صراع التصوّرات نتيجة الصدمة الفنّيّة الموضوعاتيّة من الغايات المرجوّة لأي مُنجز فنّي سينمائيّ. فتقنية نزع الألفة عمّا هو مقبول، وخلق حالة من التغريب لدى الذات لتوليد التناقضات، فتعيد النظر في مسلّماتها. هذا تماماً ما كان وراء الابتكار في التوليف بين الشكل الروائي التخييلي والموضوع التسجيلي الواقعي للتعبير عن هموم شخصيات- أو ناس- هذا النوع من الأفلام الذي وجد مكاناً له في قاموس التصنيفات تحت مسمّى "الأفلام العابرة للنوع" أو "الأفلام الهجينة"، وأفضّل –شخصيّاً- تسمية "الأفلام البَينيّة".
لا يأتي التنظير في التجنيس، على الأغلب الأعمّ، إلا بعد إطلاق نماذج تخرج عمّا هو متداول لتثير الجدل. فالفكر الإبداعي يبحث دائماً عمّا هو خارج الصندوق. كيف لا والسينما تكرّست صناعةً وتطوّرت نتيجة التجريب المستمرّ؟
شاهدوا الفيلم، ثم احكموا عليه!
ثمة رؤية للمخرج تحكم عمله وتحدّد خياراته. فهدم الحدود الفاصلة بين ما هو تسجيلي وما هو تخييلي خيار فنّي. والمشاهدون ليس واحداً في التلقّي والقناعة؛ فئة غالباً ما تنطلق من موروثات باتت مسلّمات برفضها وجودَ مناطق رماديّة وحدود مائلة، وتخطّي الأجناس، وشريحة أخرى تجاوزت الأسئلة التصنيفيّة والأحكام النمطيّة وفق معايير لا تقبل أيّ حقيقة خارجها.
لا يأتي التنظير في التجنيس، على الأغلب الأعمّ، إلا بعد إطلاق نماذج تخرج عمّا هو متداول لتثير الجدل. فالفكر الإبداعي يبحث دائماً عمّا هو خارج الصندوق. كيف لا، والسينما تكرّست صناعةً وتطوّرت نتيجة التجريب المستمرّ؟
كان أسلوب الدمج بتقديم مضمون توثيقي في قالب روائيّ، يجعل الالتباس ينسحب إلى مشاهدين مترقّبين، طوال مدة العرض، إشارةً تدحض شكوكهم وتثبت حدوسهم في ما يتوقّعونه من تصنيف للفيلم، أتسجيلي أم روائيّ؟ بغير الالتفات إلى ما تحقّقه المشاهدة من متعة. حدث ذلك الجدل بين أنصار الحدود القارّة في التصنيف من جهة، ومن يرون الجَمال في الابتكار بغير أفكار تنظيريّة مسبقة من جهة أخرى، في أثناء عرض فيلم "الحلم البعيد" (85 دقيقة، إخراج المصري مروان عمارة والألمانية يوهانا دومكه، مهرجان الأقصر للسينما الأفريقيّة، 2019 برئاسة السيناريست سيّد فؤاد).
لـمروان عمارة رأي في الفيلم الهجين، أُدرج في المنشور الصادر عن مهرجان الإسماعيليّة الدولي للأفلام الوثائقيّة والقصيرة (الدورة 24، 2023، برئاسة الناقد عصام زكريا)، حيث يقول إنّ هذه الأفلام العابرة تحاول سدّ الفجوة التي فصلت بين الروائي والوثائقي لزمن طويل. وتستخدم تقنيّات سينمائيّة من كلا الجانبين لإنشاء سرد فريد. وبذلك تقدّم مجموعة واسعة من الحلول الإبداعيّة لصنّاع الأفلام.
فتستخدم مثلاً العناصر الروائيّة على القصص الشخصيّة كوسيلة للتعبير عن عدم موثوقيّة الذاكرة، أو عن إحساس ما، وربما لتفكيك شكل شاعريّ أو وهم السرد السينمائي، ولخلق عالم سينمائي واقعي سحري. ولم تفت المُخرج الشاب (عمارة) الإشارة إلى وجهة مهمّة من الحلول الإبداعية للفيلم الهجين بتقنياته التفكيكيّة في إيجاد مَخرج للتلاعب مع الرقابة والسيطرة السياسيّة وما تمارسه السلطات من تضييق على الحريّات.
نحن عابرون وأفلامنا تشبهنا
الباحث وصانع الأفلام الأيرلندي الإسكتلندي مارك كازينز يؤيّد بشدّة الأفلام الهجينة، ويقول إنّنا نحن أنفسنا –كَبَشر- عابرون (في المستوى الجندري) مشيراً إلى تجربته الخاصة. وفي ندوة له أقامها مهرجان الإسماعيلية، وقد كان من ضمن الأسماء المحتفى بها في هذه الدورة، أعرب عن تأثّره بيوسف شاهين، ويرى أنّ في أفلام هذا الأخير ملامحَ من الهُجنة، فيبدو بعضها كأفلام هوليوود.
وإذ يتحدّث عن تجربته مع الأفلام والمخرجين وتاريخ السينما، يقدّم مثالاً حيّاً عن الفيلم العابر- بقصديّة ما أو ربما لا- باستخدام تقنية السرد الحيّ أمام الجمهور في قراءته صوراً معروضة على الشاشة بتتابع، يروي قصته مع السينما وتطوّره في اختياراته وتجاربه. كأننا أمام عرض أداء، أو مسرح يعتمد في خلفيته تقنيات تكنولوجيّة، بحيث أنّ الراوي هو كازينز صاحب التجربة.
أرى في ذلك بعض الشّبه مع مفهوم "التسارد" في الفنّ الروائي، حين يتأمّل النص نفسه من خلال إمكاناته الذاتيّة، وحين يُقحم صوت المؤلّف الذي يفكّر في ما يرويه ويستدعي قارئاً يشاركه أفكاره، أي حين تتحدّث الرواية عن نفسها، تماماً كما يتحدّث صانع الفيلم في فيلمه عن تجربته في التخطيط والخطوات والطموحات والغايات.
ليست الأفلام التسجيليّة بالنسبة إلى صنّاعها، مرحلة تعقبها مرحلة أخرى للأفلام الروائيّة، يتابع كازينز، وهي أيضاً ليست واحدة، بل متنوعّة الاتجاهات والتقنيات، وتتطلّب مهارة وإمكانات لجعل مشاهدي هذا النوع من الأفلام يستمتعون، لا سيّما إذا كان الحبّ هو الدافع والرسالة في العمل، وتعبيراً عمّا هو حولنا، ودائماً ثمة أشياء مميزة تجذبنا وتثير فضولنا، فنلتقطها ونعبّر عنها بصريّاً.
يتنامى الاحتفاء بالفيلم العابر للنوع (Hybrid) ، وقد كان له حيّز من الاهتمام في مهرجان الإسماعيليّة، من خلال ترميم فيلم مصري من الكلاسيكيّات: "وصيّة رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم" (21 د، 1976، إخراج داود عبد السيّد)، وعرضه، فضلاً عن أربعة أفلام من دول عربيّة أخرى، هي: الفيلم اللبناني "ثمانية وعشرون ليلاً وبيت من الشعر" (120 د، 2015، إخراج أكرم زعتري)، والفيلم السوري "الدجاج" (40 د، 1977، إخراج عمر أميرلاي)، والفيلم الفلسطيني "اصطياد الأشباح" (93 د، 2017، إخراج رائد أندوني)، والفيلم المغربي-البربري "أموسو" (139 د، 2019، إخراج نادر بوحموش).
التناقض الظاهري… هوامش على فيلم "وصية رجل حكيم..."
فيلم داود عبد السيّد متاح عبر يوتيوب بنسخته غير المرمّمة، والإشارة الأهمّ إلى أنّ هذا المخرج سبق زمنه بعقود في ابتكار توليفة معتمداً على صوت راوٍ يعلّق برفض وتهكّم وتهجّم، في مفارقة ساخرة و"تناقض ظاهري بلاغي"، على ما يقوله أبناء القرية وأساتذتها وما يفعلونه ويرغبون فيه، وذلك في فيلم تسجيلي يوثّق لمرحلة إدخال التعليم المجّاني إلى الريف المصري، وما أحدثه من تغيّرات إيجابيّة بطبيعة الحال في بنية المجتمع وذهنيّته. ومستخدماً تقنيات الغرافيك ولوحات للفنان فخري الليثي معبّرة عن صوت الراوي (الممثل جميل راتب) داخل الفيلم.
المفارقات الساخرة، وإن كان استخدامها ملحوظاً في التاريخ الثقافي المبكر، فهي من السمات ما بعد حداثيّة. بالإمكان وصف صوت الراوي في فيلم عبد السيّد بالعبارة الموجزة "الأحمق الحكيم". هذه الصيغة البلاغيّة للتناقض اللفظي أسلوب وشكل من أشكال الفكر يرمي إلى إثارة عجب المشاهدين وحيرتهم بمفاجأتهم ودفعهم للتأمّل حين يدافع الراوي عن الجهل، أو عن أي أمر غير جدير بالثناء.
بالعودة إلى تقاليد أدبيّة تعتمد المفارقات الساخرة والتناقض الظاهري تطالعنا بعض العناوين على غرار "في مدح ذبابة" (لوسيان من ساموساتا، القرن الثاني الميلادي)، وقبله جاء دفاع الإغريقي إسوكريتس عن ثيرسايتس، وهو جندي فاحش السلوك في الجيش اليوناني أثناء حرب طروادة. كما أن سقراط اعتمد النمط المنطقي في التناقض الظاهري في "محاورة بارمنيدس". ومع الحركة الإنسانيّة في عصر النهضة يتبدّى هذا الأسلوب في كتاب "مديح الحمق" لإيراسموس، وفي مقالات مونتين. أمّا في ثقافتنا العربية فقد برّز الجاحظ في هذا الأسلوب في مديحه البخلَ والبخلاء.
شعريّة الفيلم العابر… "ثمانية وعشرون ليلاً وبيت من الشعر"
يرصد هذا الفيلم تطور تقنيات نقل الصورة والصوت وأدواته، وحفظ الذاكرة الشخصيّة والجماعيّة. ومع هذا التطوّر نكتشف كم تغّير المجتمع اللبناني في ممارساته. الجزء التسجيلي منه يرتكز على ما يفصح عنه المصوّر الفوتوغرافي الصيداوي (نسبة إلى مدينة صيدا في الجنوب اللبناني) هاشم مدني الذي يشد مشاهد الفيلم ومقاطعه، فهو الخيط الرابط في عودة متقطّعة إليه وإلى استوديو "شهرزاد" الذي أسّسه، بصوره الفوتوغرافية الملتقطة في زمن يرجع إلى منتصف القرن العشرين.
القاعدة الفنيّة (الجمالية أو الشعريّة) تفترض أن يكون لكل محتوى معادل فنّي يناسبه ويتكافأ مع دلالاته. فالبحث في الذاكرة الشخصيّة وذاكرة الأمكنة محرّكه اثنان: النوستالجيا والمعرفة، وغايته الفهم والتأمّل، ولتحقيق ذلك ثمة الكثير من الحميميّة ومن الأركيولوجيا. لكنّها ليست أركيولوجيا/حفر في المكان بل في وضع نيجاتيف صور ثبّتت الزمن (فوتوغرافيّة) وجمّدته تحت المجهر، وأخرى متحرّكة تعبّر عن سيلان الزمن وجريان الأحداث. هذا تماما ما أظهره كلّ من المصوّر هاشم مدني بغير قصد منه، كأن يكون مؤرّخاً بصريّاً للمجتمع اللبناني في حقب مختلفة من سِلم وحروب، والمخرج أكرم زعتري، وهو من مؤسّسي "مؤسسة الصورة العربيّة" في بيروت.
وفي تعريف "للفيديو آرت" الذي صنع منه زعتري توليفة في حواره مع المصوّر، أنّه دمج للصورة والحركة مع التوثيق بفضل تكنولوجيا الصورة والفيديو في تكاملهما مع الكاميرا والتلفزيون والسينما، فضلاً عن الأداء والمؤثرات والأجهزة التقنيّة الرقميّة وباعتماد المونتاج لكل ذلك. يعود المخرج بنا، إلى أغاني الطفولة المصوّرة بالأبيض أسود (هو التعبير الأدقّ، وليس بالأبيض والأسود) مثل أغاني فؤاد المهندس وعبد الحليم حافظ وصباح.
كان أسلوب الدمج بتقديم مضمون توثيقي في قالب روائيّ، يجعل الالتباس ينسحب إلى مشاهد مترقّب طوال مدة العرض إشارة تدحض شكّه وتثبت حدسه في ما يتوقّعه من تصنيف للفيلم، أتسجيلي أم روائيّ؟
قام بترسيخ فكرة التهجين بوضعه كادرين أو أكثر لأغاني راغب علامة في أول إصداراتها مقابل حفلة منقولة للأغنية نفسها عبر الفضائيّات في وقت قريب. وبالمثل ركّب أغنية لمايكل جاكسون في خلفية فيديو يصوّر اللعب بالثلج، أو على مارش عسكري في مشهد آخر. كما عرض دويتو لملحم بركات وجورجيت صايغ لأغنية "بِلغي كل مواعيدي" مع مشهد للدويتو نفسه يؤديه رامي عياش وهيفاء وهبي.
أراد أن يرينا زعتري أنّ الذاكرة أصبحت مرئيّة وملموسة في استعادة قد لا تتطلب منا سوى نقرة على مفتاح، وأنّ العالم بات بين أيدينا، وأنّ الموسيقى ثقافة حياة تنعش النبات وتزكيه، ليختم فيلمه بمشهد لوجهين (له وللمصوّر مَدني) يتابعان حدثاً ما على شاشة لابتوب مع خلفيّة لصوت آهات ملحم بركات (من أغنيته "على بابي واقف قمرين") في مَسْرحةٍ ملحوظة بنقل عالم الديسكو وإيقاعاته وإضاءاته إلى هذا الحيّز الضيق من الأستوديو.
ينقل الفيلم التسجيلي دراما الواقع إلى الدراما الفنيّة، بغير استنساخ للواقع كي يحقّق غايته الفنيّة من طريق اللعب بالصوت والصورة والكادر والمَنتَجة. كل ذلك لإضفاء نزعة درامية على ما هو واقعي، وفق قول المخرج السوري الراحل عمر أميرلاي، أو للتعبير عن موقف درامي؛ ففي الفيلم التسجيلي نزع قناع بينما ثمة تركيب قناع في الفيلم الروائي. ليتركنا الفيلم الهجين -في بَينيّته تلك- مع لعبة المرايا والأقنعة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين