شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
ذهبت في

ذهبت في "رحلة" نحو الجحيم وعدتُ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الأحد 16 أبريل 202312:12 م

هل سبق لكم أن ذهبتم في رحلة نحو الجحيم؟ أنا تجوّلتُ.

حادثة قصيرة لا تتعدّى الدقائق كانت كافية لأعود بعدها من الموت. لم تكن مباراة، لكن طَيف الموت أحرز هدفاً في الدقيقة الأخيرة.  "إرهاب الطرقات" تعبير قد يكون مجازياً، لكنّه أصبح رفيقي الدائم.

يتوقف الوقت فلا تستوعب ما حدث، ترتعد، تصرخ وتنتظر أن تقف بك المركبة وتنتهي من دورانها في ثقبٍ أسود ثم تختفي!

1.3 مليون شخص يموتون سنوياً نتيجة حوادث السير على الطرقات في العالم.

93% من وفيات العالم على الطرقات تحدث في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، ويحتلّ لبنان المرتبة العاشرة عربياً فيما يتعلّق بالوفيات من جرّاء حوادث السير.

في لبنان موتٌ متنقّل. طُرقات تبتلع محرّكات السيارات بتعرّجاتها، بإهتراء بُناها التحتية وحُفرها التي تتحوّل مستنقعات مع هطول الأمطار، فلا هي تستطيع غسل القذارة التي نحن غارقون فيها، ولا هي قادرة على ملء خزانات المياه التي باتت تُقطع أغلب الوقت عن السكان. قد لا يكون إهتراء الطرقات السبب الرئيسي لإحتمال حصول حوادث سير، لكن لا شكّ أنّ الإهمال هو عنصر مؤثر يسخر يومياً من ضحايا حوادث السير.

لم أعِ في بادىء الأمر ما حلّ بي. على الطريق السريع، في وجهةٍ سريعة، صوت سريع أدّى إلى تحطّم سريع، ومنذ تلك اللحظة باتت كل الأيام سريعة.

لا يبالغ المرء حين يقول "رأيت الموت بأم عيني". يصبح الموت الزائر الأول في كلّ صباح ومساء، يأتي ويهمس لنا، متربصاً في وسائدنا. مرّت الحادثة، ولا أذكر أنني غفوتُ ليلةً بعدها مُطمئنة. أحسد أولئك الذين يختمون يومهم الطويل المتعب بنومٍ عميق فور دخولهم السرير.

في لبنان طُرقات تبتلع محرّكات السيارات بتعرّجاتها، بإهتراء بُناها التحتية وحُفرها التي تتحوّل مستنقعات مع هطول الأمطار، فلا هي تستطيع غسل القذارة التي نحن غارقون فيها، ولا هي قادرة على ملء خزانات المياه التي باتت تُقطع أغلب الوقت

يأتيك الموت على هيئة وجه تتآكله التجاعيد حين يبتسم، ويمدُ يديه الدافئتين، يُغريك بهدوء أنفاسه وروحه التي تطفو في كل مكان. عندما تقترب، ترى وهجاً صغيراً، وميضاً أزرق يبشّر بسلام ونقاء تسعى إليهما. تتسارع دقات قلبك، طرفة عين تفصلك عن ملامسة أطرافه ثم تستيقظ فجأة! أخذت تلك الكوابيس اليومية تقتات خلايا دماغي ببطء. إنها عوارض اضطراب ما بعد الصدمة. هكذا شخّصها الأخصائي في العلاج النفسي.

تعوّدنا؟ تبلّدنا؟ ربما أدمنّا أو أنِسنا أو ألفنا كل ما يدور في فلك هذه البقعة الصغيرة، حتى بتنا آليين دون الخضوع لتجارب علمية أو استنساخ.

هو إضطراب قلق ناتج عن أحداث مرهقة للغاية أو مخيفة أو مؤلمة، يمكن أن تشمل حوادث الطرقات الخطيرة، الاعتداءات الشخصية العنيفة، مثل الاعتداء الجنسي أو السرقة، مشاكل صحية خطيرة وحتى الحروب.

غالباً ما يستعيد الشخص المُصاب باضطراب ما بعد الصدمة الحدث الصادم من خلال الكوابيس وذكريات الماضي، وقد يعاني أيضاً من مشاكل في النوم، مثل الأرق، ويجد صعوبة في التركيز . تكون هذه الأعراض شديدة ومستمرة بدرجة كافية ليكون لها تأثير كبير على حياة الشخص اليومية.

ومع أن الأشخاص عادة يعانون من تفاعلات بعد تعرّضهم لصدمة نفسية معينة، إلّا أن الأغلبية تتعافى، ولكن في حالة المصابين باضطراب ما بعد الصدمة فإن الأعراض تستمر وقد تتفاقم.

سلامة الجسد مهمة فماذا عن سلامة النفس؟

الموت المتوقع رحيم. أماّ الموت الفُجائي يحكم الخناق على جزء من روحك فلا تستطيع الهروب ولا تستطيع التقبّل ولا تستطيع التخطّي. هذا الصديق العدو، المجهول، المعلوم والحقيقة الثابتة.

أيها الموت قمتَ بزيارتي في الآونة الأخيرة مرّات عدّة ثم رحلت. قد تكون نهاية قصة حزينة، وقد تكون بداية في مكان آخر، لكنك مؤلم لن أنكر! عن تجربة نفسية قاسية أتحدّث، أن تراودك أحلام ومشاهد عن نهايتك، عن موتك، عن روحك تحتضر. يشتدّ التفكير في الموت حين يتوفى قريب لنا، أو حين نتعرّض لحادث ما، نشعر فجأة بضآلة الأشياء وتلاشيها في الزمن. هذا التمسك الغريزي بالحياة، بالبقاء على قيد الهواء في رئتينا وتسارُع دقات قلب نرتعب أن يتوقف!

نحن أحياء لكن الموت ينهش بنا يومياً في هذا البلد الصغير. تتعدّد أوجه الموت فيه وتتزيّن! ترقص بهدوء على جثث أحلامنا التي تتساقط جرّاء الأزمات، الحروب، الأوبئة ومؤخراً الهزّات!

منذ ستة أعوام مرّ توصيف لممدوح عدوان أمامي يعبّر فيه عن تأكل الموت للإنسان: "نحنُ لا نتعوَّد يا أبي إلاّ إذا ماتَ شيءٌ فينا، وتخيّل حجم ما مات فينا حتّى تعوّدنا على كلّ ما حولنا؟".

تعوّدنا؟ تبلّدنا؟ ربما أدمنّا أو أنِسنا أو ألفنا كل ما يدور في فلك هذه البقعة الصغيرة، حتى بتنا آليين دون الخضوع لتجارب علمية أو استنساخ. ربما هو مشروع مخطط لمكننتنا في المستقبل، فتسابقنا مع الزمن لنفوز بالمباراة مُسجلين هدفاً في أنفسنا. لم نعد أحياء ولم يعّد للحلم بقية، وكما قالت فيروز: "وكل شي بيخلص حتى الأحلام".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard