بعد مرور أكثر من مئة عام على بناء الخط الحديدي الحجازي بداية القرن الماضي، ما زلت أنتظر ذلك القطار البخاري المرتبط بطفولتي، ليمر مُصفّراً من دوار الجمارك نزولاً إلى ساحة الأمويين، فيسير ببطء على السكة المحاذية لنهر بردى، نحو الربوة ثم دُمَّر والهامة وعين الخضرة وعين الفيجة ومضايا وبقين ومصايف وادي بردى، ويطل على سهل الزبداني حتى يصل إلى البلدة نفسها.
لم أكن أدرك حينها أنه يسمى "قطار النزهة" وهو مخصص للرحلات السياحية ويحتل حيزاً من ذاكرة دمشق وحتى تقاليدها لأيام الجُمع، فظل ركوبه حلماً مؤجلاً منذ الطفولة، وبعيد المنال بعد اندلاع الحرب السورية، إلى أن تحقق منذ مدة ليست ببعيدة بالصدفة البحتة.
أحب القطارات، ربما لأنني لم أُشبع فضولي تجاهها، فهي لم تكن يوماً من وسائل المواصلات الدارجة في سوريا، بطيئة مقارنة بالبولمانات الحديثة التي تقطع المسافة بين حمص وحلب بساعتين ونصف، بينما يستغرق القطار أكثر من ثلاثة ساعات ونصف للمسافة ذاتها، إضافة لكثرة أعطاله على الطريق. أذكر تفاصيل حكاية أصدقاء حدثوني ضاحكين عن مغامرتهم التي استمرت أكثر من 24 ساعة وهم عالقين في القطار المتجه من دمشق إلى حمص، بينما أهاليهم ينتظرونهم في المحطة قلقين، فالموبايلات لم تكن وقتها دارجة، وآخرون أخبروني عن سحر وجمال الطريق الواصل بين اللاذقية وحلب، كنا طلاباً في الجامعة حينها وأنا الوحيدة بينهم من درست في مدينتها ولم تضطر للتنقل بين المحافظات، ففوّتُ على نفسي تلك المغامرة.
أحب القطارات، ربما لأنني لم أُشبع فضولي تجاهها، فهي لم تكن يوماً من وسائل المواصلات الدارجة في سوريا، القطار بالنسبة لي هو أشبه بحلم جميل مرتبط برواية "مغامرة السهم الأزرق"
القطار بالنسبة لي هو أشبه بحلم جميل مرتبط برواية "مغامرة السهم الأزرق" للإيطالي جياني روداري التي قرأتها لي أمي في طفولتي وأعادت قراءتها مرات ومرات، فظل ذلك القطار الصغير الأزرق عالقاً في مكان ما من الذاكرة البعيدة. ربما لذلك أحب المشي والتوازن على سككه المهجورة بين الربوة ودمر، وتتبع مساره بدءاً من محطة الحجاز، التي أصبحت الآن شبه منطقة مغلقة على الزوار الفضوليين أمثالي، لا يسمح بالدخول إليها إلا بإذن خاص من المدير، خاصة بعد بدء أعمال إنشاء ذلك الفندق المريب الذي أقيم فوق أرض قهوة الحجاز القريبة منها، رغم جميع اعتراضات "المواطنين" على فيسبوك. الممكن فقط التلصص عبر السور على ما بقي من سكة كانت تقود في الماضي إلى محطة القدم، ومحطات موزعة على خط حديد الحجاز الذي كان له دور تاريخي هام في الزمن الغابر، الآن يمكنك فقط أن تلتقط صورة تذكارية مع القاطرة البخارية الألمانية الحزينة الميتة، منذ أن انتُزعت السكة من تحت عجلاتها، تنتصب عند مدخل المحطة.
ومع تتبعي لخط السكة وأنا أتوازن عليها بدءاً من الربوة وصولاً لمحطة الهامة كانت المفاجأة المذهلة، ينكشف أمامك فضاء المحطة الواسع بمبناه الصغير ذي السقف القرميدي المائل المميز لمعظم المحطات على الطريق، الجرس الخاص بالإعلان عن وصول الرحلة أو انطلاقها ما يزال موجوداً، معلقاً في الهواء تحركه الريح، وما إن تتقدم لبضعة أمتار نحو الداخل، حتى تظهر عربات الركاب محدّثة بطريقة رخيصة، دون أدنى حفاظ على المزاج الأنيق القديم، ثم تفاجئ بقطارين بخاريين أحدهما سويسري يعود تاريخ صنعه لـ 1894 وآخر إلى عام 1906 في العراء، يأكلهما الصدأ، تثقب جسديهما آثار الرصاص من الاشتباكات الأخيرة، وتتعرّش عليهما النباتات البرية في لوحة سريالية لتاريخ قديم منسي إلا من قطيع الماعز الذي يرعى العشب الأخضر والأكياس البلاستيكية قربه.
