من بين المسائل التي لا تزال تُثار، وتوصل إلى طريق مسدود، وتنتهي دائماً بانتصار طرف على آخر بطريقة عصبية، أو فيها الكثير من الاتهامات بالعمالة والخيانة في الجزائر، هي مسألة التواجد العثماني في الجزائر (1514-1830). إذ إن هناك من يعدّه احتلالاً وغزواً، ودليلهم أن الكثير من القادة والحكّام الأتراك ارتكبوا جرائم في حق الأهالي الجزائريين، وتعاملوا معهم بعنصرية مقيتة، وساقوا أدلةً تُظهر أشكال تلك العنصرية وأحجامها، خاصةً من خلال نظام الحكم واختيار القادة وأصحاب المناصب والدايات والبايات وقادة الجيوش من الأتراك.
أما الطرف الثاني، فيرى أن الدولة العثمانية ساهمت في طرد المحتل الإسباني من الأراضي الجزائرية، وحفظت الأمن وزرعت الطمأنينة بين المسلمين، وبفضلهم تحولت الجزائر إلى دولة قوية ومهابة الجانب، سيطرت على البحر الأبيض المتوسط لعقود من الزمن، ولا يهم إن كانت تابعةً بشكل أو بآخر للباب العالي. وكل من يقف ضد هذه السردية التاريخية، هو بالضرورة خائن ومندسّ وعدوّ للإسلام والمسلمين ومدعوم من أطراف خارجية، خاصةً فرنسا التي تعادي تركيا، ماضياً وحاضراً.
من هنا تحول الأتراك إلى فاتحين حسب منطلقاتهم، ومن خلال هذين النقيضين ينتصر كل طرف لآرائه وتوجهاته، ويدافع عنها بأشد العبارات قسوةً، وفي الغالب يكون هذا الدفاع غير مسنود بوثيقة تاريخية مستقلة وفاصلة، بل تشحنه، غالباً، الأيديولوجيا الدينية أو الثقافية.
القرصان الذي خلّص الجزائر من الاستعمار الإسباني
فيلم "الملكة الأخيرة" (110 دقيقة، 2022) للمخرجَين وكاتبَي السيناريو عديلة بن ديمراد ودميان أونوري، تطرّق بذكاء شديد إلى حادثة تاريخية مهمة جداً، بدّلت تاريخ الجزائر عموماً وأعادت صناعته، وهي عندما استنجد سليم التومي، قائد قبيلة الثعالبة وآخر أمراء الجزائر، بقائد تركي من عائلة بربروس التي سجلت العديد من الانتصارات في المدن الجزائرية الساحلية، خاصةً في جيجل في بداية القرن السادس عشر، وقد أوفد إليهم سليم التومي مجموعةً من الأشخاص ليعقدوا معهم اتفاقاً ملزماً، من أجل أن يخلّصوه من قلعة "البينيون" التي يحتمي فيها أكثر من 200 جندي إسباني، وهذا وفقاً لشروط معيّنة.
برغم عدد شخصيات الفيلم وكثرة القصص الثانوية فيه، وتراكم فضاءات التمثيل واستعمال أكسسوارات الديكور التي حاكت تلك الفترة الزمنية، غير أن صياغة الفيلم تمت بحرفية كبيرة منسجمة مع العديد من عناصره، ولم يتم تغليب عنصر على آخر، حتى جاء البناء متكاملاً
وجد عروج بربروس، وهو القائد الفذ وملك البحار والقرصان الذي لا يُشقّ له غبار في البرّ والبحر، من خلال هذا النداء، الفرصة المواتية لتحقيق حلمه الأكبر في السيطرة على الجزائر، بوصفها منفذاً مهماً على البحر الأبيض المتوسط، كي يمارس هوياته المفضلة، وهي القرصنة. ولقد عقد معه سليم التومي اتفاقيةً تقضي بأن يساعده في تحرير الجزائر من دون دفع أي إتاوة، مع احترام التجارة وسكان الجزائر، وحين فعل هذا تبدلت المعطيات، إذ تقول بعض المصادر التاريخية إن عروج بربروس، قام بخنق الأمير سليم التومي بعمامته في الحمام، ليخلو له الجوّ ويحكم بعده، وهي السردية التاريخية التي عمل عليها الفيلم ووظّفها.
كما صوّر الفيلم التركي بربروس على أنه قائد جلف وقاسٍ ومغامر، ذو مظهر فوضوي (أدّى دوره الممثل دالي بن صالح)، تتحكم فيه النساء، خاصةً جاريته الجميلة والشقراء إستريد الإسكندنافية (نادية تيريسكيفيتش).
وبعد أن قام بهذه الجريمة طلب الزوجة الثانية للمقتول الأمير سليم التومي، وهي الأميرة زفيرا (عديلة بن دميراد)، التي عُنوِن الفيلم بصفتها: "الملكة الأخيرة"، وقد قبلت برغم معرفتها بأنه هو المجرم الذي قتل زوجها بوحشية، لكنها لم تكن تملك أي قوة حتى تنتقم منه، لهذا بدأت تنصب المكائد له، وقد صوّرها الفيلم على أنها ملكة ذكية وجميلة ومميزة ووفية لتاريخ عائلتها وأسرتها وحتى عِرقها، لتنساب بعدها تفاصيل الفيلم بسلاسة مليئة بالأحداث التاريخية والمتخيلة، وقد أظهر المخرجان من خلالها بعض النقاط التي كانت مخبوءة ولا يتم التطرق إليها، لحساسيتها المفرطة.
