شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
ينادي بـ

ينادي بـ"خليج السلام" وقصائد المعرّي، ويدسّ الكتب في السجون... رجل السّلام الإيراني

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

تخلى عن استكمال دراسة فلسفة علم الأحياء وإعداد رسالة الدكتوراه فيها، وعاد من فانكوفر إلى طهران بعد 4 سنوات. نتحدث هنا عن المترجم والناشط المدني محمد رضا معمار صادقي، المواطن الإيراني الذي ترك أثراً كبيراً في سجون إيران وحاول مكافحة العنصرية الإيرانية بنشاط اجتماعي مميز.

باشر تدريس اللغة الإنكليزية، وقرر عام 2012، أن يلتحق بالشبكة الاجتماعية للمسافرين "كاوتش سيرفينغ" (couchsurfing)، كي يستضيف السياح في منزله، فنشط في تعريف الأجانب الذين يزورون إيران ويبحثون عن اكتشافها، بالثقافة الإيرانية.

حوّل منزله إلى ملتقى ثقافي بين الإيرانيين والسياح الأجانب، واستضاف "رضا معمار" كما يشتهر بينهم، ما يزيد عن ألف سائح خلال نحو سبع سنوات، حتى منحته الشبكه لقب "السفير".

بنى رضا معمار شبكةً من المتطوعين لجمع الكتب والمجلات والملصقات والخرائط، وأقراص DVD مرخصة، لنقلها إلى السجون داخل العاصمة وخارجها. في طهران يعمل نحو 50 شخصاً معه، ساهموا في عملية نقل نحو 50 ألف كتاب إلى السجون

لكن العلاقات مع الأجانب في إيران تقع تحت مجهر المؤسسات الأمنية، ورويداً رويداً أصبح العمل مع couchsurfing مثيراً للشك، فهناك نظرة أمنية في إيران تفيد بأن السياح ما لم يسجلوا إقامتهم في مكان رسمي في البلاد، فمن الممكن أن يكونوا جواسيس. كما أن للجهات الأمنية نظرةً أخرى من زاوية ثقافية، تفيد بأن اختلاط الإيرانيين مع الأجانب يتيح للسكان المحليين فرصة مقارنة حياتهم بالثقافة الغربية والتأثر بها، ما لا تحبذه للإيرانيين.

على هذا المنوال، احتج الناشط المدني على الشكوك الأمنية إعلامياً، وطالب الجهات المعنية بعدم التدخل، فإكرام الضيف من شيم الإيرانيين، وهو حق من حقوق الإنسان. وبعد منع الناشطين المحليين من العمل في الشبكة الاجتماعية للمسافرين، وردّاً على احتجاجاته، وجّهت إليه المحكمة تهمة "الدعاية ضد النظام"، وأصدرت بحقه عقوبة السجن لعام واحد سنة 2019.

ترجمة كتاب وقراءة العشرات في 4 أشهر

"عندما دخلت السجن، ذهبت نحو المكتبة، فأنا كنت في العنبر 8 في سجن إيفين، وكانت فيه مكتبة تدار من قبل المعتقلين، أتردد عليها يومياً لكي أقرأ كتباً أو أترجم كتاب حياة (المناضل الأمريكي من أصل أفريقي) مارتن لوثر كينغ"؛ حسب قوله.

حضوره المستمر في المكتبة تزامن مع نفي مسؤول المكتبة، وهو سجين أيضاً، إلى سجن آخر، مما جعل المعنيين هناك ينصبون المترجم المسجون مسؤولاً عن المكتبة، وهناك أنهى ترجمة الكتاب الذي وجد نسخته الأصلية، زيادةً على مطالعة الكثير من الكتب.

كانت للرجل خلفية علمية، فحينما كان منشغلاً بعمله التطوعي في موقع "كاوتش سيرفينغ"، عمل مترجماً ومدققاً للنسخ الفارسية من كتب "تطور الإنسان" (Human evolution)، في إحدى دور النشر الإيرانية المهتمة بالموضوع.

