بعد سنوات من الشحّ، اقتصرت على إنتاج أعمال كوميدية جُلّ همّها استجداء ضحك المشاهدين بالنكات وأفيهات التنمر الساذجة، شهد الموسم الرمضاني في السودان -على غير العادة- منافسةً بين أعمال درامية تناقش هذه المرة قضايا من صميم أزمات المجتمع.
المفارقة أن ثراء الموسم، قوبل بعقلية فقيرة، اختار أصحابها توجيه سهامهم للنيل من أهم عملَين دراميَين "ود المك" و"زاندا"، تارةً بالهجوم على ما يرونه إساءةً إلى الدين والعقيدة، وتارةً أخرى بالدفاع عن المجتمع وتبرئته من المعالجة الدرامية التي يرون أنها لا تمتّ إلى الواقع بصلة.
هذا مع ضرورة التنويه بأصوات متعقّلة ضاع صوتها وسط الجلبة العالية التي يصدرها أصحاب اللحى الطويلة، أو من يظنون أنهم حراساً للفضيلة والمجتمع من الرجس والدنس.
وجرّاء هذه الحالة، لم نجد بدّاً من تفكيك هذا المشهد التراجي-كوميدي، لنسأل عن دواعي تمسك كثيرين منَّا بأن المجتمع السوداني يعيش حالةً طهرانيةً، تجعله بريئاً من الكبائر التي تُصوّرها الدراما أحياناً.
هل توجد مشكلة في السياقات والأبنية الدرامية ليُساء فهمها؟ أم هي حساسية مفرطة؟
خلفية الاحداث
تنافست في الموسم الحالي أعمال درامية عدة، على رأسها مسلسل "زاندا" من بطولة أحمد الجقر وإخراج مبارك سالم، و"ود المك" من بطولة مصعب عمر وإخراج هيثم الأمين، والعملان حظيا بأعلى نسب المشاهدات والجدل كذلك.
ويعالج الخط الدرامي للعملين، عدداً من القضايا الشائكة، على رأسها تفشّي الفساد، والتشابكات الاجتماعية التي تمتد من الطلاق وقضايا الميراث وصلة كل ذلك بالقوانين المحلية التي يحتاج معظمها، إلى التقويم من بعد التقييم.
ويناقش مسلسل "ود المك" ظاهرة الفساد، من خلال شخصيات عدة في العمل، أبرزها الشيخ الرفاعي الذي يلعب دوره الممثل القدير صلاح أحمد، وهو رجل دين فاسد، ينظر إلى المرأة كوعاء جنسي، ويتبيّن ذلك من خلال حبه للنساء، وزيجاته المتعددة، وفي سياق الحياة العامة نجده لا يتوانى عن استغلال الدين لتحقيق مآربه الشخصية.
ويبحث مسلسل "زاندا"، في المسارات الاجتماعية التي قد يضطر أفراد المجتمع إلى سلوكها مدفوعين بأزمات الاقتصاد، وفي الصدد يتم التطرق إلى المثلية، وأساليب الإخضاع والسيطرة المستخدمة لجرّ الفتيات لتحويل ميولهن الجنسية.
خريطة الإسلام
ذهب غلاة الإسلاميين إلى أن "ود المك" و"زاندا"، هما محض مؤامرة بإسناد من قوى العلمنة، لضرب عقيدة المجتمع السوداني المسلم في مقتل، بالانتقاص من رجال الدين والدعوة إلى نشر المثلية.
وفي أقوالهم يواصل قادة الجماعات الإسلامية استلاف ألسنتنا كسودانيين، بأقوالٍ تجزم بتدّيننا ورفضنا دعوات فصل الدين عن السياسة، وذمّنا الخلاعة والمجون، وهي أقوال تُطلَق على عواهنها ولا تقوم على ساق.
ولا يوجد سجل دقيق بأعداد المسلمين في السودان، وإن كانت معظم الترجيحات (غير رسمية)، تقول إن نسبتهم تقارب 85% بعد انفصال جنوب السودان في 2011.
ولكن هذه الأعداد الغفيرة من المسلمين –إن صحت النسبة- ليست سواء، فبينهم الصالح والطالح، والبَرّ والفاجر، أسوة بتوزعهم على مذاهب شتى لا يتوانى المنتسبون إليها عن تكفير المخالفين.
ويُعدّ أنصار الطرق الصوفية الأكثر انتشاراً في الأوساط المحلية، يأتي بعدهم السلفيون المتّئكون في نشر مذهبهم على أموال الخليج النفطي والغني، وصولاً إلى جيوب صغيرة من الشيعة المعرضين للقمع والتنكيل مذْ فارق الرئيس المعزول عمر البشير، تيار الممانعة، وانضم إلى الحلف العربي بقيادة السعودية في العام 2015.
إنكار دائم
الصدمة التي يفرّ منه دعاة طهرانية المجتمع السوداني، سواء من كانوا رجال دين أو قادةً أهليين منهم، فرار السليم من الأجرب، هي: حول ما إذا كانت بلادنا تخلو من المثلية؟
سؤال يمكن الإجابة عنه بيسرٍ متناهٍ بتقليب كتاب التاريخ وإطالة النظر في صفحات الحاضر، بعيداً عن قصص الوسم التي تنفجر في وجوهنا بين فينة وأخرى، لتعرّينا من أثوابنا الملائكية التي نحرص على أن يرانا الخارج متسربلين بها.
وتقول بعض كتب التاريخ، إن أحد أهم أسباب اندلاع الثورة المهدية التي أنهت الحكم التركي في العام 1885، كان الاحتجاج على اتجاه نحو توثيق زيجة رجلَين، ما يعني ضمناً أن الرفض يومذاك لم يُبنَ اعتراضاً على "المثلية"، ولكن على محاولة جعلها أمراً قانونياً، بينما يقول كتاب الواقع بأن الجريمة فاشية، بما في ذلك اغتصاب الأطفال على أيدي رجال الدين.
الاحتجاج في خروجنا إلى الناس بذواتنا العارية في الأعمال الدرامية، ليس جديداً عموماً، فقبل سنوات تم إيقاف مسلسل "بيت الجالوص" الإذاعي، المستمد من قصة حقيقية عن رجل أعمال فاسد يعمل على محو صورته القديمة من خلال تقديم الرشاوى للصحافيين.
يومذاك، تم إيقاف عرض المسلسل الذي كتبه طبيب الأمراض النفسية، الدكتور علي بلدو، بأمر من جهاز الأمن، وإيعاز من صحافيين عدّوه تشويهاً لصورتهم كمدافعين عن الحقيقة.
وبالطبع يقودنا ذلك كله، إلى تساؤل آخر عن سرّ رفض شريحة كبيرة من السودانيين، غالباً، تصويرهم بصورة سلبية في الأعمال الدرامية، مع غضّهم الطرف عن الواقع القاتم، وكوارث الفرق الكوميدية التي ساهمت بأعمالها في تكريس الحسّ القبلي، وتنميط المرأة في قوالب دونية، غير الكثير من التنمّر الذي لم يرحم حتى أصحاب الإعاقات.
وهذا تساؤل أحلناه إلى المحلل الاجتماعي، سعيد محمد الزين، الذي ألقى باللائمة على ثالوث السياسة ورجال الدين والأعمال الفنية، الذي يراه سبباً في ترسيخ صورة متوهمة عن السوداني، بأنه شخص يتسم بمنظومة قيمية تعوز أغياره من الشعوب والمجتمعات.
وضرب سعيد مثلاً على ذلك هو محاولات تأطير السوداني في بلاد الغربة ضمن توصيفه بأنه سفارة قائمة بذاتها، وتالياً فإن الرأي الجمعي يعتقد بأن أيّ سلوك خارج عن هذا المنظور الرسالي هو استثناء وليس قاعدةً، مشدداً على أن ذلك قول يمكن دحضه بسهولة بالإشارة إلى أعداد السودانيين في سجون العالم، بسبب ارتكاب جرائم ومخالفات قانونية شأنهم شأن بقية أفراد الجاليات.
وشدد سعيد في حديثه إلى رصيف22، على أن الثقافة المحلية الذكورية، النازعة إلى مواراة الأزمات الاجتماعية، عبر مجالس الحل الأهلي ذات الطبيعة المنحازة إلى التسويات في القضايا كافة، بما في ذلك قضايا القتل أو الاغتصاب، لم تساهم في تغذية تلك الصورة الأسطورية للسوداني فحسب، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك بتجريمها الضحايا في حال قرروا الخروج بمعاناتهم إلى العلن.
وأضاف: كل ذلك الإنكار مخافة الصدام مع الواقع، مؤدّاه في نهاية المطاف تلاشي أصوات المتعرضين للعسف، لصالح التكالب لحماية صورة يوتيوبية زائفة في مخيّلاتنا وأشعارنا وأغانينا، وصولاً إلى إهمال ضحايا الجرائم في سياق رفضنا للجريمة.
وأتمَّ قوله بحسم: لنتوقف عن الإنكار، وتصوير أنفسنا على أننا مجتمع خالٍ من الخطايا الكبرى، ولنعترف بأن الأزمات الاقتصادية والسياسية زادت من تنامي معدلات الجريمة، والانتهاكات بشكل غير مسبوق.
وختم: إن أردنا حلّاً لمشكلاتنا فعلينا البدء بمواجهة أنفسنا.
أحد أهم أسباب اندلاع الثورة المهدية التي أنهت الحكم التركي في العام 1885، كان الاحتجاج على اتجاه نحو توثيق زيجة رجلَين
السياق الدرامي يفرض نفسه
هل توجد مشكلة في السياقات والأبنية الدرامية ليُساء فهمها؟ بمعنى آخر هل يمكن أن تكون الأزمة في الدراما وعجزها في لفت الأنظار من أوجه القصور؟
سؤال ذهبنا به إلى الناقد الفني رامي مصطفى، فابتدر حديثه إلى رصيف22، بالتأمين على أن النقد الكثيف للأعمال الدرامية يساهم في رفع نسب مشاهدتها. ومن ثم أبان عن امتلاكه جملةً من الملاحظات بشأن الأعمال الدرامية المستقلة ذات الموازنات الإنتاجية الضعيفة.
وأضاف: رصدت الكثير من الأخطاء في الحبكة والسيناريو، وأخرى فنية ذات صلة بعمليات التصوير والصوت والمونتاج... إلخ.
لكنه أشار إلى أن كل هذه الأخطاء، لا تنتقص من قدر الدراما في كونها أداةً لتوصيل الرسائل بقوالب فنية، وإن اكتفت بالإشارة إلى أوجه الخلل، من دون السعي إلى إيجاد المعالجات.
ولم يخفِ مصطفى مخاوفه من أن تؤدي الهجمة الشرسة على أعمال رمضان الحالي، إلى تعظيم الرقابة الذاتية، وليّ عنق السيناريو لإرضاء المتطرفين، والأفدح، والكلام لمصطفى، أن يمتد ذلك ليشمل الأعمال الدرامية كافة مستقبلاً في تحاشيها الصدام مع المجتمع.
في النهاية، يمكن القول إن الحملة على دراما رمضان في السودان، ناجمة عن زعزعتها الكثير من الثوابت ومحاولتها كسر تابوهات ظلت عصيةً لعقود من الزمان بما فيها أسطورة السوداني الخالي من العيوب، فهل يا ترى تصمد، أم ستتوارى مجدداً لصالح طغيان الكوميديا السمجة المتولدة من الفراغ وإليه؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...