"كانت تجلس إلى جانب الموقد، فشتاء الريف قاسٍ، وعلى ضوء الكاز ينعكس ظلّها على الحائط، وكأنها تملأ الغرفة بأكملها. تضحك جدّتي قبل أن تشرع في الحكاية، فجلّ حكاياتها تحمل الطرفة والعبرة معاً"؛ هكذا تسترجع المهندسة حفيظة حسن، سهرات أيام زمان التي نسجت عن طفولتها ذكرياتٍ كثيرةً: "ساعات قضيناها مع الجدّة التي لم تبخل بسرد الحكايات، بل جادت بألعاب تفاعلية يفتقدها أطفالنا اليوم في ظل ثقافة التكنولوجيا وأجهزتها الذكية."
تروي حسن (60 عاماً)، لرصيف22: "كسيلان الذي أكل كلّ الأرغفة ولم يحرث الحقل، والقط الذي أعماه الحسد لجارته الذبابة فآثر أن يقلّدها في كل شيء، إلّا أن عقرباً لدغ كفّه حين أدخلها في حفرة وخرجت يد الذبابة منها محناةً، والعنزات الثلاث وأمهم البيضاء، ولطالما فتحوا لي باب الخيال على مصراعيه، وأنا الطفلة التي تعلّق قلبها بأصغرهم، ‘ذنيب المكحلة’، والذي نجا من الذئب وأخبر الأم بأن الأخير قد التهم شاتا وباتا".
تضيف: "كل هؤلاء كانوا جزءاً من طفولة أغدق الماضي عليها ألفةً لا بدّ أنها أسّست فكراً لجيل كامل. ترتبط الذكرى برائحة حلوى تعدّها أمي، نسمّيها غلوة، وهي عبارة عن طحين الذرة المغلي ويتوسطه دبس العنب والسمن البلدي. كانت الغلوة قادرةً على أن تقدّم للصغار مكافأةً تدفئ قلوبهم الصغيرة وأطرافهم على حدٍّ سواء".
"لقد أعدتِ لي مشهد جدّتي، وهي ترمي بأوراق الشدة، حين تستقرئ بذكائها أنها مغلوبة لا محالة. ترميهم وتقول لقد نعست"، تقول حسن.
لكي لا تهرب صباح
يروي الحاج أبو فصيح (89 عاماً)، عن تأثير المذياع على تلك الحقبة، وقد كان الوسيلة الإعلامية الناطقة الوحيدة آنذاك: "كان أحدهم في بيروت يستمع إلى صباح وهي تغنّي، وأقفل المذياع وعاد إلى بلده سوريا على الفور، وحال وصوله فتح الراديو ليسمع الأصحاب صوت الشحرورة، إلا أنها اختفت. استشاط غضب الشاب وتعجب وهو يردّد: لك وين راحت هلق كانت هون وقطعت الحبلة فينا"، ليلقّبه رفاقه "أبو حبلة"، وهو اسم التصق به حتى موته.
كانت تلك الأيام أياماً بسيطةً لا تحمل تعقيدات اليوم، وكذلك رجالاتها. فعلى سبيل المثال لم يصدّق أحد إمام الجامع الذي أنبأ الجمع قائلاً: "ستسيرون في شيء لا يجرّه حمار ولا بغل"... استهجنوا، ثم خطا خطوتين وأردف: "وستطيرون في شيء غير معلّق ولا مربوط"، فعلت الأصوات من حوله: "لقد خرفت يا شيخ، ولن نصلي وراءك بعد اليوم"، يقول أبو فصيح، ويضيف: "فمن كان يظن بأن الزمن سيصلنا بأجهزة ترينا من هم في أمريكا، وماذا يفعلون، بعد أن غمر الطوفان قريةً بجوارنا ولم نعلم عنها شيئاً سنة 39، لانعدام أجهزة للتواصل".
لم يصدّق أحد إمام الجامع الذي أنبأ الجمع قائلاً: "ستسيرون في شيء لا يجرّه حمار ولا بغل"، فعلت الأصوات من حوله: "لقد خرفت يا شيخ، ولن نصلي وراءك بعد اليوم"
يُتابع الحاج مستدركاً أيام طفولته: "كنا يافعين، نحذو على درب أقراننا، ونجول بين البيوت الطينية العتيقة، ونطرق أبوابها لنشحذ عيدان الحطب لكن بطريقة راقية فنردّد:
"حلّوا الحزمة وأعطونا
ولولا (فلان) ما جينا
(فلان) قاعد عالكرسي
حامل السيف والترسِ
حَمَام أم غراب؟".