"فكرت أن أمارس مهنةً أكسب منها نمواً لنفسي أولاً، فوجدت ضالّتي في ترجمة كتب تطور الإنسان، وكان ذلك اختصاصي. فترويج العلم أكثر فائدةً من الفلسفة"؛ هكذا قال رضا معمار الذي أسهم في نهضة علمية من خلال ترجمة عدد من الكتب المهمة، وتدقيق ترجمة زملائه لكتب حول نظرية تطور الإنسان.

لم يبقِ الناشط في "كاوتش سيرفينغ"، سوى 4 أشهر ونصف الشهر في السجن، وذلك بسبب تفشي جائحة كورونا في البلاد، حيث أطلقت السلطة القضائية سراح مسجونين كثرٍ وقتذاك، فغادر السجن وفي جعبته ترجمة كتاب لا بد أن يذهب إلى المطبعة، وقراءة الكثير من الكتب.

حملة إهداء الكتب للمعتقلين

حينها فكّر في إرسال كتب إلى أصدقائه المسجونين، لتكون اللبنة الأساسية لمشوار تطوعي واسع على صعيد البلاد ما زال مستمراً منذ عام 2020.

"في البداية حاول صديقي المسجون في سجن طهران الكبير، وهو مبنى حديث الإنشاء ويفتقر إلى جميع المرافق، إقناع المسؤولين هناك وكسب موافقتهم كي يدشّن مكتبةً هناك من خلال الكتب المهداة مني ومن أصدقائي". هذه كانت أولى الخطوات كما يصفها رضا معمار، قبل أن تتحول إلى حملة تطوعية لإهداء الكتب إلى السجون.

تعاني الكثير من السجون الإيرانية من وجود مكتبات وكتب غير ذات قيمة نافعة، لذا جاء قراره ليركز على جمع التبرع بالكتب المستخدمة وغير اللازمة من المواطنين، وخاصةً دور النشر لإرسالها إلى السجون، بعد جهود حثيثة لكسب موافقة المعنيين في المؤسسة المعنية.

يقول رضا معمار: "شيئاً فشيئاً بدأ السجناء والسجينات، يتصلون بي ويقدّمون طلباتهم من الكتب. وهذا الأمر جعلني أعلن رسمياً عن الأمر لجمع الكتب المطلوبة. كما تواصلت مع دور النشر كي يهدوا كتبهم إلى السجون. وبما أنني كنت أسافر كثيراً داخل إيران، استطعت أن أجمع بعض المتطوعين من أصدقائي ليجمعوا الكتب ويرسلوها إلى السجون هناك".

شبكة المتطوعين تجمع 60 ألف كتاب

بنى هذا الكاتب والناشط شبكةً من المتطوعين لجمع الكتب والمجلات والملصقات والخرائط، وأقراص DVD مرخصة، لنقلها إلى السجون داخل العاصمة وخارجها. وفي طهران يعمل نحو 50 شخصاً مع رضا معمار، ساهموا في عملية نقل نحو 50 ألف كتاب إلى السجون، وفي المدن الأخرى استطاعت الحملة التطوعية جمع نحو 10 آلاف كتاب.

وعن غاية الحملة شرح المترجم الإيراني: "معظم المعتقلين ينشغلون بمشاهدة التلفاز أو يدردشون مع بعضهم بعضاً، وأحياناً يمارسون الرياضة وفي سجون أخرى يمكن لهم أن يطبخوا الطعام. قراءة الكتب لم تكن عادةً روتينيةً، لكل قارئو الكتب في السجون هم السجناء السياسيون. أنا لم أبحث عن تحويل كل السجناء إلى قرّاء، بل أبحث عن إتاحة كتب مفيدة أكثر للقرّاء منهم. كما أنني شاهدت سجناء غير مهتمين بالكتب، انجذبوا نحوها شيئاً فشيئاً بعد أن رأوا زملاءهم یطالعونها".

خلال ثلاث سنوات ونصف السنة، جهّز معمار 30 سجناً في عموم البلاد بالكتب، وأنشأ في كلًّ منها مكتبةً خاصةً حسب تأكيده. وهنا استفاد الناشط المدني، من علاقاته الدولية التي بناها مع السياح الأجانب في شبكة "كاوتش سيرفينغ"، فوصلته كتب بلغات عدة من خارج البلاد.

