كارثة لم يستفق أهالي سوريا منها بعد. اتفق الكل ضمنياً على تأجيل الألم إلى وقت لاحق، هذا اللاحق الذي لم يعد يستوعب تراكماتنا. لكن في المقابل، أطراف النزاع والمساعدات الأوّلية كانت واعيةً منذ اللحظة الأولى، تسأل المنكوبين والمنكوبات: "أنت من وين؟ وتابع لمين؟". وبدرجة تعقيد مضاعفة، كان وضع الكرد في موطنهم في ناحية جنديرس، التابعة لعفرين المحتلة من قبل الجيش الوطني السوري التابع لتركيا، ومهجري/ ات عفرين في أحياء الشيخ مقصود والأشرفية في حلب.
"لم أبكِ بعد"
غفت جيان (اسم مستعار لشابة من جنديرس)، قبل ربع ساعة من حدوث الزلزال، لتصحو وهي تتخبط يميناً ويساراً وتهرب مع عائلتها من منزلهم في الطابق الثاني. "باب البناء الذي كان مقفلاً، كسره أخي بمعجزة"، تقول.
"كنا نصرخ ولا نستوعب ما يحصل... يا رب الطف، مع كل صرخة نرى بناءً ينهار ويتوقف صراخ ساكنيه"؛ تصف جيان ما حدث، وتضيف أن الأمر لم يقتصر على سقوط المباني المحيطة بها وبعائلتها، بل امتدت إلى احتراق الفرن في الحي نفسه، لتجد نفسها في ثياب نومها تحت وابل الأمطار والكتل الإسمنتية والنيران. "ظننا أننا نحلم"، تضيف.
وضع الكرد في موطنهم في ناحية جنديرس مأساوي، نتيجة سيطرة الجيش الوطني السوري التابع لتركيا
مع طلوع الشمس، بدأت أضرار الكارثة بالظهور. تقول: "أناس ينادون لإسعافهم ولا أحد يهب لمساعدتهم، وجثث معلقة بأنقاض الأبنية وأشلاء في كل مكان، لم نبكِ في تلك اللحظة ولم نصرخ. فقدنا الأمل".
على بعد 45 كيلومتراً نحو الشمال الشرقي من جنديرس، وتحديداً في حي الشيخ مقصود في حلب، يربط جهاد (اسم مستعار لنازح من عفرين في الشيخ مقصود)، ليله بنهاره، ليستطيع إيصال المساعدات المالية المرسلة عبره إلى أهالي الحي. هو غادر مع زوجته وأولاده من عفرين، خلال فترة الاحتلال التركي (عملية غصن الزيتون)، في 2018، واستقر في الشيخ مقصود، الحي الذي كان قد ذاق من الحرب ما كان كفيلاً بتدمير معالمه، والذي تفرض عليه الحكومة السورية حصاراً تلو الآخر.
"حفاةً وبثياب النوم خرج الناس من بيوتهم، واليوم بعد مضي أكثر من أسبوعين، لا يجرؤ أحد على العودة لأن المباني التي لم تتضرر بشكل كبير، تصدعت ومهددة بالسقوط"، يقول جهاد ويضيف: "نرى مشاهد وصور وصول مساعدات إلى جميع الأطراف، لكن لم نجد أي إعانات على أرض الواقع، كل المساعدات التي وصلت هي عبر أفراد ومجموعات قررت التبرع للمساعدة".
"كارثة مضاعفة"
روج موسى، صحافي كردي من عفرين مقيم في ألمانيا، بدأ مع مجموعة ناشطين وناشطات حملة لإيصال المساعدات المالية إلى أهالي جنديرس عبر مكاتب الحوالات، لتصل من المتبرعين/ ات مباشرةً إلى المتضررين/ ات، إلى جانب ذلك يقوم الفريق بتوثيق أسماء وأعداد ضحايا الزلزال من سكان جنديرس الأصليين كرداً وعرباً وتوثيق الأضرار في الملكيات.
يرى روج أن "الكارثة مضاعفة عشرة أضعاف. العنصرية التي كانت موجودةً ضد المدنيين في عفرين خلال 5 سنوات من الاحتلال التركي من خلال فصائل الجيش الوطني التابع لتركيا المسيطرة على جنديرس، مستمرة إلى اليوم برغم الكارثة"، ويؤكد على وجود حالات "سرقة ممنهجة للبيوت"، التي احتمى سكانها في القرى خوفاً من الهزات الارتدادية اللاحقة.
