شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
عن المسحراتي والدنيا اللي

عن المسحراتي والدنيا اللي "اتقلّ" خيرها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الخميس 20 أبريل 202310:07 ص

"إيه ده... صبري هو جه. أوعى يكون اللي في بالي"، مشهد من فيلم "إكس لارج" لأحمد حلمي (مجدي أو "ميجو) مع محمد شرف (عم صبري البواب)، عن خوفه من قدوم شهر رمضان، لأنه المحب لـ"الأكل" والخائف من فكرة الصيام، وفي الخلفية تظهر زينة رمضان إعلاناً لقدوم الشهر الكريم، وبينما يلاعب الهواء الزينة المبهجة في الفيلم، لا يشغل بال ميجو سوى إحضار كمية كبيرة من الطعام لكي يستطيع الصيام في اليوم التالي، ويسأل صبري منفعلاً: "أنتَ متأكد.. شافوا الهلال؟".

"هاتلي تسع عشر علب فول، وتلاتين أربعين بيضة، هتسحر لوحدي..."، وفي مشهد لاحق تظهر وليمة السحور أمام ميجو وهو يحاول أن يحشر "كرشه" بكل ما أحضره صبري من السوبر ماركت.

هذا المشهد تحديداً اعتبره "ماستر سين" رمضان بالنسبة لي، أتذكره كلما اقترب الشهر الكريم، ويزيد إحساسي بحال مجدي ليلة رؤية الهلال، يرجعني لأكثر من عقدين من الزمان، هناك في قريتي الصغيرة الواقعة على أطراف مدينة المنصورة شمالي مصر، عندما كنت طفلة تقول أمي: "هتصوموا من أول يوم وتكملوا اليوم كله"، أحدّث نفسي: "اليوم كله؟ يااه... أنا هعطش أوي".

لا أعرف تلك الأحاسيس التي تصيبني، وأتذكر نفسي وأنا ممسكة بكوب الماء في يدي لأشرب مراراً وتكراراً حتى لا أعطش في نهار رمضان، وأستطيع صيام اليوم كاملاً كيلا تنهرني أمي، ولسبب آخر وجيه: حتى لا يصيبني تنمّر زملائي في المدرسة عندما يطلبون مني إخراج لساني ليتأكدوا أنني صائمة بالفعل أم أدعي ذلك. لا أعرف تحديداً كيف كانوا يكتشفون ذلك، لكن جرت العادة أن من يفطر يزفّه "العيال" في القرية بمقطع مسجوع لا أعرف مصدره، ومازال منتشراً حى الآن: "يافاطر رمضان ياخاسر دينك... كلبتنا السودا هتأكل مصارينك".

جرت العادة أن من يفطر يزفّه "العيال" في القرية بمقطع مسجوع لا أعرف مصدره، ومازال منتشراً حى الآن: "يافاطر رمضان ياخاسر دينك... كلبتنا السودا هتأكل مصارينك"

خوفي من هذا المقطع المسجوع في طفولتي والذي كان يجعلني أصوم رغماً عني كيلا يكون مصيري أكل الكلبة السوداء لمصاريني، لا يقل رعباً عن تكرار تدوينات فيسبوكية تبدأ العد التنازلي لقدوم رمضان القادم بعد كل انتهاء لرمضان، وهو ما يجعلني أشعر وكأنني مجدي في "إكس لارج" الذي تفاجىء وتوتر بقدوم رمضان، ربما هي ذكريات الطفولة التي جعلت رمضان بالنسبة لنا، في سنواتنا الأولى، صوماً إجبارياً مهما كان صِغر عمرنا. كان قدومه يصيبني بهاجس الجوع والعطش والعقاب من الكلبة السودا.

تطور الأمر وأصبحنا نصوم في طفولتنا، ليس حباً في رمضان ولا في تحفيز آبائنا، وهو الأمر الذي كان يحدث نادراً، ولكن حباً في طقوسه وعاداته وتفاصيله، فبعيداً عن فكرة الصوم في حد ذاتها، كان هناك الدفء عندما نجتمع حول "طبلية" الإفطار رغم بساطته، بالكاد صِنف أو اثنين من الطعام على الأكثر، نأكل حتى تمتلئ بطوننا، ثم نشاهد التليفزيون، مسلسل واحد أو اثنين وننام حتى نستيقظ على وقع طبلة المسحراتي، مغمضين أعيننا نتناول الطعام المتبقي من وجبة الإفطار، ونشرب الكثير من الماء كي نستطيع مواصلة الصيام في اليوم التالي، هكذا كنا نعتقد.

أمازال رمضان في مصر "حاجة تانية" وسرّه التفاصيل، خصوصاً هذا العام؟

كان رمضان في تفاصيله جميلاً دافئاً، ابتداء من زينته التي نصنعها من بقايا كشاكيلنا وكراساتنا القديمة، ثم نقوم بقصها ولصقها على شكل دوائر بخليط من العجين المصنوع بكثير من الدقيق والماء، ونربطها سوية، ثم نقوم بتعليقها وتثبيتها بشكل هندسي على كل المنازل، منازل كل من شاركوا في إعدادها، إناثاً أو ذكوراً. نرفع رؤوسنا لأعلى كل ثانية لنتأكد أن الهواء لم يقطع صنيعة أيدينا، لتظل صانعة هي للبهجة طوال ثلاثين يوماً، بهجة صنعناها بأقل الإمكانيات.

وعند مدفع الإفطار، كان تجمّعنا حول "طبلية" لا تحوي سوى صِنفاً أو اثنين على الأكثر من الطعام الذي نتناوله بنهم أثناء مشاهدتنا لكارتون "بكار" صديق طفولتنا، ثم يأتي ميعاد النوم. ننام وكلنا أمل أن ينادي اسمنا المسحراتي تلك الليلة، نستيقظ على طبلته التي تنادي علينا اسماً اسماً، إحساس بالنصر والفخر كنت أشعره عندما ينادي اسمي، لا أستطيع أن أخبر أمي أن تتركني نائمة وأن تعفيني من وجبة السحور هذ اليوم، فالنوم يغلبني، كيف هذا؟ هل أحرج الرجل الذي نادى اسمي للتو ولا أستيقظ كما طلب مني؟

كان المسحراتي بالنسبة لنا في القرية هو سرّ رمضان وتفصيلة من تفصيلاته المفضلة، ربما كان التفصيلة الثانية الأهم بعد "قصاقيص الزينة". كنت في طفولتي أتخيل أنه رجل خارق، وأفكر كيف أنه يستطيع أن يمشي في هذا الظلام الحالك دون خوف من العفاريت أو أبو رجل مسلوخة؟

كان مسحراتي قريتنا يوقظني لأفتح التلفزيون على "طبلة" وأغاني سيد مكاوي "المسحراتي". كنت أعتقد أن مسحراتي القاهرة، وأي مسحراتي فيها، لابد أن يكون كفيفاً مثله، كنت أحب أن أسمعه وهو يدق على الطبلة ويغني، وفي يده ابنته (أو هكذا كنت أعتقد) تدلّه على الطريق، وهو يردّد أغانيه عن الشهر الكريم ويختمها: "اصحى يانايم اصحى رمضاااااان كريم".

لا أعرف هل الدنيا فعلاً "اتقلّ" خيرها كما تقول السيدة التي تساعدني في البيت أم أن الوضع الاقتصادي الضاغط، الذي نعيشه وظهرت توابعه الشديدة هذا العام، هو الذي جعلنا نشعر بذلك

لا أعرف لماذا أحسست أنني وقعت تواً من الدور العشرين، أو لنقل وقعت من فوق قمة عشرين عاماً مضت، عندما رأيت هذا العام تحديداً مجموعة من الفيديوهات لشباب يقومون بإيقاظ الناس على وقع أغاني المهرجانات، وبرِتم موسيقي: "اصحى.. اصحى.. اصحى". تخيلت أن من سيستيقظ على تلك الطبلة سيقوم ليرقص عشرة بلدي، لا ليقتضي بسنة نبوية وهي السحور.

توالت الذكريات في مخيلتي عندما رأيت عشرات الأطفال يجرون وراء "مسحراتي المهرجانات" ويطالبونه أن ينادي أسماءهم كما كان يفعل مسحراتي زمان بإيعاز من آبائنا. سألت نفسي سؤالاً أحمقاً: "ألا يخاف هؤلاء الأطفال من العفاريت أو أبو رجل مسلوخة كما كنا نفعل؟".

ساورني إحساس بالحزن عما وصلنا إليه من تبدل للحال، أخرجني منه سؤال لابنتي: "ماما هم ليه معلقوش زينة رمضان في الشارع السنة دي؟". لا أجد رداً مناسباً، أحضر والدها بعض الزينة لنقوم بتركيبها داخل المنزل كنوع من التعويض عن غياب طقوس رمضان التي تحبها في الشوارع هذا العام، لا أعرف لماذا اختفت تلك الطقوس؟ في نفس الوقت، أتذكر مشهد أحمد حلمي في فيلمه "إكس لارج" عندما أحضر أكثر من ثلاثين بيضة لوجبة السحور، وأتساءل هل كان سيكتب نفس المشهد بنفس الصيغة إن تم تصوير الفيلم هذا العام مع الزيادة الكبيرة في ثمن البيض؟

 "الدنيا اتقل خيرها"، تقول السيدة التي تساعدني في المنزل، وتتابع: "تصدقي الناس اللي كانوا بيوزوعوا كراتين رمضان (مجموعة مساعدات يتم توزيعها على الأسر الفقيرة في رمضان) قللوا مكوناتها". تصمت قليلاً ثم تعقب: "تخيلي في واحدة متتخيرش عن حضرتك كانت الفلوس معاها زي الرز وبتراضيني"، ثم تنفجر في الضحك: "دا حتى الرز مش لاقينه".

لا أعرف هل الدنيا فعلاً "اتقلّ" خيرها كما تقول هي أم أن الوضع الاقتصادي الضاغط، الذي نعيشه وظهرت توابعه الشديدة هذا العام، هو الذي جعلنا نشعر بذلك وأفرز كل هذا التجاهل لطقوس الشهر الكريم، وأن تعود تفاصيل رمضان في شوارع المحروسة، التي تحدث عنها حسين الجسمي في أغنيته "رمضان في مصر حاجة تانية"، والتي أصبحنا نغنيها دون إحساس حقيقي.

ياااه... أمازال رمضان في مصر "حاجة تانية" وسرّه التفاصيل، كما قال الجسمي، خصوصاً هذا العام؟ أتمنى أن ينتهي العبوس من على وجوه الناس في الشوارع، وأن يعود "رمضان مصر حاجة تانية".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

تنوّع منطقتنا مُدهش

لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات "الاستشراق" والافتتان الغربي.

للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.

Website by WhiteBeard