شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
من السرير إلى المياه المالحة

من السرير إلى المياه المالحة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الجمعة 5 مايو 202311:35 ص

لم أعد أتـذكر مَن مِنَ الكُتّاب قال ذات مرّة: إنَّ أنضج الناس فكريّاً مَن مرّ يوماً بمرحلة "المراهقة الماركسيّة".

ويحلو لي أن أضيف عليه في هذا السياق: والأنضج بالطّبع مَن مرّ بها أثناء مراهقته "البيولوجيّة".

فبالعودة إلى ثقافة الأشجار ذات الصلة، وبخبرتي المديدة "كمُربّي أشجار فاضل"، وجدت أنّ أعلى الأشجار شأناً وأطيبها ثمراً هي تلك الأشجار الناشئة اليافعة، والتي تُعطيك في سنٍّ مُبكِّرٍ.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، ستجد أنّ شجرة "الخوخ" يمكن لها أن تمنحك فاكهة لذيذة دون الحاجة إلى أي نوع من المبيدات لحماية الثمرة من الحشرات الضّارّة، فيما قد لا تفعل ذلك شجرة مُعمّرة من عائلة اللّوزيّات ذاتها، كشجرة "الدراقن".

لم أنم يومها من شدّة فرحي، وبقي رأسي يعمل إلى الفجر في ما قد يحدث بيننا، وكنت قد استنفذت تماماً في مخيّلتي الملتهبة كافّةَ الوضعيات الممكنة لمغامرتي المرتقبة؛ من السرير وإلى السرير. من المياه المالحة وإلى المياه المالحة

هذا في ما يخصّ عموم الأشجار، أمّا في ما يخصّني أنا ذات يوم، كان كالتالي:

- رفيق.. هل تمارس العادة السرّيّة؟

- آه؟ أي... لا لا... أبداً!

- رفيق لا تخجل... الأمر طبيعي جدّاً، كل الذين في عمرك يمارسون العادة السرّيّة!

- حسناً حسناً، أنا أمارسها أحياناً. لن أخجل!

ثمّ ألقى عليّ الرفيق الأوّل محاضرة طويلة عن العادة السرّيّة، وأنا أتندّى عرقاً كشجرةٍ ناتحة خجولة، وبحضور الرفيق صديقي "أستاذ الصناعة" الذي اصطحبني معه إليه، فيما كانت زوجة الرفيق الأوّل جالسة قبالتنا على كنبة قريبة، بطريقةٍ مائلة، مُرتديةً بيجامتها الرّقيقة، واضعة قدماً على الأرض في المشّاية، وأخرى حافية على الحائط المقابل، غير مكترثة البتّة بموضوع المحاضرة. وكنت ألمح بطرف عينيّ المُطرقتين إلى الأرض، عينيْ صديقي "أستاذ الصناعة" الثعلبيّتين، وهما بالكاد تَنحرفان للحظة شمالاً، إلّا لتعودا وتستقرّا يميناً على فَرْجٍ كبيرٍ حقّاً، كانَ بارزاً بوضوحٍ كاملٍ، من تحت طيّات البيجامة.

أنضج الناس فكريّاً مَن مرّ يوماً بمرحلة "المراهقة الماركسيّة".

تخلّلت المحاضرة قبل الانتقال إلى بعض الأسئلة عن اهتماماتي الثقافيّة، شكواه الحادّة من شقيقه الأصغر، المراهق هو الآخر، والذي كان يسكن معه في البيت، والتي كانت بقايا نطافه مُبعثرة هنا وهناك، على حيطان وبلاط الحمّام، ثمّ ختم المحاضرة قائلاً بنبرة انفعاليّة واضحة:

- قلت له ألف مرّة إن كنت تريد أن تمارس العادة السرّيّة مارسها، لكن استحِ قليلاً... ولا تلوّث تلك الحيطان بعد الآن!

__ __ __

كانت هذه هي المرّة الأولى التي ألتحق فيها بتنظيم ماركسي، كنت وقتذاك طالباً راسباً للسنة الثانية على التوالي في الصفّ الثالث الإعدادي وهي سنٌّ مُبكِّرة جدّاً لا يمكن القبول معها بعضويّة مراهق من قبل تنظيم سرّي يحترم نفسه. لكن لفشلي وقتذاك في الانضمام إلى "المكتب السياسي" لكوني صغير السن، لم يكن لي الخيار سوى الاتّجاه إلى حزب آخر، وهو بدوره أحد الانشقاقات عنه، أو هكذا كان يحلو للرفيق أن يدّعي، وهو حزب عائلي صغير جدّاً بالكاد يُلحظ إلّا للتندّر والسخرية، لدرجة أنّهم أي "جماعة المكتب" أطلقوا عليه اسم "حزب الزبّالوجيا".

وهو بالطبع مثل غيره، كان لديه دفتر أعمال سياسيّة حالمة، بالإضافة إلى دفاتره الخاصّة به في "التحرّر الجنسي" انطلاقاً من أعمال "نوال السعداوي" الفكريّة والأدبيّة، والتي أُلزِمت بقراءة بعضها، وكم كانت دهشتي كبيرة عندما اكتشفت براءتها الكاملة منه، لكن على الأقلّ كانت قراءتها ممتعة وأسهل بما لا يُقاس من قراءتي لـ"الديالكتيك" و"الماديّة التاريخيّة" التي أُلزمتُ بها بعد سنوات من ذلك، عندما التحقت بحزب ماركسي آخر، وتركته هو الآخر بعد بضعة أشهر، لأسباب مختلفة كلّيّاً في الشكل، وربّما هي ذاتها في المضمون.

__ __ __

مالت عليّ بلطف شديد وقالت:

- رفيق... هل تذهب معي إلى البحر؟

- أنا؟ بالتأكيد، أين المشكلة؟

- لكن ليومٍ واحد فقط، أنا أحب السباحة ليلاً، وأخاف أن أبقى لوحدي في الشاليه!

- لا توجد مشكله... سأذهب معكِ إلى الشاليه.

- لكن لا أريد لأحد من الرفاق أن يعلم بذلك!

- لن يعلم أحد بذلك.

- إذاً أراك غداً عند السابعة مساءً في كراج الشاطئ.

- اتّفقنا!

ثمّ صمتنا بعدها لرؤيتنا لرأس الرّفيق الأوّل يطل من المدخل، يتبعه صديقي "أستاذ الصناعة" كظلّه، وبعض الرفاق والرفيقات.

كانت هذه هي المرّة الرابعة التي ألتقي بها في بيت الرّفيق، وهي طالبة جامعيّة تدرس في إحدى الدول الاشتراكيّة الصديقة. كانت جميلة حقّاً، وشعرت بجاذبيّة طاغية نحوها من اللّحظة الأولى التي رأيتها.

لكنّها كانت تكبرني بأكثر من عشر سنوات، كان من الواضح أنّ هناك ثغرة كبيرة بيننا في ما يخصّ هذا الأمر، وقد بدا لي يومها أنّ صديقي "أستاذ الصناعة" هو الأوفر حظّاً في أن يسد هذه الثغرة.

لم أنم يومها من شدّة فرحي، وبقي رأسي يعمل إلى الفجر في ما قد يحدث بيننا، وكنت قد استنفذت تماماً في مخيّلتي الملتهبة كافّةَ الوضعيات الممكنة لمغامرتي المرتقبة؛ من السرير وإلى السرير. من المياه المالحة وإلى المياه المالحة.

وهذا ما حدث بالفعل غير بعيد عن مخيّلتي تِلك، ولسبع مرّات متتالية، إلى الصباح الذي يليه، لدرجة أنّه في المرّة الأخيرة لم يعد ينقط أبداً.

قال لي:
سافرت البارحة إلى تشيكوسلوفاكيا.
بعدها لم أحضر أي اجتماع بالطبع، ولِمَ عليَّ أن أحضر أصلاً؟!
وتركت الحزب إلى غير رجعة

بعد ذلك بيومين التقيت صديقي "أستاذ الصناعة" وكان مُقرّراً أن نذهب إلى الاجتماع سويّة بعد الظهر، سألته بلهفة شديدة:

هل ستحضر "لينا" إلى الاجتماع؟

قال لي:

سافرت البارحة إلى تشيكوسلوفاكيا.

بعدها لم أحضر أي اجتماع بالطبع، ولِمَ عليَّ أن أحضر أصلاً؟!

وتركت الحزب إلى غير رجعة.

__ __ __

بعد ما يقارب العشرين عاماً من تاريخه، وعندما كنت عائداً بـ"السرفيس" مع صديقتي من "وادي قنديل" بعد أسبوع كامل من السباحة في المياه المالحة، انتبهت فجأة إلى حديث رجلين يجلسان خلفنا مباشرة، أنصتُّ قليلاً إلى الحديث. نعم... هما بلا أدنى شكّ.

كان الرفيق الأوّل وصديقي القديم "أستاذ الصناعة" يتجادلان بشدّة حول مسألة الخلافة الإسلاميّة، ومؤامرة السقيفة التي حدثت، وأحقّيّة علي بن أبي طالب في الخلافة.

وأخذت أضحك في سرّي، ولم أتوقّف عن الضحك طوال الطريق إلى اللاذقيّة، بينما كان رأس صديقتي الغافي مُلقى على كتفي، ويزحط كلَّ فترة وجيزة، عند كل مطبّ في الطريق وعلى أثر هزات الضحك لا فرق، فأضطرّ لأن أُعدِّله لها، أو أُعدِّل من جلستي قليلاً بما يتناسب مع رأسها الجميل المُتعب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard