سوف تعتادين البرد. جملةٌ سمعتها كثيراً في بداية إقامتي هنا ولم أعرف معناها الحقيقي إلا بعد حين، عندما أدركت أن البرد الذي يقصدونه لا يقتصر فقط على حالة الطقس وإنما يتسّع ليشمل مختلف أشكال الحياة من حولي وعلى وجه الخصوص الحياة الاجتماعية.
وصلت إلى كندا مع بدايات شهر نيسان وكان في طليعة من استقبلني مفارقةٌ بحجم صدمةٍ حرارية جعلت قلبي ينكمش في صدري لم أعلم إن كان بسبب البرد أم الخوف أم أنه الغضب الكامن في داخلي بسبب لعبة الأقدار؟
تركت خلفي الربيع السوري وجئت بقدمّي إلى شتاءٍ كنديٍ طويلٍ لا ينتهي وليس لي عهدٌ به من قبل.
فقد تركت خلفي الربيع السوري وجئت بقدمّي إلى شتاءٍ كنديٍ طويلٍ لا ينتهي وليس لي عهدٌ به من قبل.
حاولت أن أطمئن نفسي بوجود أقارب لي قد سبقوني إلى كندا بسنوات، وهم في الوقت نفسه كفلائي والمسؤولون عني لمدّة سنةٍ كاملة.
ظننت أنني سأجد لديهم دفئاً مشابهاً لما اعتدته مع عائلتي وأنهم سوف يعوضونني عن ذلك البعد الاضطراري، لكن كان أولُّ ما واجهته منهم هو أن استنكروا إحساسي بالقلق واستهجنوا حزني بل حتى أنّهم أنكروا عليّ حقّ التعبيرعن مخاوفي، وكأنهم لم يعيشوا لحظة الوصول نفسها يوماً من الأيام وربما تناسوا كيف يكون ذلك الشعور؟
أكاد أجزم أن مفهوم الكفالة بالنسبة لهم قد توقّف عند حدّ المساعدة بشكلها المادي أي تأمين السكن والعمل والأكل والشرب، دون اهتمامٍ بجانبها المعنوي بل إن أبحاثاً اجتماعية قرأتها وشاركت تجربتي مع البعض منها وقصصاً واقعية سمعتها من لاجئين مثلي قد أكّدت لي أنّ عدداً كبيراً من الكفلاء يمارسون ضغطاً نفسياً إضافياً على اللاجئين من باب أنهم قد تكرموا علينا بإحضارنا الى كندا و كأن كندا قد قبلت بنا (كرمال سواد عيونهن )، وقد كان الضغط النفسي من كفلائي مضاعفاً بسبب صلة القربى التي لم تعطهم سبباً كافياً لمراعاتي وأنا القادمةُ من بلادٍ عانت من الحرب لعشر سنوات، تاركةً أهلي هناك، ولا أعلم أيَّ مستقبلٍ ينتظرني في هذه البلاد البعيدة، ناهيكم عن الآثارِ الجسيمة التي تركتها الحرب في نفسي.
عدد كبير من الكفلاء يمارسون ضغطاً نفسياً إضافياً على اللاجئين من باب أنهم قد تكرموا علينا بإحضارنا الى كَندا، و كأن كَندا قد قبلت بنا (كرمال سواد عيونهن)
وبينما أنتظر منهم أن يدركوا ذلك فيخففوا من وطئة شعوري بالوحدة والوحشة، جاءني السؤال عن احتياجاتي النفسية من قِبل المشرفة الاجتماعية التي تعمل في المركز الصحي.
تلك الكندية التي لا تعرفني من قبل ولا تعرف شيئاً عن عائلتي ولم تزر بلدي يومآ ، وكان جلُّ ما تعرفه أن حرباً قد قامت هناك وكان نتيجتها جلوسي أمامها عاجزةً كل العجزعن إيجاد الكلمات المناسبة بلغةٍ لم أكن قد أتقنتها بعد للإجابة على أسئلتها، كان غريباً أن أرتجي فهمي من تلك الغريبة عنّي بعد فشلي مع أبناء جلدتي .
لم تسألني إن كنت قلقة؟ بل سألتني إلى أيّ مدى أشعر بالقلق!
كانت تعرف أنني أشتاق لعائلتي واهتمّت بالتأكد من أن تواصلي معهم غير وسائل التواصل الاجتماعي يعوّضني بعضاً من ذاك الإشتياق، كانت واثقةً من كوني خائفة فقالت لي:"نحن معك وسوف نرشدك إلى ما يساعدك على الاندماج والاستقرار في وطنك الجديد".
أما أكثر ما أضحكني هو اعتمادها على وجود أقارب ومعارف لي هنا واعتقادها بأنهم سوف يساعدونني في تجاوز الصدمات الأولى التي من الطبيعي أن يتعرض لها أي مهاجر.
خطر في بالي حينها أن أجيبها بما قالته فيروز:"لا في صحاب ولا جيران". هذه الجملة التي لم ألق لها بالاً عندما سمعتها للمرة الأولى لكنني كثيراً ما تذكرتها وأنا أعيشها فعليّاً لفترةٍ ليست بالوجيزة. وخاصّةً في سنة الغربة الأولى حيث لم ألتق بأقاربي إلا بضع مرّات اضطررت فيها للتخلّي عن ذاكرتي كي لا ازعجهم بحديثي عن الوطن والأهل ووجدت راحتي في الابتعاد عنهم، علاوةً على ذلك لم يطرق باب بيتي إلا جارة واحدة فقط و للصدفة كانت ذات أصل عربي.
قالت فيروز: "لا في صحاب ولا جيران". هذه الجملة التي لم ألق لها بالاً عندما سمعتها للمرة الأولى، أعيشها الآن فعليّاً لفترةٍ ليست بالوجيزة.
كان شعوري بالوحدة حينها في أقصى درجاته وكذلك بالبرد رغم أن الصيف كان قد بدأ بالفعل، وقد تتساءلون كيف لهذا الشعور أن يتسلّل إليّ وأنا في بلدٍ تستقطب أكبر عددٍ من المهاجرين من كافة أنحاء العالم؟
في الواقع كنت أشعر به كلّما فشلت في إيجاد ما يتشابه ولو قليلاً مع ما ألفته لسنوات حيث كانت حواسي الخمس وكأنها في حالة استنفار تبحث عمّا اعتادته ، بيد أن الوجوه التي قابلتها بدت مختلفة ومتلوّنة ورغم ألوانها المتعدّدة إلا أن شحوباً واضحاً بدا على محيّاها، بينما سمعت أصواتاً غريبةً وغير مألوفة تنطق بكلماتٍ جديدة وغير مفهومة لم أستطع أن أميّز من خلالها إلا مشاعر الحذر مني.
أما الروائح فهي لا تشبه شيئاً مما أعرف ولا زلت أعاني منها حتى اليوم، ولا زال الأمر يختلط عليّ بين رائحة الماريوانا و تلك التي يطلقها الظربان، وكل ما تذوقته من أطعمة أعرفها لا يملك نفس النكهة أو الطعم فكيف بالرائحة!!
وحدها يدُ ابنتي الصغيرة بقيت كما أعرفها تشعرني بالاطمئنان و الدفء و هي متشبّثةٌ بي و نحن نسير تائهتين في شوارع لا نعرف أسماءها
وحدها يدُ ابنتي الصغيرة بقيت كما أعرفها تشعرني بالاطمئنان و الدفء وهي متشبّثةٌ بي ونحن نسير تائهتين في شوارع لا نعرف أسماءها ونكتشف بلاد العجائب تلك، نعيش مغامرة الاعتياد والتأقلم ابتداءً من بيتنا الصغير وصولاً إلى ما حوله من مدى .
ذلك البيت الذي لم يكن يوماً ضمن مخططاتي المستقبلية، وما كان حتى ضرباً من ضروب مخيلتي، ولكنه كان كذلك بالنسبة للكثيرين غيري، ربما ليس البيت بحدّ ذاته
ها أنا اليوم أعيش في شقةٍ صغيرةٍ في مدينة مونتريال طريقها ليس مجهولاً لأيّ أحد لكن كثيراً ما ( بقعد وحدي منسيّة ).
وإنّما الحلم الأمريكي الذي راود أجيالاً عربيّة لعقودٍ طويلة، وها هو يصبح بالنسبة لي حقيقةً لا مفرّ منها منذ لجوئي إلى كندا لأسبابٍ خارجةٍ عن إرادتي.
وها أنا اليوم أعيش في شقةٍ صغيرةٍ في مدينة مونتريال طريقها ليس مجهولاً لأيّ أحد لكن كثيراً ما ( بقعد وحدي منسيّة )، ولا تحيط بي الأشجار بقدر الأبنية السكنية ولا عصافير تحطّ على سقف بيتي فهو ليس من القرميد، وأدرك جيداً أن الحصول على كل ذلك ليس بالمجان ولا بالسهولة التي أوهمتنا بها فيروز، على عكس الثلج الكندي البارد فهو لنا جميعاً قدر ما نشاء بل أكثر .
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع