شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
بين شروق وغروب... حياة إبراهيم حجاج، بطل فيلم

بين شروق وغروب... حياة إبراهيم حجاج، بطل فيلم "معركة الجزائر"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 7 نوفمبر 202201:35 م

تكتسي وجهه القليل من السمرة، ذو عينين ضامرتين وشفتين بارزتين، وذقن تتوسّطهُ انحناءة صغيرة، ساهمت في خلق توازن بينها وبين حاجبيه المعقودين، يعلوهما جبين معتدل ينطلق من حافته شعره الفحمي الذي يمشّطه للأعلى، لتشكل تلك الملامح في مجملها، صورةً مكتملة للرجل الغاضب المُهاب، وتُوحي بنوع من الغموض والرهبة والحزن الدفين. وقد ساعد هذا الوجه المُعبر في خلق ممثل نادر صاحب موهبة خام، تلتحم فيه ملامحه الفيزيائية مع ملامحه الداخلية في انسجام وقوة، لتكريس صورة الفنان صاحب الحضور القوي، خاصة عندما يعكس شعور الحزن والقلق واللاجدوى في أعماق عينه.

ويخلق من هذا الكل ممثلاً تحبه الكاميرا وتعشقه، لأنه يسلبها بحضوره الطاغي وبمميزاته التي لا تنتهي، وبتعلمه السريع لمهنة لا يملك عنها أيَّ مُعطى او تكوين، جاءها من الشارع يسعى، وامتلك ناصيتها في وقت وجيز. سحرها بأدواره المحدودة، وروّضها لصالحه رغم كثرة المنافسين، ليكون ذلك الممثل الذي يقول الكثير من الأشياء صامتاً، لأن كل ملمح له يوزع كتلةً من المعاني والأحاسيس، وإن تكلم في بعض المواطن وجَبَ على الكلِّ الإنصات، لأنه سينقل شحنة أخرى لا تقلّ أهمية عن شحنة الصمت، حتى أنه أصبح الممثل رقم واحد في الجزائر، ولا يمكن لوجه آخر أن ينافسه أو يدّعي ذلك، بل تحوّل في نظرهم إلى مدرسة عامرة في إيصال العواطف وتقلباتها، ومن أكثر الشخصيات السينمائية استحواذاً على حب المتلقين.

حين تتحول الشخصية المُمثّلة إلى حقيقة

لا يحتاج الجمهور لكتابة اسم الممثل إبراهيم حجاج (1934-1996) وربطه بالمعطيات أعلاه، لمعرفته، فهو من بين الأسماء التي يسهل معرفتها من وصف بسيط، لأنه حُفر عميقاً في وجدانه، انطلاقاً من ماضيه الفني العامر ومن دوره الأسطوري الذي أدّاه في الفيلم الجزائري "معركة الجزائر" (117 دقيقة، 1966) الذي أخرجه الإيطالي جيلو بونتيكورفو (1919-2006). وقد تحوّل هذا العمل مع الوقت لنموذجٍ يتمّ تدريسه في الكليات الحربية والفنية على السواء، لاستيعاب منطق الفن وأسلوب حرب العصابات.

لم يهتم به أيُّ شخص من المسؤولين أو الفنانين، وعاش فقيراً  على الرغم من العطاء الكبير الذي قدّمه في مجال السينما، وبرغم الصورة الناصعة التي صنعها عن الجزائر... الممثل إبراهيم حجاج اسم حُفر عميقاً في وجدان الجزائريين

وقد تحصل على جائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا عام 1966، لتنطلق بعدها نجاحاته الأخرى في كلِّ عواصم العالم، وليصبح من بين أهم الأفلام التاريخية، كما صنّفته المجلة البريطانية "البصر والصوت" (Sight and Sound) على أنه من بين أفضل 50 فيلماً تاريخياً عبر العصور بتصويت 846 مختصاً سينمائياً، وكما نال مراتب متقدمة جداً في العديد من التصنيفات الأخرى.

أدى الممثل إبراهيم حجاج في هذا العمل دورَ البطل الثوري الجزائري علي عمار (1930-1957) المعروف في المخيلة الشعبية بالاسم المستعار "علي لبوانت"، الذي حمله خلال فترة نضاله، خاصةً وأن العمل يرتكز بشكل أساسي على أحداثٍ واقعية لفترة ثورية مهمة جداً، انطلاقاً من رؤيا القائد الصوري ياسف سعدي (1928-2021) الذي شارك في كتابة السيناريو وفي الإنتاج، وحتى أنه أدى شخصيته الحقيقية في الفيلم.

