اخر مره ركبت مع سائق تاكسي في بلدي العراق قال لي السائق بإنه سكرتير في رئاسة الجمهورية وانه يقضي ايام عطلته متجولًا في سيارة التاكسي وذلك بسبب تعوده منذ صغره على العمل!! كادحون بلادنا سرق منهم واقعهم ولم يبق لهم سوى الحلم والخيال يا صديقي!.. على الرغم من ذلك فالقصة مشوقة، ولكن المذهل بها هو كيف يمكن للاشخاص ان يعالجوا إبداعيًا الواقع السياسي البائس بروايات دينية!! هل وصل بنا اليأس الى الفنتازيا بان نكون مختارين؟!.. على العموم ستمر السنين و سيقلع شعب مصر العظيم بارادته الحرة رئيسًا اخر من كرسي الحكم، وسنعرف ان كان سائق سيارة الاجرة المغترب هو المختار!!.