يتلقى من داخل السجون اتصالات على الدوام، تثني على جهوده التثقيفية وتعبّر عن فرحة السجناء بالكتب الجديدة، كما يستمر مشروعه التطوعي في جمع الكتب من نحو 180 مدينةً إيرانيةً، "لجمعية المتطوعين في طهران، اجتماعات شهرية حيث نقوم بترميم الكتب وتغليفها. الكِتاب في السجن يخلق المعجزات، وأينما وُجد الكتاب فهناك توجد الجنة"، يضيف.

رحلة "خليج السلام"

في أثناء نشاطه في موقع couchsurfing، بدأ رضا بمشروع اجتماعي آخر لمواجهة العنصرية في البلاد. رأى المترجم الإيراني أن الروح القومية المتطرفة والاستعلاء تتزايد في عموم البلاد، خاصةً حينما يتعلق الأمر بموضوع تسمية الخليج، إذ يصرّ الإيرانيون على "Persian Gulf"، وفي المقابل تطلق بعض الدول المطلة على الخليج تسمية "The Arabian Gulf"، لذا راح ينادي بأن يصير اسمه "خليج السلام" (Peace Gulf).

أطلق على رحلاته شعار "من بحر الصداقة [قزوين] إلى خليج السلام"، فجاب الكثير من المدن الإيرانية من الشمال إلى الجنوب، حاملاً ملصقات ولافتات تحمل شعاره، وبقي يحدّث أبناء بلده ويحاورهم حول أهمية السلام وترك النظرة القومية المتطرفة

وبما أنه كثير السفر داخل البلاد، أطلق على رحلاته شعار "من بحر الصداقة [قزوين] إلى خليج السلام"، فجاب الكثير من المدن الإيرانية من الشمال إلى الجنوب، حاملاً ملصقات ولافتات تحمل شعاره وبقي يحدّث أبناء بلده ويحاورهم حول أهمية السلام وترك النظرة القومية المتطرفة.

كانت رحلات رضا مختلفةً، فأحياناً كانت تتم عبر الدراجة الهوائية وأحياناً أخرى عبر "الأوتوستوب"، أو بالحافلات أو السيارات الشخصية. كما أنه قطع مسافات طويلةً في أفغانستان لنحو شهر كامل، واستكمل رحلته في العراق أيضاً في سبيل أهدافه.

أبو العلاء المعري يجوب مدن إيران

نظم رضا معمار في رحلاته اجتماعاتٍ شعريةً لسكان المدن التي يزورها، ليقرأ على مسامعهم ترجمة أشعار أبي العلاء المعري إلى الفارسية، وأبيات للشاعر الإيراني عمر الخيام، بهدف نشر السلام وقيم الإنسانية.

كما قام بتدريس الإنكليزية والعربية مجاناً للطلاب الأفغان اللاجئين في العاصمة طهران. ويعرّف بنفسه على حساباته التي تحمل اسم @peacegulf على إنستغرام وتلغرام وفيسبوك: "أنا فارسي اللغة، تركي وكردي وعربي، من إنتاجات نظرية داروين للتطور، وجذوري تعود إلى إفريقيا". وهو اليوم مدير قسم دراسات تطور الإنسان في دار نشر "كَركَدن" الإيرانية.

يعدّ نفسه ناشطاً مهتماً بترويج العلم والسلام، ويشرح: "أنا مدقق علمي لكتب متعددة في حقل تطور الإنسان. هدفي الإسهام في نشر نحو 100 كتاب علمي على الأقل في هذا المجال. التطور والتفكير العلمي غيّرا نظرتي إلى الحياة والعالم، وهما كانا السبب في تحولي من شخص تقليدي إلى شخص يفكر وفق الحداثة... أشعر بأن واجبي هو أن أروّج للعلم والفكر الحديث من خلال الكتب".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

تنوّع منطقتنا مُدهش

لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات "الاستشراق" والافتتان الغربي.

للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.

Website by WhiteBeard
Popup Image