"الحلويات بالقشطة الطبيعية في رمضان تأخذني إلى مكان آخر دائماً"؛ تمشي رانية (الطالبة الجامعية المقيمة في سويسرا)، في شوارع مدينة لوزان حاضنتها الجديدة، باحثةً عن حلوى معيّنة اعتادت مشاركتها مع العائلة بعد الإفطار، علّها تسترجع بعضاً مما فقدته من أجواء الشهر المبارك هذه السنة. "بالرغم من أن الشوكولا السويسرية تُعدّ من أشهر أنواع الحلوى حول العالم، وتستقطب السياح من كل بقاع الأرض، إلا أنها لم تأخذ مكان القطايف بالقشطة مع القطر في قلبي، على الأقل في رمضان"، تبوح رانيا لرصيف22.
القطايف بالقشطة ومربّى الورد
في شارع بيروتيّ ضيّق في منطقة عائشة بكار، لا يمكنك أن تمرّ من دون أن يستوقفك جمعٌ كبير من الناس. تخال لبُرهة أنهم يشاهدون عرضاً ترفيهياً، قبل أن تكتشف أنهم ينتظرون دورهم بفارغ الصبر لشراء القطايف بالقشطة مع مربّى الورد الخاصة بـ"حلويات الرشيدي"، المحل الذي تربّع على عرش قلوب أهل العاصمة اللبنانية منذ أكثر من 150 عاماً.
"هدفنا منذ وُجِدنا هو إسعاد أهل بيروت"، تقول الحاجة أم أحمد لرصيف22، وقد ورث زوجها حِرفته عن والده. تعشق هذه المرأة مهنتها وترى فيها هدفاً إنسانياً، لأنّ "الحلو" يُدخل البهجة إلى قلوب الناس ويعزّز الإلفة بينهم عبر مشاركة الحلويات على "سفرة" واحدة.
ما أن تدخل إلى المحل الصغير، حتى تبدأ الحاجة بوصف المكان وخصائصه، بدءاً بالمواد الأولية التي تُصنع محلياً أمام الزبائن، و"الطبيعية مية بالميّة"، وصولاً إلى لوحة تراثية لرجال يجلسون باللباس التقليدي فوق "دوشك" تراثي، وهي لوحة تعبّر تماماً عن روح المكان، كما تقول أم أحمد.
تخال لبُرهة أنهم يشاهدون عرضاً ترفيهياً، قبل أن تكتشف أنهم ينتظرون دورهم بفارغ الصبر لشراء القطايف بالقشطة مع مربّى الورد
"ترجّح الروايات القديمة أن أصل القطايف من فلسطين. أتت إلى لبنان وسوريا بحكم قرب البلاد من بعضها وقد كانت تُعدّ بقعةً جغرافيةً واحدةً قديماً"، يقول أحمد الذي تبنّى منذ نعومة أظافره مهنة العائلة، ويضيف: "بدأنا بصناعة عجينة القطايف على الحطب عام 1851، عندما لم يكن يصنعها أحد، ثم انتقلنا إلى الغاز لسرعته ووفرته، واستخدام مربّع حديدي خاص بها. ومنذ عهد جدي ثم أبي وصولاً إلى وقتنا هذا، لم تتغيّر جودة المواد المستعملة، من طحين وسكر وخميرة إكسترا".
أما عن تطوّر صناعة هذا المنتَج، فيشرح أحمد: "بالرغم من امتلاكنا مصنعاً طوّرناه لتلبية حاجات الزبائن مع ازدياد أعدادهم في فروعنا كافة، إلا اننا حافظنا على الطريقة اليدوية لصناعة القطايف، فهي التي تعطيها طعماً سحرياً". وعن إضافة مربّى الورد على الوجه، تعلّق أم أحمد التي تفتخر بأنها نجحت في المحافظة على مهنة الأجداد : "هذه خلطتنا الخاصة".
تاريخ القطايف
القطايف عبارة عن عجينة مصنوعة من الطحين والسكر والخميرة محشوة بالقشطة أو الجوز ومشكّلة على شكل هلال نسبةً إلى هلال رمضان، وتؤكل إما نيئةً أو مقليةً بالزيت. وبالرغم من التاريخ العريق لهذه الحلوى، إلا أن مصدرها الأساسي لا يزال موضع دراسات وأبحاث، فبعض الروايات تؤكّد أنها وليدة العصرالأموي والبعض الآخر يروي أن التجار العرب أتوا بها من الأندلس. غير أنّ الأمر الوحيد الذي يتفق حوله الجميع هو لذّة القطايف وطعمها الفريد.
أما عن اسمها، فتقول الرواية إنها قُدّمت في إحدى المناسبات في بلاط ملكي، فـ"تقاطفَ" عليها الضيوف لشدة ما أعجبتهم، ومنذ ذلك الوقت أُطلق عليها هذا الاسم وحملته معها على أي مائدةٍ حلّت.
البقلاوة المشكّلة
في كلّ عام، يسأل عماد، المقيم في طرابلس، أصدقاءه المسلمين حول موعد حلول شهر رمضان، فبالرغم من سهولة الحصول عليها في كل أيام السنة، إلا أن للبقلاوة "طعماً مميزاً خلال الشهر الكريم". يروي عماد كيف ينتظر أمام واجهة "الحلاب" في طرابلس، حاله حال العشرات الذين يأتون يومياً رغبةً في العثور على ما "يتحلّون به" بعد صيام طويل.
ارتبط اسم الحلّاب بالرقم 1881، وأصبح علامةً تجاريةً للمؤسسة التي أبصرت النور في ذلك العام، وهي من أول محالّ الحلويات التي فُتحت في المدينة. كان "الحلاب" سبّاقاً في صناعة حلاوة الجبن والبقلاوة وبالطبع الكنافة بالجبنة، حتى أنه وبعد الشهرة الكبيرة التي نالها، عمدت الأسرة إلى الاستعانة بالآلات الحديثة لتلبية الطلبات المتزايدة، ولكن "بقي الطعم فريداً كما هو"، حسب ما يؤكد زاهر حلّاب وهو عضو مجلس إداري في الشركة لرصيف22.
"علبة البقلاوة المشكّلة هي سفيرتنا إلى العالم"، يضيف زاهر، وتحتوي هذه العلبة المميّزة على "بقلاوة الأصابع"، والـ"كول وشكور"، و"البصمة"، و"البُرمة الشامية". تتنوّع الأسماء لكنها تنضوي كلها تحت راية البقلاوة، إلا أن لكل صنف منها حكايةٌ عَمِل مصنع الحلاب على تطويرها باستمرار لمنحِها هويةً خاصةً.
"من المعروف عن أهل طرابلس ذوقهم الخاص في الطعام والحلويات، لذلك يقصدهم الكثير من اللبنانيين والسياح عموماً، فحتى الكنافة النابلسية عندما وصلت إلى طرابلس، أضاف إليها أهل المهنة القدامى بعضاً من ثقافتهم وعاداتهم لتصبح مميّزةً عن غيرها"، يخبرنا زاهر حلّاب.
في كلّ عام، يسأل عماد، المقيم في طرابلس، أصدقاءه المسلمين حول موعد حلول شهر رمضان، فبالرغم من سهولة الحصول عليها في كل أيام السنة، إلا أن للبقلاوة "طعماً مميزاً خلال الشهر الكريم"
تاريخ البقلاوة
مصدر الكلمة هو Baklava، لذلك يرجَّح أن أصلها تركي، وهي معجَنات مُحلّاة تَتكوّن من طبقات رقيقة من العجين وتُحشى بالمكسرات كالجوز والفستق الحلبي وتُحلّى بسكب القطر.
ارتبطت البقلاوة بالاحتفالات والمناسبات السعيدة، ونظراً إلى شهرتها الواسعة في المطابخ العربية والتركية وغيرها، ضُمَّت إلى قائمة الأنواع العشرة من الأطعمة الأكثر شهرةً في العالم، حسب إحصاءات عدّة.
"لا يمكن الاستغناء عن الحلويات"
بالرغم من الأوضاع الإقتصادية التي يعاني منها لبنان ومعظم المنطقة العربية، لم يستطع الصائمون الاستغناء عن تفاصيل الشهر المبارك، فكيف إذا كانت عنصراً أساسياً كالحلويات؟!
يروي لنا محمد، وهو شاب يعمل سائقاً في شركة خاصة، قصة تدبيره وزوجته لشراء الحلويات. يسعى الاثنان إلى الاختصار من شراء الحاجيات الأساسية طوال الشهر من أجل الحصول لأولادهما على ما يشتهون، فرمضان بالنسبة إليهما يعني الأجواء العائلية والمائدة التي تجمعهم والتي لا تكتمل بلا حلويات عربية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...