يكاد يكون الإنتاج التلفزيوني والدرامي المخصص لشهر رمضان في المنطقة العربية، الطقس الحداثي الوحيد الذي عرفه الصيام الإسلامي في قرون عديدة من الوجود والممارسة. وبعيداً عما يمكن أن توصم به هذه الدراما من عيوب ونظرة دونية مقارنة بالسينما والمسرح، فإنها تعدّ اليوم أهم منتج ذي رواج لسبب أو لآخر، مع غياب صناعات سينمائية موزونة، وتراجع المسرح.
الإجماع يقع على الضعف في غالبية الأعمال الناطقة بالعربية
ورغم الحضور الدرامي التلفزيوني الذي تضاعف خلال العقدين الأخيرين، واعتباره أحد مظاهر القوة الناعمة للأنظمة، فإن الإجماع يقع على الضعف في غالبية الأعمال الناطقة بالعربية.
بالمقابل، يعرف الأدب العربي "ثورة" في عالم الرواية، التي تحولت إلى المنتج الأدبي العربي الأول، إنتاجاً واستهلاكاً، كما يشهد تراجعاً في حضور الشعر عموماً، مما أثار حفيظة البعض أحياناً، مطالبين بكبح هذا الحضور المتزايد للرواية، إذ لم تدخل جديداً يذكر في مسارها.
هذه الروايات على كثرتها، وعثراتها، لا يمكن أن تفتقد كلها أصالة بعض أجزائها، أو على الأقل موضوعاتها التي بالإمكان استثمارها على الشاشات المتنوعة.
مثلاً، مسلسل "بالطو" مقتبس من مجموعة قصصية استمدت عنوانها من فيلم سينمائي شهير. ورغم اقتصار عرض المسلسل على منصة رقمية، ووجوه غير معروفة، وإنتاج متوسط مقارنة بباقي المسلسلات شهد إقبالاً بسبب أصالة الموضوع، وطريقة طرحه.
حقق المسلسل نجاحاً يثير التساؤل حول غياب التبادل بين عوالم النص والصورة الفنيين، خاصة عندنا في الجزائر.
تعرف الجزائر خلال السنوات الأخيرة تحسناً في المقترح الدرامي المرتبط بشهر رمضان، إخراجاً وتصويراً مع نقص فادح في النصوص الأصيلة، وهو أمر يكاد ينسحب على جميع بلدان المنطقة العربية، رغم علاقة الدراما الجزائرية تاريخياً بالرواية.
من إرث الدراما الروائية
إذ كان مسلسل "الحريق" في عداد أوائل الأعمال الدرامية الجزائرية التي اقتبست بشكل مباشر ثلاثية "الحريق" للروائي الجزائري محمد ذيب (1930-2003)، كما اُستُلهمت الكثير من الأعمال الروائية في السينما، كـ “الربوة المنسية" لمولود معمري (1917-1989)، وهو أول فيلم ناطق بالأمازيغية، و"ريح الجنوب" لعبد الحميد بن هدوقة (1925-1996)، وغيرهما، ولكنها ظلت قليلة على أية حال.
تصدرت أخيراً أخبار اقتباس للعديد من العناوين الروائية الجزائرية لمخرجين شباب ككريم موساوي، الذي يضع حالياً في نهاية شهر مارس 2023 اللمسات الأخيرة على فيلم “ألجي،الصرخة" المقتبس عن رواية تحمل العنوان ذاته للروائي الجزائري سمير تومي. كما أعلنت المخرجة الجزائرية صوفيا جاما عن مشروع فيلمها القادم، المقتبس عن
رواية “الاختطاف" لأنور بن مالك، حتى حسان فرحاني الذي سبق له استلهام كتاب للصحافي الجزائري شوقي عماري في الفيلم الوثائقي "143 شارع الصحراء"، وحصد العديد من الجوائز، بدأ العمل على اقتباس لرواية اكتفى بالإشارة إليها في حديثه لرصيف22 دون الخوض في التفاصيل.
إنتاج ضخم وناجح جماهيرياً في الرواية العربية، فلماذا لا تغوي كتاب الدراما مثلما تغويهم اقتباس الأعمال الناجحة من الغرب؟ هل هي السياسة، أم استسهال، أم وعي محدود؟
فرحاني الذي سبق أن اشتغل مساعد مخرج في العديد من الأفلام، وهو ابن كاتب قصص قصيرة وصحافي جزائري، يرجع سبب أزمة النصوص التي تعاني منها الجزائر تحديداً لغياب الاستثمار في النصوص الجيدة، إذ يفضل بعض المنتجين الاستثمار في أمور أخرى، بحسب فرحاني، أمور لم يشأ تحديدها ولكن ربما تكون أجور بعض الممثلين والمستلزمات التقنية عموماً.
ويبرر الناقد السينمائي الجزائري أحمد بجاوي أزمة النصوص الدرامية عامة بأن جذوره تعود إلى "الموجة الجديدة التي أدخلتها السينما الفرنسية، إذ جعلت المخرج مؤلف العمل
السينمائي، وبذلك أضرت بالسينما، تراجع فرص الإنتاج في السينما تحديداً هو الذي جعل الكثير من الوظائف تتداخل كتلك التي بين المخرج وكاتب السيناريو، الذي باتت مهامه
عشوائية".
"أزمة غياب سيناريوهات جيدة أضحت أمراً واقعاً يعاكس تماماً ما يحدث في باقي أصقاع العالم، إذ تعد الرواية مادة للاقتباس الدائم، وفي ظل تصرفات غير محترفة لكثير من كتاب السيناريو كإقحام مشاهد غير منطقية في النصوص فقط لأن كاتب السيناريو عاشها"... هل تتفقون مع هذا الرأي؟
ويرى أحمد بجاوي أن الجزائر متأثرة بتقليد كولونيالي يدعى "السكيتش-شوربة"، يسخر فيه "الأهالي" من أنفسهم، أما أسباب امتداده الحقيقية فتعود إلى "عدم امتلاك القنوات التلفزية الجزائرية الخاصة والحكومية للإمكانيات ولا الخبرة لتجاوز مثل هذه التقاليد، كتلك التي كانت تمتلكها المؤسسة الجزائرية للإذاعة والتلفزيون من 1962 إلى 1985".
أما فرحاني فلا يحبذ تقديم تفسير لفائض الإنتاج الدرامي خلال شهر رمضان، مفضلاً ترك الأمر لمختصين بعلم الاجتماع، وبحوث ميدانية، أو حصره في إقبال المعلنين على الدراما التلفزيونية، ولكنه يشدد على "ضرورة خلق جسور أعمق بين كتاب الرواية والمشتغلين بفنون السمعي البصري لأن أزمة غياب سيناريوهات جيدة أضحت أمراً واقعاً يعاكس تماماً ما يحدث في باقي أصقاع العالم، إذ تعد الرواية مادة للاقتباس الدائم، وفي ظل تصرفات غير محترفة لكثير من كتاب السيناريو كإقحام مشاهد غير منطقية في النصوص فقط لأن كاتب السيناريو عاشها".
إنتاج درامي ضد التطور
الرواية بالنسبة لفرحاني "أقوى الفنون على الإطلاق، إذ يكفي لصف من الكلمات أن يخلق عوالم كاملة"، في حين يشير إلى أن الروابط بينها وبين الدراما الجزائرية "لا يمكن أخذها بعين النقد والمساءلة في ظل شح الأفلام والمسلسلات المقترحة، أمر لا تصح المطالبة به في غياب صناعات سمعية-بصرية كاملة".
اقتبس المخرج الهوليودي الشهير كونتين تارونتينو سيناريو فيلمه "كان يا ما كان في هوليود" الذي صدر سنة 2019، وحصل على عدة جوائز أوسكار كجائزة أحسن ديكور وأحسن ممثل، في رواية لم تسل الكثير من الحبر، وهي تجربة نادرة في تحويل الصور إلى كلمات، محاولاً ربما إعادة عجلة التاريخ إلى نصابها، فقد عبّر الإنسان بالصور قبل الكلمات، وفتح جدلاً حول الاستفادة المتبادلة بين فنون الصورة وعوالم الكتابة الروائية.
"هناك مئات الروايات الواجب اقتباسها في أفلام ودراما"
يعلق أحمد بجاوي في حديثه لرصيف22 بأن"كان يا ما كان..." واحدة من ضمن عشرات التجارب التي خاضها الكثير من السينمائيين في كتابة الرواية، ولكنه يظل على قناعته بأنه "لولا رواية "بوزو" لما شاهدنا سلسلة أفلام "العراب" لـ"كوبولا"، وهناك مئات الروايات الواجب اقتباسها في أفلام ودراما".
إذا كانت الرواية أسبق تاريخياً إلى الظهور من الصور المتحركة، فقد كانت أولى المواد التي استلهمت في السينما، منذ نهاية القرن التاسع عشر بتحويل قصة "السندريلا" إلى فيلم "بدائي"، وقد واكب تطور السينما ظهور التيارات الكبرى المؤسسة لما بعد الحداثة في الرواية والفكر.
الرواية فن يستوعب العديد من الفنون المجاورة، السابقة واللاحقة، من شعر وغناء ومسرح، وظواهر اجتماعية وتاريخية. ونظراً لإنتاجها غير المكلف تتيح للكاتب وضع رؤيته بحرية أكبر، وجرأة أكبر، ربما هذه الجرأة، وتلك الحرية هما اللتان تدفعان المنتجين في المنطقة العربية إلى تجاهلها، وعدم تقديمها كأعمال درامية تلفزيونية، التي هي الوسيط الأقدم بيد الأنظمة لفرض أجنداتها على الجماهير، مقارنة بالسينما، التي رغم انتشارها النسبي تظل محسوبة على الفنون النخبوية.
ويبدو أن المنصات الرقمية لا تسهّل مهمة مد الجسور بين الفنون جميعها، لنخرج من حالة الركود والتكرار في ثقافتنا الترفيهية، رغم أنها تبدو عازمة على التطور في الحالة البصرية، وقلب موازين الإنتاج والاستهلاك التقليديين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.