قسّم المخرجان عديلة بن ديمراد ودميان أونوري، فيلمها "الملكة الأخيرة"، إلى العديد من الفصول، واعتمدا في كل فصل كتابة عبارات ومعلومات تاريخية بالدارجة الجزائرية واللغة الفرنسية على شاشة سوداء، وقد كتبا مثلاً في أحد الفصول: "الدزاير 1516، كانت جمهوريةً ملكيةً محاصرينها السبنيول، وحاكمين قبضتهم على الميناء مدة 6 سنين، مجيت عروج ورجالو رايحا تقلب الموازين وتتغير أقدار البلاد وقدر الملكة زفيرة".
وفي فقرة أخرى كُتبت على شاشة سوداء فقرة أخرى: "عام من بعد 1518، عروج توفي في حصار بتلمسان، راسو كان معروضاً في كل إسبانيا على إيقاع موسيقى التوكسان".
وهي فقرة توحي بالشماتة بعملية قتله، ليس لقتله الأمير سليم التومي فقط، بل لما حدث للملكة الجميلة زفيرة وابنها وعائلتها وملكها وكل ما هو عزيز عليها، بالإضافة إلى أن الفيلم قدّم العديد من الشروحات المكتوبة، ومعظمها يبرر ما تم إبرازه وتناوله في الفيلم، على أن بعضه من الخيال، كما أن هناك العديد من الاحتمالات، وكأن فريق الفيلم وصنّاعه يحاولون الاختباء خلف تلك العبارات لتبرير ما جاء في محتواه، وهي سرديات وإن كان بعضها غير مثبت تاريخياً، غير أنها ستتحول إلى حقائق تاريخية لدى معظم المشاهدين، بحكم قوة السينما من ناحية، وجمالية الفيلم من ناحية أخرى.
"الملكة الأخيرة"... سيناريو قوي وبناء متناغم
أظهر المخرجان وكاتبا سيناريو فيلم "الملكة الأخيرة"، موهبتهما الكبيرة في صناعة فيلم تاريخي مهم، من ناحية الموضوع/التابو التاريخي الذي تطرقا إليه، أو من ناحية صياغة هذا الموضوع في الفيلم وجماليته.
وبرغم عدد شخصيات الفيلم وكثرة القصص الثانوية فيه، وتراكم فضاءات التمثيل واستعمال أكسسوارات الديكور التي حاكت تلك الفترة الزمنية، غير أن صياغة الفيلم تمت بحرفية كبيرة منسجمة مع العديد من عناصره، ولم يتم تغليب عنصر على آخر، حتى جاء البناء متكاملاً، خاصةً من خلال التنقل من فصل إلى آخر وبين الأحداث التاريخية المختلفة، وهو المعطى الذي ساهم في مرور الوقت الدرامي للفيلم من دون الإحساس بثقل أو الشعور بالملل.
وهناك دائماً حركةً وأحداثاً تجعل المتلقي في حالة انتباه كلي للوقوف على تفاصيل الفيلم، بالإضافة إلى جماليات اختيار أماكن التصوير التي تمت كلها في القصور والفضاءات التي عكست الهوية الجزائرية، ومنها ثياب الشخصيات وطريقة لبسهم وأكسسواراتهم، وهو ما يعكس مدى اهتمام المخرجين بتلك التفاصيل الصغيرة التي عادةً ما تصنع جمالية الفيلم الكبرى، حين يتم جمعها وتنسيقها في جسد العمل الكلي، بالإضافة إلى تصميم المعارك وحركة الشخصيات في فضاءات متعددة، مثبتة بكاميرا ذكية سيّرها وأدارها المصوّر شادي شعبان الذي يملك تجربةً واسعةً في السينما برغم صغر سنّه (33 سنةً)، إذ سبق أن عمل مصوّراً للعديد من الأفلام، من بينها الفيلم اللبناني "البحر أمامكم" (2021)، الذي أخرجه إيلي داغر.
تغلّب فيلم "الملكة الأخيرة" بجمالياته غير المحدودة، وبطريقة معالجته للموضوع، على معظم الأفلام التاريخية الجزائرية، خاصةً تلك التي عالجت فترة التواجد العثماني في الجزائر، أو تطرقت إلى فترة ما قبل اندلاع الثورة الجزائرية
ولهذا جاءت مشاهد "الملكة الأخيرة" مفعمةً بالحياة والألوان والإضاءة الذكية التي تساعد في خلق لغة سينمائية بديلة ومتينة، كما تؤجج العواطف والانفعالات، مثل لحظات الدم والموت والانتقام والخوف، وهي منطلقات ساهمت الموسيقى التصويرية (يفغيني جالبرين وساشا جالبرين)، في شحنها ودمجها مع تلك المشاهد، لتخلق بعداً انفعالياً آخر، خلق تقبّلاً فنياً وموضوعياً لدى المتلقي.
تغلّب فيلم "الملكة الأخيرة" بجمالياته غير المحدودة، وبطريقة معالجته للموضوع، على معظم الأفلام التاريخية الجزائرية، خاصةً تلك التي عالجت فترة التواجد العثماني في الجزائر، أو تطرقت إلى فترة ما قبل اندلاع الثورة الجزائرية. وأثبت المخرجان من خلاله أن السينما التاريخية عندما تجد سيناريو قوياً ونظرةً سينمائيةً مختلفةً تتم صناعة عمل جيّد سيصمد طويلاً أمام الزمن.
يذكر أن فيلم "الملكة الأخيرة"، شارك في العديد من المهرجانات السينمائية العالمية، من بينها مهرجان فينيسيا والبحر الأحمر، كما تمت برمجته للعرض في مهرجان الجزائر الدولي للسينما، لكن تم إلغاء العرض، من دون إعطاء أي تفسير مقنع، وهناك من أعاد الأمر إلى حساسية الموضوع الذي تطرق إليه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.