إن قالوا غراب، يعني أنهم لن يعطونا مبتغانا فنمضي. وحَمَام، أي ننتظر منهم قطعةً خشبيةً نضعها في الوعاء ونكمل. و(فلان) هنا اسم صاحب الدار".
وبسؤال الحاج عن حاجتهم إليها؟ يجيب: "نضرم بها ناراً تدفئ ليلنا وتضيئه في آن، فقد كنا نسهر في العراء. وحين غدونا شباناً؛ نسهر في غرف مخصّصة لنا بعيداً عن مجالس الرجال، ونلعب الباصرة، ورماك الهوى، أما الرجال فغالباً ما يتحلقون ضمن مضافة حول راوي الحكايات، وكان اسمه القارئ، وتدور حول الزير وأبو زيد والريادة والتغريبة: بتعرفي شو الريادة؟ حين ارتاد أبو زيد بلاد الغرب يدوّر فيها عن مأكل للإبل، استحقّ السفر بعد أن حقق شرط الأمير حسن الذي مدّ بساطاً بطول 40 متراً، وملأ في منتصفه منسفاً بالتمر. أكل أبو زيد التمر من دون أن يدوس البساط، وطواه وحلّ اللغز، وحين غرّب مات ابن أخته ‘مرعي’ في فلسطين، فسُمّي ‘سهل مرعي’ نسبةً إليه".
يضيف: "أما أمي التي تسهر الليل بطوله أيضاً، فكانت تطهو ‘طباشات الجمل’، أي قوائمه، وتستمر السهرة حتى الفجر ويصلّي الجمع مع والدي في الجامع ويعرّجون على المعصرة ليشربوا الجلّاب المستخلص من الدبس ثم يعودون؛ فالزفر في انتظارهم يرمم تعب الليل. والسهرة قد تحمل صلحاً أو صفحاً عن قاتل مثلاً، أو حتى كتب كتاب صبية راحت خطيفة فهناك شيوخ ووجهاء كلمتهن ما بتصير تنتين".
دخول التلفاز
هل تذكر أيام دخول التلفاز إلى دمشق؟ يقول الحاج: "بالتأكيد أذكر، فقد كنت من أوائل من اقتناه، فعملي في المطار آنذاك، سمح لي بشراء تلفزيون بالرغم من ندرته، فبين كل مئة بيت هناك بيت واحد فقط يحتوي على تلفاز، وذلك في عام 1964، وسرعان ما صار بيتنا محجّةً للجميع، من جيران وجيران الجيران، الحميع يهرولون ليشاهدوا تلفزيون ‘فيليبس’ الصغير الأبيض والأسود، ومنهم من يخجل من أن يجلس في المقدمة ظنّاً منه بأن من في التلفاز ينظرون إليه مباشرةً، ومنهم من يتأمل الصندوق من الوراء والأعلى علّه يكشف كيف استطاع الحشد الدخول إليه. ويُفاجأ حين يرى أن قلبه محض أسلاك".
أعرف واحداً كان إذا غنّت سميرة توفيق يطالع مسدسه ويقوّص، وبتفوتي عبيته السقف مليان طلقات
"كان مسلسل ‘فارس ونجود’، حينها، أشهر من نار على علم، وكانت له الحصة الأكبر في المتابعة. أعرف واحداً كان إذا غنّت سميرة توفيق يطالع مسدسه ويقوّص، وبتفوتي عبيته السقف مليان طلقات"، يقول أبو فصيح، ويكمل: "قبل دمشق، كنت أقطن في الريف، وكان ‘اللوكس’ نادراً، وهو ضوء أقوى من الكاز، يستأجره الأهالي مني ليضيئوا حفل العروس، وكنت أحضر لأضيئه بالقميص والنكاشات، وأجلس في الحفل حتى ينتهي فآخذ ‘لوكسي’ وخمسة قروش وأعود أدراجي. أجلس مع أبي العروس أو أخيها، والصبايا يغمزن لي بينما الشباب برّا يطقّون من غيظهم ليش أنا بس جوّا وهم لأ... كانت أيام بالعمر كلّه".
"ولا أجدع رقاصة"
"كانت جدتي أم مأمون تستقبل نساء الحيّ كل ثلاثاء من أول شهر، وكان استقبالاً ملوكياً"؛ يستذكر الأستاذ عماد الأرمشي، طفولته أيام زمان، وهو باحث ومؤرخ دمشقي من مواليد 1951، ويعمل على مشروع تأريخ تراث دمشق وتوثيقه.
يقول: "كانت النساء يسهرن مع السرملك إن كانوا محارم، أو يتفردن في الحرملك، لكن في ‘الليلية’ كما كانت تجتمع النسوة مع بناتهن الصغار، أما الصبية فيلعبون في الحارة أو يُرافقون الرجال إلى المقاهي، وكنا كصبية صغار في الاستقبال خدماً لجدتي، نلبّيها، ونسترق السمع، وشي نفهموا من الأحاديث وشي لا."
البرسيس (أو برجيس)، وهي لعبة نسائية بامتياز، تقسم النساء إلى فريقي تشجيع للّاعبتين الأساسيتين. يبدأ رمي الودع: "وعلى هاد دوا وهي دوارة وراها خسارة، كانت هناك لعبة ساير أيضاً وهنا تبدع العجائز بذكائهن في حلّ الحزازير والأحجيات. والتقليد أساسي، يضفي المرح على الأجواء حين تقلّد الصبايا حركات الأمهات".
الغناء والطرب من ضروريات الجمعات النسائية. إن حضر العود حضر، وإن غاب حضرت الدربكة. وإن تعذّرت؛ الشاميات يدققن على علبة سمنة فاضية، أو صينية الكاسات ويرقصن
يلفت الأرمشي إلى أن "الغناء والطرب من ضروريات الجمعات النسائية. إن حضر العود حضر، وإن غاب حضرت الدربكة. وإن تعذّرت؛ الشاميات يدققن على علبة سمنة فاضية، أو صينية الكاسات ويرقصن، والرقص الشرقي كان مهارةً لا بدّ من اكتسابها، والتي لا تعرف الرقص يُحكى عليها كما التي لا تجيد الطبخ".
السمر والحزازير
في تلك الأيام، كانت الضيافة متنوعةً، الفاكهة والكستناء والمحلاية والشمندر المشوي شتاءً، والبوظة صيفاً، ويستمر السمر بغمزه ولمزه ولعبه وحزازيره إلى أن ينتصف الليل فتسدل النساء الملايا على وجوههن ويعدن إلى بيوتهن. أما الرجال، فيتوجهون بعد صلاة العشائين إلى المقاهي، حيث الحكواتي الذي سيسرد ما حصل مع الزير وعنترة وسيف بن ذي يزن وغيرهم من الأبطال. والحكواتي لم يكن مجرد قارئ بل يمثّل بصوته حسب الموقف، وقد يحمل سيفاً يلوّح به إن اشتد الوطيس.
يتابع الأرمشي: "تتأثر العامة بالحكايات إلى درجة قد يلحق أحدهم بالحكواتي إلى بيته ويطلب منه أن يفرج عن عنترة الحبيس، فالنوم قد جافاه، إذ كيف ينام وفارس بني عبس محبوس، وهنا تكمن مهارة الحكواتي الذي يُقفل السهرة بحبكة درامية مشوّقة تأتي بالجمهور في اليوم التالي. ويستأجر الحكواتي الكتاب المكتوب بخط اليد من دون اسم المؤلف من المسكية، وهي سوق الكتب، بخمسة قروش، ويدفع الزبون قرشين واحداً للمشاريب وصاحب القهوة، وآخر للحكواتي".
تتأثر العامة بالحكايات إلى درجة قد يلحق أحدهم بالحكواتي إلى بيته ويطلب منه أن يفرج عن عنترة الحبيس، فالنوم قد جافاه، إذ كيف ينام وفارس بني عبس محبوس
بعد الحكواتي وقبل المذياع والتلفاز، كان خيال الظل، ومسرح الدمى، وكانا كركوز وعيواظ الأشهر حينها، وهما شخصيتان تركيتان من بورصة، حكم عليهما العثماني بالإعدام، وكان "المخايل" هو صاحب الحوار، يعرض عرضاً مضحكاً للأطفال، وآخر للكبار يكون أنضج ويحمل نقداً سياسياً للأحوال العامة ويتهكم على ظلم الدولة لرعيتها، وكان الحوار مراقَباً أيامها من أجهزة الدولة الأمنية.
حين جاء صندوق العجائب، أي التلفاز، في بداية ستينيات القرن المنصرم، رويداً رويداً بدأت المقاهي تتراجع، فجمهورها قد سُرق. وغابت الروايات مع خيال الظل بذكائه في نقد فساد الدولة وساستها، لتحلّ محله المسلسلات والأفلام، وأصبح الجميع متفرجين سلبيين يتلقون ما تفرضه الدولة عليهم، وهي التي حاصرت حتى الكلمة التي في القلب وتحكمت به، يختم الأرمشي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون