تستهويني مراقبة الوجوه واستراق السمع لأحاديث جانبية، بخاصة في الأماكن المكتظة. وازدادت لدي هذه الرغبة بعد هجرتي الى أمريكا، لعل وعسى طاولة بقربي ينطق أحد الذين يجلسون حولها بكلمة أعرفها جيداً، فأبتسم.
قرار الهجرة جاء بغتة، بدون تفكير عميق، هو وليد لحظة كان لا بد منها، هو لا يشبه الاغتراب، الذي ينتهي دائماً مع العودة إلى الوطن.
لكن في حالتنا فكرة الوطن بذاتها واقترانها بحق العودة، تجعل من الهجرة القرار الأسلم مهما كانت الوجهة. المهم أن تكون في مكان، حتى لو اختلفت معه لا يخنق صوتك ولا يجعلك تخلق عادة مسح أي منشور على السوشال ميديا بسبب ترددك وخوفك. في تلك اللحظة الوليدة لهذا القرار المفصلي، كان وجه ابني الذي يكبر هو المحرك. ببساطة أريده حراً، منطلقاً، واثقاً بقوانين بلاد لا تحد من التعبير عن آرائه، ولا تجعله يواجه سؤالاً إذا كان من أهل البلد أو من أصول أخرى، ولا يجرؤ أحد بوصمه بكلمة وافد جاء ليستولي على رزق أهل البلاد، ولا يخاف من شتم رئيس، أو الشكوى على مديره في العمل، ورفع قضية لنيل مستحقاته.
في حالتنا فكرة الوطن بذاتها واقترانها بحق العودة، تجعل من الهجرة القرار الأسلم مهما كانت الوجهة
أمور بسيطة تندرج تحت مصطلح "الحق". أردت وأنا أنظر إلى ابني أن أعيش لحظات مثل هذه، أشعر من خلالها بخفة، وأن أمشي في شوارع مكتظة يبتسم الجميع فيها لك مرحباً.
كنت حريصة منذ لحظة وصولي أمريكا على أن أبني علاقة مع "سان أنتونيو" وهي مدينة في ولاية تكساس، بنيت علاقتي بها من خلال المشي الكثير في شوارعها، وزيارة مقاهيها وحاناتها، والتعرف على أناسها عن قرب وعن بعد، منهم من ظل في دائرة معارفي ومنهم من خرج. فترة زمنية لم تصل بعد إلى العام والنصف، كانت كفيلة بأن أرد على أي سائل: "كيف هي أمريكا؟ أو كيف هي بلاد الإمبريالية؟ "...
"تخيلوا طلعت حنونة أكتر من بلاد العرب أوطاني" ونضحك، ونعلم تماماً معنى هذه الضحكة.
أرد على أي سائل: "كيف هي أمريكا؟ أو كيف هي بلاد الإمبريالية؟ "...
فأقول: "تخيلوا طلعت حنونة أكثر من بلاد العرب أوطاني"
الضحكة التي فيها غصة، جاءت هذه المرة من خلال تصفيق حار من قبل مجموعة كبيرة من طلبة جامعة UTSA التي تعتبر من أهم الجامعات في مدينة سان أنتونيو في ولاية تكساس، حيث نظم نادي MENA التابع للجامعة جلسة ضمت طلاباً من أصول عربية، كان التصفيق حينها بسبب شاب نطق بكلمة عربية بالرغم من عدم إتقانه اللغة، حسب أصدقائه.
تصفيق حاد ارتفع معه ضخ الدم في عروقي، باحتفاء مجموعة من الطلبة بهذه الكلمة، التي فتحت نقاشاً بينهم حول من أفضلهم في التحدث أو من يعرف كلمات أكثر بالعربية، ما أجملهم وما أجمل هذا الانتماء غير المباشر الى بلاد اعتاد مواطنوها الهجرة، بلاد لم تحكمها إلا أنظمة ديكتاتورية أو عانت ويلات الاحتلال والحروب والفساد، لا تتناسب وضحكاتهم التي لن يصل صداها بسبب بعد المسافة.
وبما أنني أنتمي إلى عالم السينما ومشاهدة الأفلام ، قررت التلصص على وجوههم، ونسج سيناريوهات عنهم، ولا ضرر من أحاديث عابرة معهم لإضفاء بعض الصدقية. فهذا الشاب يدرس الطب كزميلته التي قررت أن تتخصص بالجراحة في المستقبل، وآخرون يدرسون الهندسة، والتقيت طالبة تدرس علم النفس. أثناء حديثي معها جاءني سؤال مباغت من صبية أخرى: "هل تعرفين الدبكة؟ نحتاج إلى من يعلمنا إياها". فوافقت.
أنظر اليهم، أنا التي عمرها يزيد أعمارهم نحو الضعفين، وهم يجلسون حول طاولة مستطيلة، يتبادلون الأحاديث المنوعة، ويتناقلون آخر الأخبار التي سمعوها من بلادهم، يتفقون على فعاليات قادمة، ويضحكون كثيراً، فلسطين تحضر بملامحهم، وسوريا ولبنان، ومصر والسودان واليمن، يتحولون فجأة بنظري الى أعلام، حددتها لهجاتهم من خلال كلمات عربية تخرج بدون مقدمات. فلم أتوقع أن أسمع "هسع" من فم صبية هنا، وجملة "يا زول" التي خرجت فجأة، لتتبعها كلمة "يا دلي"، وأغنية "عبرت الشط" تصدح بالمكان بصوت كاظم الساهر.
لم أتوقع أن أسمع "هسع" من فم صبية هنا، وجملة "يا زول" التي خرجت فجأة، لتتبعها كلمة "يا دلّي"، وأغنية "عبرت الشط" تصدح بالمكان بصوت كاظم الساهر
تأملت وجوهم، فلمست الراحة في ما بينهم، من خلال لغة أجسادهم، وطريقة جلوسهم، وأصواتهم.
يجلسون متلاصقين دون خوف من أحكام مسبقة، فما يجمعهم أكثر بكثير مما يفرقهم، تجمعهم الجنسية الواحدة "الأمريكية"، واللغة الأصلية الواحدة "العربية"، والملامح الواحدة أيضاً، فالحلم العربي تجسد فعلاً على هذه الطاولة المستطيلة، التي جعلتني أنظر الى الطاولات الأخرى في المكان، وصوت النرد يظهر من حين الى آخر، وقرقعة ماء النارجيلة، وصوت من قام بالسلام على صاحبه بصوت عال سائلاً: "اطمنت على أهلك بنابلس".
هؤلاء الطلبة الذين يدرسون الطب والهندسة والقانون وعلم النفس، جيل المستقبل القادم، يعيشون بعيداً عن أوطانهم التي لا يعرفونها إلا من خلال بضع زيارات، ها هم يصفقون لزميلهم الذي نطق بكلمة عربية، ويريدون تعلم الدبكة، هؤلاء هم الوطن والانتماء له ليس أكثر من المعنى المفترض أن يكون للأوطان. كما قال غسان كنفاني في روايته "عائد الى حيفا":
"إنه لا يعرف المزهرية، ولا الصورة ، ولا السلم ولا الحليصة، ومع ذلك فهي بالنسبة له جديرة بأن يحمل المرء السلاح ويموت في سبيلها، وبالنسبة لنا، أنت وأنا، مجرد
تفتيش عن شيء تحت غبار الذاكرة، وانظري ماذا وجدنا تحت ذلك الغبار
أن تشكر/ي نفسك هو محطة مهمة كي تطبطب/ي على قلبك، وتثق/ي بقرار تم اتخاذه فجأة، وفي حالتي كان قرار الهجرة.
غباراً جديداً أيضاً. لقد أخطأنا حين اعتبرنا أن الوطن هو الماضي فقط، أما خالد فالوطن عنده هو المستقبل، وهكذا كان الافتراق".
أحببت المشهد مع الطلبة إذ عثرت عليه صدفة بمقهى يعود الى عائلة من أصول عراقية، وعدت الى منزلي وقبلت ابني، وحضنت زوجي، وقصدت غرفتي ووقفت أمام مرآتي وقلت: "شكرا". فأن تشكر/ي نفسك هو محطة مهمة كي تطبطب/ي على قلبك، وتثق/ي بقرار تم اتخاذه فجأة، وفي حالتي كان قرار الهجرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.