شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
وداعاً أيها المتجر... نوستالجيا التسوّق بعيداً عن أمازون

وداعاً أيها المتجر... نوستالجيا التسوّق بعيداً عن أمازون

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 6 نوفمبر 202012:00 م

بلغت شهرة المصوّر الفوتوغرافي الألماني أندرياس غورسكي أوجها عام 2016، إثر صورة التقطها لمستودع أمازون في فينكس-أريزونا في الولايات المتحدة، والتي تبدو من بعيد، وقبل التدقيق في تفاصيلها، كأنها مدينة بأبنية متراصّة، لكن بعد إمعان النظر فيها نكتشف أنها مئات الرفوف التي "تُخزّن" عليها بضائع شركة أمازون. الصيغة اللانهائية التي تظهر فيها "السلع" تخلق رهبة من نوع ما، لكنها أيضاً ترسم صورة مأساوية للعصر الذي نعيش فيه: كلّ ما نظن أننا نريده موجود في هذا المستودع، كل الإعلانات والعروض السريعة والتخفيضات الهائلة، مكدّسة في مكان واحد وجاهزة للشحن إلى باب أي مستهلك في أقل من 24 ساعة، كل أحلامنا وتوقعاتنا عن الفردانية والاختلاف والتميز وشراء ما لا يمتلكه أحداً غيرنا، أي كل "وعود الاستهلاك"، موجودة على واحد من هذه الرفوف.

لا يمكن إنكار الهيمنة الاستهلاكية التي نختبرها يومياً والتي تحضر في أشد التفاصيل حميمية، ولا يمكن تجاهل سطوة أمازون العالمية وتهديده لنظام البيع والشراء التقليدي، وهذا ما ينطلق منه الكاتب الفرنسي فانسانت شابولت VINCENT CHABAULT في كتابه الصادر حديثاً عن دار غاليمار الفرنسية بعنوان "رثاء للمتجر-ضد الأمازونايزاشين"، والذي يناقش فيه دور المتجر في "وجود" الفرد وعلاقته مع المحيط الاجتماعي، كما لا يحاول مهاجمة شركة أمازون، لأن لا جدوى من مراكمة الفضائح أو الإشارة إلى عيوبها الاقتصادية وأثرها السياسي، بل يرسم لنا خلال عشرين فصلاً لوحة نوستالجية عن دور المتاجر والأسواق في تكويننا الاجتماعي، في حنين إلى السلوك الاستهلاكي قبل عام 2000، الذي لا نتسوق فيه ونحن نجلس في بيوتنا، نشتري ما نريد بلمسة على الشاشة.

استراتيجية الالتهام

أثبت نموذج العمل الذي يتبناه أمازون قدرته على الازدهار خلال أزمة كورونا العالمية، فغياب المتجر من الفضاء العام والاعتماد على الاستعراض عبر الإنترنيت، جعل أسهم أمازون ترتفع خلال الأشهر الثلاثة الماضية بمقدار 26%، في حين أن المستهلكين أصبحوا أبعد عن السلعة، وملاصقين أكثر لهالتها الإعلانية والحكايات والصور الاصطناعية التي تقدمها. الإشكالية أن أمازون لا يهدد فقط المتاجر الصغيرة، بل يلتهم تلك التي تحاول أن توظفه كمنصة للتسويق، فأي متجر يحاول منافسة بضائع أمازون ضمن منصة البيع Amazon.com، يرى نفسه أمام تلاعب بنتائج البحث، بأسلوب يجعل منتجات أمازون تظهر في الصفحات الأولى، والخطوة الثانية التي يقوم بها المدراء التنفيذيون لجيف بيزوس، هي إما شراء المتجر ومنتجاته، أو تقديم منتجات مشابهة بأسعار أقل، فالهدف هو خلق المنافسة فقط بين المنتجات التي يمتلكها أمازون.

هذا "الالتهام" ينسحب على المتاجر بشكلها المادي، التي يشتريها أمازون ويحولها إلى مستودعات للتخزين أو نقاط للتوزيع. قبل الجائحة، 45% من المتاجر رفضت أن تضع منتجاتها على أمازون لبيعها، لكن مع إغلاق المتاجر هذا العدد في تناقص والمتاجر تباع، كون أمازون يلتهم كل ما هو مهدد بالإفلاس، لكن المثير للاهتمام أن أشد الانتقادات الموجهة لأمازون لا ترتبط بالهيمنة على السوق أو تهديد الأعمال الصغيرة، بل الحرمان من التواصل الشخصي مع الباعة، وهذا ما يشير له شابولت، فالمتجر جزء من تجربة التسوق وتتوطد علاقتنا معه ومع صاحبه عبر الزمن، خصوصاً أنه جزء من الفضاء العام، فعبر انتمائنا للمتجر في الحيّ ننتمي للمكان ونتمايز فيه عن المارة الغرباء، حتى لو عنى ذلك مجرد إلقاء السلام العابر على البائع.

المتجر فضاء للحوار

تُشكّل المتاجر واحدة من دعائم الفضاء العام، وتُسمّى بعض الأحياء والشوارع حسب وظائف المتاجر فيها: شارع الذهب، شارع الخضراوات، حارة النحّاسين، وغيرها من المهن التي ترسم هوية المكان، والتي تشكل المتاجر فيها مساحة للحوار تختلف درجة الحميمة فيه حسب طبيعة ما يشتريه الفرد، فالعبارات التي يرددها أمامنا البائع حين نشتري أو نتناقش معه حول سلعة ما جزء جوهري من خصوصية تجربة التسوّق، والتي ترسم عبر الزمن علاقة شديدة الشخصية مع البائع والمتجر، لا يمكن للشراء من الإنترنيت أن يخلقها. هناك أيضاً أسئلة خارج سياق عملية الشراء، كالتعرف على أوضاع الحي وهوية الجيران، الثرثرة والنميمة، التي تشكل مجموعة من المعارف التي تكون الفضاء الاجتماعي وترسم طبيعة العلاقات بين قاطنيه، خصوصاً أن أصحاب المتاجر هم المراقبون الدائمون لـ "الخارج" وما يحصل فيه، على تماس مباشر مع مكونات الفضاء العام وشهود على التغيرات فيه.

شكّل المتاجر والأسواق مساحات للتنزه، استعراض الذات واختبار "الخارج"، يمارس الفرد فيها الاختلاف عن الآخرين الغرباء كليّاً، ننتمي إثرها إلى من يشبهوننا ونبتعد عن المختلفين لأسباب اقتصادية بحتة

تشكّل المتاجر والأسواق مساحات للتنزه، استعراض الذات واختبار "الخارج"، يمارس الفرد فيها الاختلاف عن الآخرين الغرباء كليّاً، وعبرهم تُضبط علامات الطبقة والدور الاجتماعيين. هي مساحات ننتمي إثرها إلى من يشبهوننا ونبتعد عن المختلفين لأسباب اقتصادية بحتة. قد يظهر هذا الكلام غير ديمقراطي وشديد البرجوازية، لكنه ساهم في فترة ما برسم "علامات" الدور العلنية واختلاف كل فرد عن "الآخر". هذه العلامات ما زالت قائمة حتى الآن، كتقسيم الألوان، وردي للإناث وأزرق للذكور، والذي بدأ إثر حملة إعلانية لثياب الأطفال في الخمسينيات.

يختفي أقراننا والمختلفون عنا حين نتسوق عبر أمازون، كلنا نحصل على ذات العروض وخدمة التوصيل السريع مقابل الاشتراك الشهري، في حين أننا في المتجر وفي "المول" نتنزّه، نكتشف ونستعرض، بل ويشير شابولت إلى "الجو" داخل "المول" بوصفه مهرباً من الحر أو البرد في بعض الدول، هو أيضاً مكان للعب والتسلية، نختبر فيه أدواراً عدّة يتدخل رأس المال بدقة في رسمها، كما في متاجر أيكيا، المصممة لتعطي المشتري حسّاً بالأمان والتفرد في ذات الوقت، التطابق مع "الجميع".

لا ننكر أبداً سياسية تجربة التسوق نفسها، والتصميم الدقيق للفضاءات الاستهلاكية في سبيل أن نلاحق الفانتازم الفيتيشي المحيط بكل سلعة، لكن وعي الفرد بالثقافة "الاستهلاكية" يجعل تجربة التسوق أقل خطراً من نظام أمازون الذي "يحصد" البيانات ويخصص إعلانات شخصية لكل واحد منا، بناء على بصمته الرقمية. الأهم أن "التسوق" خارجاً يرتبط باستعداد نفسي وجسدي للشراء والانتقال إلى الفضاء العام، في حين أن لمسات الشاشة ورطت الكثيرين بشراء ترّهات وسخافات لا يحتاجونها، ككأس يحرك السكّر لوحده، صحن سجائر ذي أضواء، وغيرها من التفاهات التي نعلم بدقة أنها ستنتهي في زاوية ما، كونها تتعطل بعد أول استخدام.

لا مزيد من التنزّه

الاعتماد التام على أمازون وإغلاق المتاجر في ظل حالة الطوارئ الصحية، هدد واحداً من أكثر الأنشطة الثقافية إمتاعاً، ألا وهو التنزه Flâner، وخصوصية هذا "الأداء" تكمن بأنه نشاط علني ضمن المدينة، إذ يستعرض الأفراد أمام واجهات المحلات ثيابهم وطبقتهم، فالمتنزه يحدّق بذاته وبما ترتديه المانيكانات ليخلق الاختلاف عن السائد والمتداول، فواجهة المتجر تحوي علامات المعاصرة والانتماء إلى الزمن الاستهلاكي، نختلف عنها أو نتبنّاها، بل أن انعكاس الجسد على زجاج الواجهة واحد من أبرز محطات سير المتنزّه، الذي يستهلك هالة ما يراه ويحدد موقفه منه، لكن في ظل ما يحدث الآن، المتنزه حبيس منزله، وإن خرج فلا واجهات يرى فيها هيئته.

التنزه والتسكع جزء من الحق في المدينة، واجهة المتجر هي انعكاس للمتخيل الذي يمتلكه المتنزه وسكان المدن عن ذواتهم، لا تتطابق صورة المتنزه مع المانيكان في الواجهة، بل تبقى ضبابية، لكن هناك إحساساً بالرضا البرجوازي يترافق مع التنزه، سواء اشترى الفرد أو لم يشتر. هو مستهلك لرموز المدينة، خصوصاً أن هناك من يحدق به أثناء تحديقه بالواجهة، بعكس الشراء من أمازون، كل العملية غير شخصية، لا أقران وأشباه للاختلاف عنهم، لا مارّة للتباهي أمامهم بـ"الجديد" في حال شرائه، مجرد صور لعارضات وعارضي أزياء يشكل جسدهم السلعة أكثر من السلعة نفسها، و كأننا نشتري شكلهم لا الثياب التي عليهم.

الأهم أن "الجديد" ضمن متاجر أمازون مرتبط بكل فرد على حدة، تاريخ التسوق الفردي الذي يقوم به المستخدم يغير من طبيعة المتاجر والخيارات التي تظهر له حين يبحث عن سلعة ما، بعكس المتجر، ذي الكيان المستقل والمنفصل، فالواجهة ترتبط بالـ"تريند" العام وسلطة السوق، لا كحالة أمازون، حيث الخيارات شديدة الشخصية ومناسبة جداً للفرد حد الفزع، كما أنه من الصعب التحرر منها ومن الخوارزمية التي تضبط ترتيب السلع، ففي أمازون "نحن" وتاريخ التسوق الخاص بنا نمثل السلعة، بعكس المتجر، حيث نحن المستهلكين وأصحاب القرار النهائي.

خسرنا في الحجر الصحي واحدا من أكثر الأنشطة الاجتماعية إمتاعا... التنزه أمام واجهات المحلات... حرمنا أمازون من أن نسوح في الأسواق كزائري متاحف

أن تتسوق كزائر متحف

حرمنا أمازون من أن "نسوح" في الأسواق، هذا النشاط الذي أدركت الكثير من "المتاجر" أهميته وراهنت عليه، ولا نتحدث فقط عن متاجر منتجات الـ"LUX"، بل تلك التي تبيع ما يمكن أيضاً شراؤه من أمازون، كأن نزور محل "نيسبريسو" الهائل في باريس القريب من بناء الأوبرا، لشراء كبسولات القهوة، التي لا يتجاوز ثمنها ال 20 يورو و تكفي لشهرين. دخول المتجر أشبه بالسياحة، نظافة مفرطة، أناقة، تذوق لكل ما هو موجود، موظفين مستعدين للإجابة على أي سؤال، ويمكن أيضاً عدم شراء أي شيء. ذات الأمر إن أردنا الذهاب إلى متجر كريستيان لو بوتان، الشهير بأحذيته ذات النعال الحمراء، إذ نرى أنفسنا ندخل مساحة تُستعرض فيها الأحذية ذات الكعوب العالية جداً. موظفون متعجرفون أحياناً بسبب إدراكهم لطبيعة ما يبيعونه، هم يقدمون تجربة للمشتري ومكانة اجتماعية لا مُجرد مُنتج، حتى لو انتهى الأمر بشراء طلاء أظافر، إذ يترافق ما نشتريه مع حكاية، وكأن الفرد/المستهلك حضر عرض فن أداء اكتساب معارف من بعده، أو كسائح يكتشف المكان ويختبر تفاصيل لا توفرها له لمسة زر "اشتر الآن".

دخول متاجر الـLUX حالياً أشبه بزيارة المتحف: نظافة مفرطة، أناقة، أقنعة، تباعد اجتماعي، موظفون مستعدون للإجابة على أي سؤال، ويمكن أيضاً عدم شراء أي شيء، خصوصاً أن تجريب الثياب في المتاجر تلاشى، ولا عينات متاحة للاستخدام، وبعض المحلات ترسل ما تمّ شراؤه للزبون بعد 24 ساعة كي يتم تعقيمه، لكن الصيغة الأكثر "إمتاعاً" هي المواعيد الشخصية التي قدمتها بعض العلامات التجارية، كديور، حيث يمكن للزبائن أخذ مواعيد شخصيّة للتسوق مع أحد الموظفين هناك، الذي يقوم بلمس كل ما في المحل، ويقدم عينات مجانية ومتفردة للزبون لاختبارها قبل شرائها.

استعراض المهارة والغواية

نختبر في السوق والمتجر غواية البيع والشراء، ونشهد على استعراض المهارة التي "يؤدي" إثرها البائع وهو يخبرنا ما يمكن لـ "السلعة" أن تقوم به، ونقصد أولئك الباعة الاستعراضيين الذي يؤدون بشكل كامل أمام الجمهور كيفية عمل قشارة بطاطا، أو تقنية استخدام سكيّن متعددة الوظائف. صحيح أن يوتيوب وقنوات البيع المتلفزة حلت محل هذه العروض، لكن هذه "الاستعراضات" كانت جزءاً من تجربة التسوق. البعض يقتنع بـ"المهارة" ويشتري، والبعض الآخر يكتشف "الخدعة" و يتعالى على المُنتج ومن يبيعه. الأهم، أن ديمقراطية البيع، أي إمكانية أي شخص أن يتحول إلى بائع أو خبير، حرمت الكثيرين منا من متعة الاكتشاف والتجريب والاختبار، مئات الفيديوهات والتعليقات التي تشرح خصائص كل منتج وتعقيداته. لا ننفي أبداً أهمية هذه التقنيات التي هي فعلاً مفيدة، لكن، كان هناك حوار ونصائح متبادلة مع المشترين الآخرين الموجودين في ذات المكان، كنا نختبر، ولو بصورة رومانسية، علاقة بشرية لحظية لا نعلم كيف يمكن أن تتطور.

يظهر الكتاب بوصفه أشبه بإنذار للمشترين، وإشارة إلى مستقبل ديستوبي يتربع جيف بيزوس على قمة هرمه، خصوصاً أن المتاجر شيئاً فشيئاً تستبدل البشر بالآلات، وتجربة التسوق تتضاءل حتى في السوبر ماركت، فمهمة الموظف هو دلّنا على مكان السلع لا تعريفنا عليها. فعلياً، الكثير من الموظفين لا يعلمون شيئاً عن الموجود في المتجر، كحالة المشتري نفسه الذي يعتمد على الإعلان أو التجربة السابقة حين يقوم بالتسوق.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image