قبل سنوات، وعن طريق صديقة تعرف أحمد مكي، حاولت أن أرسل إليه هذا الاقتراح: كنت قد رأيت صورة كارتونية ضخمة، تجمع الشخصيات كلها التي ابتكرها مسلسل "سيمبسون"، بأجزائه المتعدّدة لعقود، في تلك الفترة، وفكرت في أن المسلسل المصري الوحيد الذي يستحق لوحة مماثلة، هو مسلسل "الكبير" لأحمد مكي.
لم ينفذ الاقتراح، وربما لم يصله من الأساس، ليس بسبب نذالة الصديقة، لكن بسبب سذاجة الاقتراح من الأصل الذي ساقته الحماسة لما يقدّمه مكي من خلال عالم الكبير أوي.
على عكس الكثير من الآراء، ورغم تراجع مستوى الجزء السابع من مسلسل "الكبير أوي" لأحمد مكي، إلا أني لا أرى أن عليه أن يتوقف، بل على العكس، فلتستمرّ أجزاؤه طالما بإمكانه أن يخلص لهذا العالم الذي صنعه بيديه، فبعد سنوات من الآن، ربما في شيخوختنا، لن نتذكر الأجزاء الضعيفة في المسلسل، بل سنتذكر شخوص ذلك العالم الفريدة: الكبير، هدية ومربوحة، فزاع وهجرس وأشرف ودكتور ربيع، وغيرها من الشخصيات التي حفرها هذا المسلسل في الذاكرة.
مخلصاً أشاهد الجزء السابع على الإفطار، ولم ابتسم إلا مرات قليلة، ذكرى للأيام الخوالي، وربما لأني أراه بمنطق المسلسل الكارتوني ذي الأجزاء الطويلة، الذي لن تضحكني بسبب طوله حلقات عدة منه، لكن حلقات أخرى ستفعل.
وفي رأيي، ما زال المسلسل يملك إمكانيات في أجزاء أخرى لتعويض ضعف هذا الجزء، ربما لو أدرك أحمد مكي أن الكوميديا التي يقدمها باعتمادها على "السفّ" على الثمانينيات، لم تعد صادمة أو مهمة أو مفاجئة بعد أن أضحكتنا لفترة، وربما في مقال سابق كتبت عن أحمد أمين على نحو إيجابي، رغم اعتماده في أجزاء كثيرة من الكوميديا على السخرية من الثمانينيات، إلا أنه، على العكس من مكي، ما زال يغلّفها بشيء من النقد الاجتماعي، ولا تمثل الجزء الأساسي الذي يعتمد عليه في الإضحاك.
ربما في شيخوختنا، لن نتذكر الأجزاء الضعيفة في "الكبير"، بل سنتذكر شخوص ذلك العالم الفريدة: الكبير، هدية ومربوحة، فزاع وهجرس وأشرف ودكتور ربيع، وغيرها من الشخصيات التي حفرها هذا المسلسل في الذاكرة
مكي أيضاً تجاوز مرحلة "السفّ"، إلى ارتداد غريب، يحوّله من ناقد لتلك المرحلة إلى مؤمن بها، وبدلاً من التخلّص منها بتفكيكها والسخرية منها – وهو الأمر الذي قُتل بحثاً وضحكاً من الأصل، ولم يعد مجدياً- يتحوّل إلى عاشق خفي لها، كأن كل تلك السنوات التي قضاها في السخرية من تلك المرحلة، لم تجد نفعاً مع تقدمه في العمر، ليصبح في النهاية أسير "نوستالجيا" تلك الفترة، التي لم يعشها إلا جيلي الذي تخطى الآن الأربعين من عمره، أما الأجيال الجديدة فلم تر هذا العالم أصلاً لتشعر بالتناقض الذي يولد الضحك.
هذه النوستالجيا التي ترغب في الرجوع بالزمن إلى الخلف، أمر مختلف عن فحص تلك المرحلة نقدياً بعين الحاضر، وفي 2017، أي قبل ست سنوات من الآن، صدمتني أغنية "وقفة صحاب زمان"، لأحمد مكي، وكانت العلامة الأولى والواضحة على هذا الارتداد إلى تلك الفكرة العبثية، أن القديم أجمل بالضرورة. أفهم العمر وتقدمه وأحكامه، لكن يوجد هنا فنان يتوقف به الزمن، ولم يعد يفهم تطوراته، وبالتالي يفقد اللغة بين وبين متابعيه الجدد، أما القدامى فقد ملّوا، فلا شيء مضحك في نكتة متوقعة.
في الجزء السادس، قدم أحمد مكي خلطة تتجاوز تلك العقبات، لذلك حقق نجاحاً معقولاً، فمن ناحية بدا معاصراً للحظة، متصلاً مع لغة العصر الحاضر، حتى إن عالماً بأكمله بُني في شطر كبير من حلقات "الكبير" على المسلسل الكوري "لعبة الحبار" الذي سبق عرض الجزء السادس بوقت قليل، كما أن نزوع أحمد مكي لتقديم شخصيات جديدة، كالكبيرة فحت ومربوحة والعترة، وأن يمنح الشخصيات الأخرى، كهجرس وفزاع ودكتور ربيع مساحات واضحة تجعلهم أنداداً لهم في عالمه، قد منحت الكوميديا الطزاجة والقوة.
بعد انتهاء فترة عادل إمام الذهبية في بداية الألفية، لم يعد الجمهور يمنح أحدا شيكاً على بياض، وإن كان مستعداً دائماً كي يفيض بالمحبة عندما يشعر باجتهاد الفنان وقلقه تجاه جمهوره
وكان مكي من الذكاء والإخلاص أن يقدم مربوحة، بديل هدية بأقوى طريقة ممكنة، من خلال أفكار ممتازة، فمن ناحية قدم لنا كوميديانة قوية من سلالة كوميديانات كبار ونادرات، كسناء يونس ونبيلة السيد وزينات صدقي، كما حماها، هو والمخرج أحمد الجندي، من قلة خبرتها، القادمة في الأساس من تمثيلها كهاوية في المسرح، وكونها ما زالت نجمة صاعدة تحسن وتضبط أداءها الموهوب مع الوقت، حتى تصل إلى أفضل صيغة ممكنة، وهو ما لم نشعر به هذا العام في ظل حالة الاستسهال التي ميّزت هذا الجزء.
ينسى مكي أن المسلسل تجاوز شخصية الكبير وجوني – وهنا استثني حزلقوم الذي يضحك الحجر بمجرد ظهوره- وأن طيلة سبعة أجزاء، كانت أقوى الحلقات هي التي تكون فيها الكوميديا جماعية.
مازلت أملك الأمل في مسلسل "الكبير" وأحمد مكي وأحمد الجندي، والمتتبع لسيرة أحمد مكي يفهم شيئاً ما، أنه عقب كل نجاح مدوٍّ يحققه، يتعثر بعده بشكل مدوٍّ أيضاً، ولا أعزو ذلك لسوء الحظ ولا لغيابه لفترة طويلة؛ بسبب تعرّضه للإصابة بمرض نادر، بل ربما لعيب فيه، ظنّه أن نجاحاً ما يكفل له أن ينجح إلى الأبد، فيقدم مشروعه التالي بثقة تصل إلى درجة الغرور أن كل ما يلمسه سيتحول إلى ذهب، لكن هذا العيب يتحول إلى ميزة، إذ تدفعه الصدمة إلى القلق والاجتهاد والإبداع، وهو في الأصل ما ننتظره منه دوماً، بعد انتهاء فترة عادل إمام الذهبية في بداية الألفية، لم يعد الجمهور يمنح أحدا شيكاً على بياض، وإن كان مستعداً دائماً كي يفيض بالمحبة عندما يشعر باجتهاد الفنان وقلقه تجاه جمهوره.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...