وقد تحوّل إبراهيم بعد هذا الدور في ذهن كلِّ جزائري إلى "علي لبوانت" الذي مات أثناء تفجير المستعمر الفرنسي لمخبئهم في القصبة، لتتحول صورة هذا الشهيد إلى صورة الممثل إبراهيم حجاج. ومن هنا يهزم هذا الممثل الحقيقية، ويستولي عليها لصالحه، انطلاقاً من سحره وسيطرته بشكلٍ كليّ على الدور.

وقد نسجت العديد من الأساطير حول حجاج، من بينهما أن المخرج جيلو بونتيكورفو كان جالساً في مقهى "طانطنفيل" بالعاصمة الجزائرية، وقد مرّ أمامه صدفةً، ليتمّ التواصل معه بعدها لأداء هذا الدور. ومنهم من قال بأنه تحصل على الدور من خلال "كاستينغ"، وهي الحقيقة الأقرب. فيما ذهب آخرون بقولهم إن هناك من رشحه للدّور، لأنه كان يعرف الشهيد على لبوانت، وفي نفس الوقت يعرف إبراهيم حجاج، وبالتالي يعرف مدى توافق الشخصيتين، حتى أن الأجانب عندما شاهدوا دوره كانوا يعتقدون بأنه ممثل من أمريكا اللاتينية.

وتقول بعض المصادر بأن المخرج حاول أخذه معه لإيطاليا لمواصلة مشواره السينمائي هناك، ولكن لا يوجد تصريح أو وثيقة رسمية تثبت هذا الكلام. كم روى لي أحد المخرجين بشكل شخصي بأنه كان مرشحاً لأداء دور الثائر ضد الاستعمار خوسيه دولوريس في فيلم "Queimad" (112دقيقة، 1969) الذي اأخرجه بونتيكورفو، وتدور أحداثه في القرن التاسع عشر، في إحدى المستعمرات البرتغالية، بينما سبقه لهذا الدور الممثلُ الكولومبي إفاريستو ماركيز (1939-2013) الذي تشارك البطولة مع مارلين برندو (1924-2004).

ويعود سببُ غضِّ النظر عنه من طرف المخرج بونتيكورفو إلى أنه لم يستطع التواصل معه، ولم يقدر على الحصول على عنوانه. من جهة أخرى ومن خلال معلوماتي الشخصية، فإن الشركة المنتجة لم تتحمس كثيراً، لعدم جدية والتزام الممثل إبراهيم حجاج، إضافة الى أن الشهرة الواسعة التي حصدها من خلال فيلم "معركة الجزائر" جعلته أكثر طيشاً، ولم يعرف كيف يتعامل معها، لأنه لم يكن ممثلاً محترفاً، بل مجرد هاوٍ وجد فرصةً عظيمة أمامه، ولم يتدرج في الوصول لها.

المسافة بين الظلام والأضواء

لا يستند الممثل إبراهيم حجاج على أي تكوين درامي أو حتى تعليمٍ متقدِّم. كان في الثلاثين من العمر، يتسكع في شوارع القصبة والعاصمة، مثل غيره من شباب تلك المرحلة؛ طائش ومتسرع مثل الكثيرين، أي أنه كان من الشوارع المظلمة التي يتآكلها النسيان، قبل أن يحكّ الفانوس، ويخرج أمامه المخرج الإيطالي جيلو بونتيكورفو الذي استلّه من الظلام، ورماه في كومةٍ من الأضواء. فتح عينه فوجد كلَّ عدسات الكاميرات أمامه في أي مكان يذهب له. تحاصره الصحافة بالأسئلة التي يرى بأن الكثير منها أكثر من مستواه الثقافي، والجميلات يتهافتن عليه.

عاش إبراهيم حجاج في آخر سنوات عمره، في حي الكاليتوس بالعاصمة الجزائرية، حياةً صعبة جداً؛ حاصرته الأمراض من كل جهة، ولم يجد المال الكافي لإجراء العملية الجراحية، بعد أن ظهر ورمٌ في رأسه

لهذا وجد نفسه محاصراً من كل جهة، وسط حياة لا يعرف عنها شيئاً، ولا يملك عليها أيَّ خبرة. لهذا أخذته معها إلى الأماكن المظلمة التي من الصعب العودة منها؛ أصبحوا لا يعرفون الأماكن التي يزورها، أو الفضاءات التي يكون فيها، ولا يلتزم بالمواعيد الحياتية والمهنية، وبات من الصعب التعامل معه أو العثور عليه، ليدخل في مرحلة حياتية صعبة جداً، لأنه لم يجد الدّعمَ الكافيَ حتى تتمّ تهيئتُه بشكل سليم لتلك المرحلة، ولم يتم تحضيره نفسياً. لهذا تداخلت حياته، وأثّر الأمر حتى على مستقبله المادي على المدى المتوسط والبعيد، ليعيش بعدها حياةً صعبة جداً.

لا يحتاج الجمهور لكتابة اسم الممثل إبراهيم حجاج لمعرفته، فهو من بين الأسماء التي يسهل معرفتها من وصف بسيط، لأنه حُفر عميقاً في وجدانه، انطلاقاً من ماضيه الفني العامر ومن دوره الأسطوري الذي أدّاه في الفيلم الجزائري "معركة الجزائر"

عرف صنّاع السينما هذه المعطيات جيداً، خاصة المخرج الإيطالي جيلو بونتيكورفو الذي كان سيفتح له أبوابَ العالمية على مصراعيها، انطلاقاً من العمل معه أو مع غيره من المخرجين الذين وقعوا في غرام ملامحه وتمثيله. لكن إبراهيم حجاج ذهب صوبَ المنطقة المحرمة التي يعكسها السلوك السلبي (عدم الالتزام)، وهو أمر خطير في صناعة السينما، ويكلف الكثير من الوقت والمال في حالة تغيب أحد الممثلين عن بلاطو التصوير، ويمكن أن يقلب الامر رأساً على عقب. لهذا تخوفوا منه. وليس أدلَّ من ذلك الدورُ الذي كان سيعيطه له المخرجُ الإيطالي، لكنه ذهب لإفاريستو ماركيز، ليس لأنه أكثر موهبةً منه، بل لأنه أكثر حظاً، كما أنهما يشتركان تقريباً في الملامح.

كما شارك إبراهيم حجاج في بعض الأفلام، من بينهما الفيلم الإيطالي/الجزائري "الغريب" (110 دقيقة، 1967) للمخرج لوتشينو فيسكونتي (1906-1976)، وقد تمّ اقتباس العمل من رواية تحمل نفس العنوان لألبير كامو. وقد أدى حجاج دورَ العربي في الفيلم، كما أدى دورَ عمر في فيلم "الأفيون والعصا" (135 دقيقة، 1970) للمخرج الجزائري أحمد راشدي، ودور رجل ثوري في فيلم "دورية نحو الشرق" (132 دقيقة، 1971) لعمار العسكري (1942-2015)،  ومثل في فيلم "وقائع سنوات الجمر" (177 دقيقة، 1975) لمحمد لخضر حمينة، وقد حصد الفيلم جائزةَ السعفة الذهبية بمهرجان كان السينمائي، إضافة إلى فيلم "سنوات التويست المجنونة" (90 دقيقة، 1986) لمحمود زموري (1946-2017).

التهميش... الموت المبكر للفنان

برغم أهمية تلك الأفلام من الناحية التاريخية والفنية، غير أنها لم تظهر كلَّ طاقة إبراهيم حجاج التمثيلية، ولم تعكس مواهبه الكبيرة، انطلاقاً من سلوكه، أو تعامل المخرجين الجزائريين معه بحذر.

عاش إبراهيم حجاج في آخر سنوات عمره، في حي الكاليتوس بالعاصمة الجزائرية، حياةً صعبة جداً؛ حاصرته الأمراض من كل جهة، ولم يجد المال الكافي لإجراء العملية الجراحية، بعد أن ظهر ورمٌ في رأسه. وبعد وقت من تدبير المبلغ اللازم من طرف العائلة، قرروا ترحيله إلى الخارج لمعالجته، إلا أن المرض تمكن منه.

ومن الأشياء التي تؤلم حسب وصف إحدى قريباته، أنه لم يهتم به أيُّ شخص من المسؤولين أو الفنانين، وعاش فقيراً في الحيّ، على الرغم من العطاء الكبير الذي قدّمه في مجال السينما، وبرغم الصورة الناصعة التي صنعها عن الجزائر. لهذا بات هناك من يطالب بضرورة إعادة الاعتبار لهذا الممثل، من خلال التكفل بأسرته، وتجديد صورته التي تآكلها النسيان.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image