أفكر كم فعلاً نحتاج إلى قطارات كثيرة، نحن العالقين في هذه البقعة الجغرافية من العالم، أفكر بالحدود، وبجوازات سفرنا الزرقاء، بأذونات السفر وبمنعها، بكل من ودعناهم دون أمل في لقاء وبكل من لم نستطع توديعهم، وأفكر أيضاً بنهاية فيلمنا الذي طال كثيراً
محطة قطار "أزرع" لم تكن أيضاً أفضل حالاً، فقد انهار مبناها القرميدي جزئياً وبقيت عربات الركاب الخشبية كما صُنعت أول مرة منذ مئة عام، يأكلها الطقس والإهمال وانتهاء الصلاحية، أما بالنسبة لمحطة القدم فلم أزرها مرة، لذا لا أستطيع الحديث عنها ولا حتى بناء الانطباعات على ما شاهدته من صور.
أعود إلى حيث بدأت، إلى لحظة تحقق حلم ركوب قطار النزهة في رحلة نظمتها إحدى صديقاتنا. اجتمعنا صباحاً عند فوج الإطفاء في الربوة، ولم يكن ليخطر لي يوماً أن محطة القطار تقع خلفه مباشرة، كنا حوالي مئة شخص أو أقل قليلاً، قطار قديم يعمل بالديزل مصنوع في ألمانيا الغربية وعربتين صفراوين لم أتخيل أن تتسعا لنا جميعاً.
رحلتنا كانت قصيرة جداً من الربوة حتى محطة دمر ورجوعاً، فقد دُمّرت السكة جزئياً بعد العمليات العسكرية التي جرت في محيط دمشق خلال السنوات الماضية وما عادت تصل الزبداني كما في السابق. وبما أنني مهتمة بأخبار القطارات فقد سمعت مؤخراً عن خطة لإعادة تفعيل خط حديد الحجاز الواصل بين سوريا والأردن لاستثماره في المجال السياحي أولاً ومن ثم في المجال التجاري، كما فوجئت حين أخبرتني صديقة أنها سافرت من طرطوس إلى اللاذقية بالقطار، دافعة ثمن التذكرة ألف ليرة فقط ومنذ فترة قريبة، خطوة جيدة لمشكلة التنقلات بين المحافظات وخاصة ضمن أزمة المحروقات الخانقة التي تعيشها سوريا منذ قرابة الشهرين أو يزيد، وأنا كنت أظن أن القطار بين طرطوس واللاذقية محصور بنقل البضائع والحبوب فقط، ومع السؤال تبين أنه قد تم إعادة تأهيل السكة الواصلة من حمص إلى اللاذقية أيضاً ولكن لقطارات الشحن فقط وليس الركاب.
صفّر القطار وانطلقنا بطيئاً بطيئاً، كنت فرحة ربما أكثر من الأطفال المحيطين بي، جالسة قرب النافذة المفتوحة لأراقب الطريق الذي لم يستغرق أكثر من ساعة ذهاباً وإياباً مع تغيير اتجاه القاطرة في محطة دمر، نسير قليلاً ونتوقف ثم نعاود السير، يصفّر القطار ويلوّح لنا المارة في الطريق بأيديهم وهم ينظرون إلى القطار باستغراب، فنلوّح لهم أيضاً ونحن نغني "يا طيرة طيري يا حمامة" التي غنتها شادية في فلم "خياط السيدات" 1969 وهي تركب نفس القطار ولكن في رحلة أطول من رحلتنا:
ياطيره طيري يا حمامه روحي على بر السلامة
روحي على ديرة احبابي يلي اشتاقولي بغيابي
وهاتيلي من ايدن علامة يا طيره طيري يا حمامه
انا على ناري آه من ناري دوبني البعد حرام والله ..
والفرقة صعبه يا حمامه وبتزيد الآلام ..
القطار كان وسيلة شادية لتلتقي بمن تحب، يجري مسرعاً على سكته ليحملها إلى حيث يمكنها أن تحتضن من اشتاقت إليهم لينتهي الفيلم نهاية سعيدة.
أفكر كم فعلاً نحتاج إلى قطارات كثيرة وسكك أكثر تصلنا بالعالم الخارجي، نحن، العالقين في هذه البقعة الجغرافية من العالم، أفكر بالحدود، وبجوازات سفرنا الزرقاء، بأذونات السفر وبمنعها، بكل من ودعناهم دون أمل في لقاء وبكل من لم نستطع توديعهم، وأفكر أيضاً بنهاية فيلمنا الذي طال كثيراً، هل يمكن أن ينتهي نهاية سعيدة في يوم ما؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...