من جهتها، تروي جيان التي تبيت مع عائلتها في سيارة بجانب ما بقي من بيتهم، أن "القسم الأكبر من المساعدات العينية التي دخلت تم الاستحواذ عليها من قبل الفصائل، وما زال قسم منها في مستودعاتها"، وتضيف في سياق مشاهداتها أن "فصيل العمشات (فرقة السلطان سليمان شاه)، التابع للجيش الوطني، قام بتوزيع مساعدات عينية في الحي المجاور، للعوائل العربية، وأقصوا بشكل تام العوائل الكردية في الحي نفسه".
القسم الأكبر من المساعدات العينية التي دخلت تم الاستحواذ عليها من قبل الفصائل، وفصيل العمشات قام بتوزيع مساعدات عينية في الحي المجاور، للعوائل العربية، وأقصوا بشكل تام العوائل الكردية
يطالب معظم أهالي مدينة جنديرس اليوم، بخيم ليقوموا بنصبها أمام بيوتهم، لكن الخيم التي تدخل، تُسرق ومن ثم تباع.
تبيت كلجين مع زوجها وأولادها في مؤخرة سيارة شحن صغيرة تمت تغطية الجزء المكشوف منها، ليتمكنوا من النوم داخلها، بالقرب من بيتها في جنديرس. ترسل صورة سيارة الشحن وتقول: "هذا بيتي، أبحث عن خيمة منذ ثلاثة أيام ولم أستطع تأمينها. أنا راضية وأملي الوحيد ألا يحصل زلزال آخر"، وتنقل الحديث الذي دار بينها وبين أختها المقيمة في ناحية راجو: "يبيعون الخيم التي وصلتهم عبر قوافل المساعدات في ناحية راجو، بـ300 دولار".
تقول الناشطة المدنية العفرينية التي تقيم في ألمانيا، همرين حبش، إنها مع فريق من الناشطين والناشطات وبعد متابعة "التقاعس التركي عن إدخال المساعدات من معبر حمام وباب السلامة، حاولنا كأفراد من أهالي عفرين في المهجر أن نعمل لأهلنا لأننا فقدنا الثقة والأمل بوصول المساعدات لهم"، وتؤكد أن كل المعلومات التي تقوم بتوثيقها تتم بسرّية تامة خوفاً من أي ضرر قد يلحق بمن يقوم بالتوثيق في جنديرس.
وتضيف: "حسب تواصلي اليومي مع الأهل والأصدقاء في جنديرس، لا يستطيع المدنيون ترك البيوت بسبب السرقة. قد لا تكون القيمة المادية للمسروقات هي ما تدفعهم للبقاء، بل القيمة المعنوية".
"أين المساعدات؟"
في العاشر من شباط/ فبراير، أي بعد أربعة أيام من الكارثة، دخلت أولى قوافل المساعدات الإنسانية التي أرسلتها منظمة بارزاني الخيرية التي يقع مركزها في مدينة أربيل في كردستان العراق. 15 شاحنةً توجهت لإغاثة جنديرس، إحدى أكثر المناطق تضرراً من الزلزال في شمال غرب سوريا، وأظهرت مقاطع فيديو مشاهد لتجمهر أهالي عفرين لاستقبالها وسط أصوات بكاء المحيطين بالقافلة، وفي تحديث نشرته المنظمة في صفحتها الرسمية على فيسبوك في 14 شباط/ فبراير 2023، استفاد 3،000 شخص من منكوبي عفرين من هذه المساعدات العينية، لكن ماذا حصل على أرض الواقع؟
بعد أربعة أيام من الكارثة، دخلت أولى قوافل المساعدات الإنسانية التي أرسلتها منظمة بارزاني الخيرية
تقول همرين: "سعادة الناس بدخول القافلة وبكاؤهم في آن، لم يكن سببهما الأساسي حاجتهم إلى هذه المساعدات، بل كان بسبب حاجة الناس إلى رؤية من يراهم ويسمعهم، إذ مرت خمس سنوات منذ أن سمعهم أو رآهم أحد"، وتضيف: "لكن للأسف، هذه المساعدات ليست بحجم الكارثة خاصةً أن الفصائل المسلحة، عدا عن استلام إتاوات لإدخالها، استلمت حصصاً كبيرةً مما هو مخصص للمتضررين".
كذلك، تقول جيان: "رأينا 15 شاحنةً تدخل، لكن لم نستلم أي مساعدة حتى اليوم. عدا عن المبالغ المالية المرسلة من الأهل والأصدقاء، لم نستلم أي شيء"، وتضيف: "أعتقد أن الخطأ الأكبر هو تسليم المساعدات العينية للفصائل المسيطرة".
ويؤكد الصحافي موسى، حديث جيان، بناءً على المعلومات التي تلقاها من أقارب له في جنديرس: "بارزاني الخيرية التي دخلت لإغاثة الكرد، لم يستلم أهالي عفرين أي مساعدات منها. بعد استيلاء الفصائل عليها تم توزيعها على خيم نُصبت حديثاً لأهالي المسلحين بعد الزلزال".
كان من المفترض أن يتم توزيع القسم الثاني من المساعدات المرسلة من قبل بارزاني الخيرية، في 14 شباط/ فبراير، لكن مقطع فيديو انتشر بكثرة على فيسبوك، أظهر تجمهر عدد كبير من النساء والرجال حول شاحنات تابعة للمنظمة تحوي مساعدات عينيةً، في أثناء وجود أعضاء المنظمة داخل مكتب المجلس المحلي لجنديرس لتنسيق تعيين مندوبين للمتضررين. تظهر في الفيديو محاولة أشخاص توزيع المساعدات، لتتدخل الشرطة العسكرية عبر إطلاق أعيرة نارية لتفريق المحيطين بالقافلة.
بعد وقت قصير من انتشار الفيديو، ظهر الناشط المدني شام المجد، الملقب بـ"أبو شام"، والذي يعمل ضمن فريق تطوعي يُسمّى "عفرين لايف"، بفيديو عبر خاصية البث المباشر على فيسبوك يقول فيه إن الناس المتجمعين "ليسوا من أهل جنديرس، بل من المخيمات القريبة ووجدوا إيصال المساعدات فرصةً للنهب"، ويستدرك: "مو كلهن".
ما بعد الزلزال
يوم 12 شباط/ فبراير، أعلنت مؤسسة قطر الخيرية، بدء تنفيذ المشروع الذي أسمته "مدينة الكرامة"، لإعادة إعمار المناطق المتضررة من الزلزال في شمال سوريا. يبدي الصحافي روج موسى، تخوفه من هذا المشروع، ويجد فيه "احتمالاً لإنهاء الوجود الكردي في المدينة".
أما همرين فتقول: "في حال تمت إعادة الإعمار، فستكون الأبنية للمسلحين وعائلاتهم، ولن يستفيد منها أهل جنديرس أو النازحون"، وتكمل: "إذا كان الكردي لا يحصل على خيمة، فما بالك إذا كانت بنايةً".
ملكية الأبنية القديمة الموجودة في جنديرس مسجلة في السجل العقاري في مدينة حلب، لكن الأبنية الحديثة التي شُيّدت في أثناء فترة حكم الإدارة الذاتية في عفرين غير مسجلة، الأمر الذي يسبب "مشكلةً" بحسب سوزان (اسم مستعار)، وهي حقوقية نزحت من عفرين إلى القامشلي وتعمل في مشروع توثيق انتهاكات الملكية في عفرين ورأس العين/ سري كانيه وتل أبيض.
في حال تمت إعادة الإعمار، فستكون الأبنية للمسلحين وعائلاتهم، ولن يستفيد منها أهل جنديرس أو النازحون، فإذا كان الكردي لا يحصل على خيمة، فما بالك إذا كانت بنايةً
وإذ تؤكد على أهمية إثبات ملكية الأراضي والأبنية في عملها التوثيقي، إلا أنها "ليست رادعاً"، وتقول: "سبق أن تم بناء قرى استيطانية على أراضٍ مملوكة لشخص ومسجلة في السجلات الرسمية، لكن هذا لم يكن رادعاً لبناء هذه القرية"، في إشارة منها إلى قرية "أجنادين" السكنية.
وسط هذه المخاوف التي ظهرت بعد الكارثة التي لم تنتهِ بعد، والتي أعادت صياغة مصطلحي "الناجي" و"الضحية" في قواميسنا الشخصية، تستمر احتياجات الضحايا الأحياء في التفاقم، وهذه الاحتياجات ساهم ناجون، مرةً كأفراد ومرةً كجماعات، في سرقتها ومنع وصولها إليهم.
تقول جيان: "كل ما أتمناه الآن هو أن أمرّ بحيّ وأرى أناساً أحياء أعرفهم فيه. ما زلنا غير مستوعبين الصدمة".
لم تكن مناطق معارضة تستهدفها الحكومة وروسيا هذه المرة، ولم تكن مناطق تهدد "الأمن القومي" لتركيا، بل كانت سوريا بمدنها التي تحتاج عشوائيتها نظاماً كونياً جديداً لفهمها. سوريا التي تتذيل كل لوائح العالم المتحضر مرةً في الحقوق والديمقراطيات ومرةً في سرعة الإنترنت، صارت تحتاج إلى لائحة النجاة من الكوارث، لنتصدّرها نحن الناجين/ يات ونلعن كل مرة الحياة التي جعلتنا ناجين وناجيات في هذه الجغرافية التي لا يقل باطنها تعقيداً عن سطحها.
تنويه: أسماء كل المتحدثين/ ات من داخل سوريا، أسماء مستعارة، لأن أعتى الكوارث لا تشفع لنا عند "سلطاتنا" الكثيرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...